كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 1 ـ 10
الغدير
في الكِتابِ والسُنَّتهِ وَ الأدَبِ
كتاب ديني ، علمي ، فني ، تاريخي ، أدبى ، أخلاقي
مبتكر في موضوعه فريد في بابه يبحث فيه عن حديث الغدير.
كتابا وسنة وأدباً ويتضمن تراجم أمة كبيرة من رجالات العلم
والدين والأدب من الذين نظموا هذه الأثارة من العلم
وغيرهم
تأليفُ
الحِبر العَلَم الحُجَّةُ المُجاهِد شَيخُنا الاكبَرُ
الشيخ عبدالحسين احمَد الامينى النجفى قدّسِ سرّه
الجُزءُ الأوّلُ


(1)
الإهدآء
    لم أجد أحداً أولى بإهداء كتابى هذا إليه من صاحبه حامل عب الولاية الكبرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه يا صاحب الولاية ؟ وسيّد الاُمَّة ؟ وأبا الائمّة ؟
    يا أيُّها العَزيزُ مَسَّنَا وأَهلَنا اَلضُرُ وَجِئنَا بِبِضاعَة مزجاة فَاَوفِ لَنَا الكَيلَ وَتَصدَّق عَلَينا إنَّ اللهَ بجزي المُتَصَدّقينَ اُهديك كتابى هذا وهو : بضاعتى المزجاة وصحايف ولائى الخالص ، فتفضل علىَّ بالقبول ، وأحسن إلى إنَّ الله يُحبّ المحسنين
عبد الحسين احمد
الأمينى


(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
ألحمد لوليّه ، والصلوة على نبيّه ، وآله الائمة ، وأولياء الاُمَّة
هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيكُم بالحَقّ
    حديث النبأ العظيم في ( غدير خمّ ) حديث الدعوة الآلهيّة ، حديث الولاية الكبرى ، حديث إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الربّ ، على مانزل به كتاب الله المبين ، وتواترت به السنَّة النبويّة ، وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى اليوم الحاضر ، وما حوله من حقايق ناصعة تتعلّق بالمتن أولإسناد ، وإرحاض ماهناك من جبلة وتركاض ، حتى يتجلّى للقاري الحقّ الصراح بأجلى مظاهره.
    وجلّ قصدنا من إرداف ذلك بتراجم شعراء الغدير وشعرهم فيه على ترتيب القرون الهجريّة إثبات شهرة الحديث و تواتره في كلّ جيل ، وانَّه من أظهر ما تلو كه الأَشداق نظماً ونثراً ، وتأتي هذه كلها في ستَّة عشر جزءاً.
    وإنّا نعدّ ذلك كله خدمةً للدين ، وإعلاءً لكلمة الحق ، وإحياءً الاُمَّة الأسلامية ، و إشادةً بالذكر العلويّ الخالد ، وولاءً لصاحب الولاية ، وأستمدُّ من المولى سبحانه أن يمدَّني بانجازما اُعدّه ، وتحقيق ما أضمره ، وله الحمد أوّلاً وآخراً.
الأمينى

(3)
التاريخ الصحيح
    لا يكون انبعاث أية فرقة من الفرق إلى تدوين التاريخ ، أقل من انبعاث أخواتها إليه ، فكل يتحرى منه غاية ، ويرمي إلى غرض يخصه ، فإن كان المؤرخ يريد به الحيطة بحوادث الدهر ، والوقوف على أحوال الأجيال الغابرة ، فالجغرافي يطلبه لتحقيق القسم السياسي به لاختلافه بتغلبات الدول ، وانعكاف أمم على خطط معينة وانثيال أمم عنها وإن انبعث الخطيب إلى سبر غور التاريخ لما فيه من عبر وعظات بالغة في تدهور الأحوال ، وفناء الأجيال وهلاك ملوك ، واستخلاف آخرين ، وما انتاب أقواما من جراء ما اجترحوه من السيئات ، وما فاز به آخرون بما جاؤا به من صالح الأعمال ، فالديني يبتغيه للوقوف على ما وطد به اسس المعتقد ، وعلى عليها صروحه وعلاليه ، وإفرازه عما كان حوله من لعب الأهواء وتركاض أهل المطامع.
    وإذا كان الأخلاقي يقصد به التجاريب الصالحة في ملكات النفوس التي تحلى بالصحيحة منها فرق من الناس فأفلحوا ، وتردى بالرديئة منها آخرون فخابوا ، فيستنتج من ذلك دستورا عاما للمجتمع ليعمل به متى راقه أن يأخذ حذرا عن سقوط الفرد أو ملاشاة الجامعة ، فالسياسي يريد به الوقوف على مناهج الأمم التي تقدم بها الغابرون ، ومساقط الشهوات التي أسفت بمعتنقيها إلى هوة البوار والضعة فغادرتهم كحديث أمس الدابر ، ويريد به البصيرة فيما سلفت به التجاريب الصحيحة في المضائق والمآزق الحرجة ، و افتراع عقبات كأداء ، فيتخذ من ذلك كله برنامجا صالحا لرقي أمته ، وتقدم بيئته.
    والأديب يقