مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 501 ـ 510
(501)
عامّة فقال سبحانه :
    ( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى اَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ اَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ اِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة/8 ).
    هذا وقد دلّت ـ على تشريع هذا الجهاد ـ مضافاً إلى ما ذكر من الآيات ، أحاديث وروايات متضافرة نأتي ببعضها :
    قال الإمام علي ( عليه السلام ) :
    « الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه ...
    هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة ، وجنّته الوثيقة » (1).
    وقال الإمام أبوجعفر الباقر ( عليه السلام ) :
    « الجهاد الذي فضّله الله على الأعمال وفضّل عامله على العمال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة لأنّه ظهر به الدين ، وبه يدفع عن الدين » (2).
    إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.
    ثمّ إنّ من يجب جهادهم على نحو الدفاع ثلاث طوائف :
    1 ـ البغاة على الإمام من المسلمين ، كالخوارج الذين خرجوا على الإمام علي ( عليه السلام ) مثلاً.
    2 ـ أهل الذمّة ، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.
    3 ـ من ليس لهم كتاب إذا قاموا بمؤامرة ضد المسلمين.
1 ـ نهج البلاغة الخطبة 27.
2 ـ في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد ( الدفاعي و التحريري ) فقوله ( عليه السلام ) : لأنّه ظهر به الدين ، إشارة إلى الثاني ، و قوله ( عليه السلام ) : و به يدفع عن الدين ، إشارة إلى الأوّل.


(502)
    هذه هي لمحة خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي ودوافعه وخصائصه ، وأمّا معرفة مسائله وفروعه وأحكامه التفصيليّة فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصّلة (1).

الجهاد التحريري ( الإبتدائي )
    لقد شرع الإسلام ـ إلى جانب الجهاد الدفاعي ـ نوعاً آخر من الجهاد ، هو الجهاد الإبتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.
    وتتلخّص دوافع هذا النوع من الجهاد في اُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها ، تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المطوّلة المفصّلة لمعرفة بقيّة هذه الدوافع ، والأسباب.
     1 ـ تحرير البشريه من الشرك
    إنّ أهم دوافع الجهاد التحريري هو محاربة الوثنيّة والشرك ، وتحرير البشريّة من إتّخاذ أي معبود سوى الله.
    فالإسلام يأمر بعبادة الله وحده ، وينهي عن اتّخاذ أي معبود سواه.
    يقول الله سبحانه :
    ( وَلاَتَدْعُ مَعَ اللَّهِ اِلهاً آخَرَ لاَاِلهَ اِلاَّ هُوَ ) ( القصص/88 ).
    وهي حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة ولكن هذه الفطرة قد تنحرف وتحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات والدعايات وتضليل المضلّلين.
    وهنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها ، وتخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنيّة بكل وسيلة ممكنة.
1 ـ شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني ـ مع شروح هـ.

(503)
    وليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتّخاذ المعتقد الذي يريد ، لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.
    ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة للبشرية و إحياءً لها ، وإنقاذاً لشخصيّتها من ذلّ الخضوع تجاه الموجودات الحقيرة.
    و هذا أمر ضروري حتّى إذا لم يدرك البشر أهمّيته ، أو امتنع من قبوله تمشّياً معهواه.
    فلو أنّ وزارة الصحّة ـ مثلاً ـ أرادت تلقيح الناس باللقاح الصحّي ضد مرض داهم ، أو وباء قادم ، لزم على الجميع قبول هذا الأمر ، و لم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجّة أنّه حرّ لايجوز إكراهه على شيء.
    فلاتسمع منه هذه الحجّة ، و لايقبل منه هذا الرفض ، حفاظاً على الصحّة العامّة وصيانة للمجتمع من العدوى.
    و يعتبر هذا الإكراه و الإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له ، و لطفاً به لاظلماً وعدواناً.
    إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذل من الصنم الذي نحته بيديه ... و إلى ذلك يشير سبحانه ـ مستنكراً ـ : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟ ( الصافّات/95 ).
    ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب إنحطاط الفكر الإنساني و وقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود و الأغلال للفكر البشري ، تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي و التكامل ، و تحجز النفس الإنسانية من نموّ الفضائل و السجايا الخلقية الكريمة.
    هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان و الأصنام توجد اختلافاً و تحزّياً بين البشر ، وتفرّق وحدته ، و تمزّق صفّه إذ كل جماعة تتّخذ وثناً خاصّاً تعبده و تتمسّك به ، وتنفي سواه ، و في ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لايقل عن خطر الطاعون والوباء ، و في ذلك يقول اللّه حاكياً عن لسان يوسف :
    ( يَاصَاحِبَى السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُالوَاحِدُ القَهَّارُ ) ( يوسف/39 ).


(504)
    و لهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري ، و اقتلاعه من الجذور.
    و من هنا أقدم الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند فتحه « مكّة » على كسر الأصنام الموضوعة في البيت الحرام ، و أمر كل صاحب وثن أن يحطّم وثنه ، و كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة (1).
    نعم صحيح انّ للتبليغ و الدعوة أثراً لاينكر في إيقاظ الأفكار ، و فكّها من أسارها ، بيد أنّه أثر محدود لايعرفه إلاّ الزمر الواعية ، المثقّفة ، القادرة على إستيعاب التوجيهات و المواعظ.
    و لأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب بين المسلمين وأعدائهم أن يدعو الكفّار و الأعداء إلى الإسلام بالحكمة و الموعظة الحسنة ، ويبالغ في إيقاظهم و توعيتهم و دعوتهم و إتمام الحجّة عليهم.
    قال صاحب شرائع الإسلام :
    « و لايبدؤن إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام و يكون الداعي الإمام أو من نصّبه » (2).
    و قد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة منها ما ورد عن السكوني عن أبي عبد اللّه الصادق ( عليه السلام ) : قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    بعثني رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى اليمن فقال : يا علي لاتقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام ، واللّه لئن يهدينّ اللّه على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس و غربت ، و لك ولاؤه يا علي » (3).
    و عن علي ( عليه السلام ) أنّه قال :
1 ـ سيرة ابن هشام ج2 ص143.
2 ـ شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني.
3 ـ مستدرك الوسائل ج11 الباب9 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.


(505)
    « لايغزَ قوم حتّى يدعوا » (1).
    و عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً أنّه قال :
    « لاتقاتل الكفّار إلاّ بعد الدعاء » (2).
    و قد سئل الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عن كيفيّة الدعوة إلى الدين :
    فقال : تقول : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ـ أدعوك إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى دينه وجماعه أمران : أحدهما : معرفة اللّه عزّ و جلّ و الآخر : العمل برضوانه ، و إنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانية و الرأفة و الرحمة و العزّة ، و العلم و القدرة و العلوّ على كل شيء ، و انّه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لاتدركه الأبصار ، و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير ، و انّ محمداً عبده و رسوله ، و إنّ ما جاء به هو الحق من عند اللّه عزّو جلّ و ما سواه هو الباطل ».
    فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين ، و عليهم ما على المسلمين (3).
    و عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال :
    « أوّل حدود الجهاد الدعاء إلى طاعة اللّه من طاعة العباد ، و إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد » (4).
    بل ولو أنّ أحداً من المشركين إستأمن و أراد أن يسمع كلام اللّه اُعطي الأمان ، ثمّ اُعيد إلى مأمنه ، سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.
    قال اللّه سبحانه :
    ( وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
1 ـ مستدرك الوسائل ج11 الباب9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
2 ـ مستدرك الوسائل ج11 الباب9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
3 ـ وسائل الشيعة ج11 ص31 ، باب كيفية الدعاء إلى الإسلام من أبواب الجهاد.
4 ـ وسائل الشيعة ج11 ص7.


(506)
ذِلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَعْلَمُونَ ) ( التوبة/6 ).
    غير أنّ الدعوة و التبليغ ربّما تؤثّر في بعض الأشخاص و لاتؤثّر في آخرين ، خصوصاً إذا كان الدين يهدّد مصالحهم و مطامعهم و لذلك وجبت محاربتهم ... إذ لايكون الخير و الإصلاح حينئذ إلاّ بالسيف ، و منطق القوّة :
    و إلى هذا أشار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله :
    « الخير كلّه في السيف ، وتحت ظلال السيف ، ولايقيم الناس إلاّ السيف » (1).

فرض العقيدة ممنوع
    قد يتوهّم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي و أحكامه انّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.
    و لكن هذا ظنّ واضح البطلان معلوم الضعف لمن له معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.
    فإنّ الإسلام الذي يشجب و يستنكر على بعض الناس أتّباعهم لعقائد آبائهم وأجدادهم الباطلة ، كيف يجوّز لأتباعه أن يحملوا الناس على العقيدة الإسلامية دون أن يسمحوا لهم بأن يفكّروا و يحقّقوا و يفتّشوا عن المعتقد الحق ، ليعتنقوه بالبرهان والدليل ؟
    إنّ اعتناق العقيدة أي عقيدة يجب أن يكون حسب نظر الإسلام قائماً على أساس البحث و الفحص و التحقيق و مرتكزاً على البرهان و الدليل ، و لذلك فهو يقبح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم ، و تحقيق في صحّتها أو بطلانها إذ قال سبحانه :
    ( وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
1 ـ وسائل الشيعة ج11 ص5.

(507)
عَلَى اُمَّة ( أي طريقة ) وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا اُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) ( الزخرف/23 ـ 25 ).
    و قال سبحانه :
    ( وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَيَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَيَهْتَدُونَ ) ( البقرة/170 ).
    و بتعبير آخر : إنّ الإسلام ذمّ التقليد في الاُصول و العقائد و الجري على سنن الآباء و الأجداد بلاتأمّل و لاتدبّر ، و طالب بالتفكّر و التعقّل فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوّة النار و الحديد.
    كيف وقد صرّح بحرية الإعتقاد بقوله سبحانه :
    ( لاَ اِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ ) ( البقرة/256 ).
    إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الإختلاف الفكري ، والتنافس الأيديولوجي أمر غريزي طبيعي ، ولذلك فهو باق إلى يوم القيامة ولا يمكن إزالته من رأس ، ولا يصحّ إلغاؤه بالمرّة.
    قال سبحانه :
    ( وَلَوْشَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود/118 ).
    إنّ القرآن الكريم ينهي الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس لأنّ الله شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك وهو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ والدعوّة يجب أن نسير على ضوئه ، فيقول :
    ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاََمَنَ مَنْ فِى الاَرْضِ كُلُّهُم جَمِيعاً اَفَاَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس/99 ).


(508)
    إذن فلم يكن الجهاد التحريري في مجال ( تحرير البشرية من الشرك ) بفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرّة ، بل هناك دواع وعلل للجهاد التحريري وهي التي نتلوها عليك.

2 ـ كسر الموانع المفروضة على الشعوب
    إنّ هناك داعياً آخر لتشريع عنوان الجهاد التحريري وهو وضع الاغلاق المفروضة على الشعوب ، وإسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس وتقيم سدوداً بينهم وبين العقيدة الحقّة وتسلب حريّاتهم ، وتكرههم على اتّخاذ عقيدة خاصّة ، والمشي على حسب منهج خاص وإن كانوا لا يرتضونه.
    وبهذا يكون الجهاد التحريري لرفع الموانع والحواجز المانعة عن وصول العقيدة الحقّة إلى الناس ، وتحرير هم من تلك القيود حتى يمكنهم اختيار الدين الإسلامي بعد الاطّلاع على محاسنه ، وتبليغ معالمه إليهم.
     3 ـ تخليص المستضعفين من الظالمين :
    إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري هو إنقاذ الشعوب من اضطهاد الحكّام الجائرين ، واستبدادهم وظلمهم.
    فهو إذن شرّع لتحرير المستضعفين وتخليصهم من عسف الحكّام ، وكبتهم ، وحيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ باستخدام القوّة وحمل السلاح والمقاتلة والغزو إتّخذ الإسلام طريق الجهاد ، فقال القرآن الكريم :
    ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ اَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) ( النساء/75 ).


(509)
    وقدوردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات بعض المسلمين الذين خرجوا لفتح البلاد وإنقاذ المستضعفين من حكّامهم الجائرين قال انّ سعد بن أبي وقاص أرسل ربعي بن عامر ليكلّم قائد القوات الفارسية فلمّا دنا من « رستم » جلس على الارض وركّز رمحه على البسط فقال له : ما حملك على هذا ؟ قال : إنّا لانستحب القعود على زينتكم ، فقال له ترجمان رستم واسمه « عبود » من أهل الحيرة : ما جاء بكم ؟ قال : الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه الى خلقه ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر (1).
    إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لفرض الاستيلاء على الأ راضي ، أو بهدف السيطرة على منابع الثروة ، أو استعمار الشعوب كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي والحاضر.
    كما أنّ الإسلام ينهي عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية ، والقضايا الفردية ، التي لا تنطوي على مصلحة الإسلام والمسلمين الكلّية ... ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :
    ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم اَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ اَنْ تَعْتَدُوا ) ( المائدة/2 ).
    وبما أنّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة ، وظرفية ، لا يعرفها إلاّ الإمام العادل العارف بالدين ، والعالم بالظروف لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلاّ بقيادة ( إمام معصوم ) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية والزمنية ، نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصّل ، فلاحظ الكتب الفقهية.
1 ـ الكامل لابن الأثير ج2 ص320 حوادث عام 14 من الهجرة النبوية.

(510)
    وإلى هذا أشار الإمام الصادق ( عليه السلام ) بقوله :
    « والجهاد واجب مع إمام عادل » (1).
    نعم هناك كلمة أخيرة على هامش كلا الجهادين وهي :
    إنّه يجب على الدولة الإسلامية ـ قبل نشوب أيّة حرب ـ إعداد المسلمين وتجهيزهم بكل ما تستطيع من أنواع القّوة الحربية في كل زمان بحسبه ، على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو ، وإخافته من عاقبة التعدّي على بلاد الاُمَّة الإسلامية أو مصالحها ، أو على أفراد منها ، أو متاع لها حتى في غير بلادها ، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها مطمئنّة على أهلها و مصالحها وأموالها ، ولكي تحظى بالإحترام اللائق بها في الساحة الدولية ، إذ يقول القرآن الكريم :
    ( وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال/60 ).
    ويبقى أن نقول : إنّ القتال والنضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً وإنّما يصطبغ بالحسن أو القبح بالغايات المحدّدة للقتال والنضال.
    فلو كان القتال والنضال بهدف الاعتداء والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال والحرمات فيكون القتال أمراً منكراً ، ويعد وحشيّة همجيّة ، ويكون المباشرله حيواناً ضارياً تلبّس بالإنسانية.
    وإذا كان القتال لحفظ الشرف والإنسانية ومنع المعتدين عن الإعتداء ، وغير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً ، فلايكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.
    هذه دراسة عابرة عن الجهاد التحريري حقيقة وأهدافاً وفلسفة ، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المفصّلة.
1 ـ وسائل الشيعة ج11 ص35.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس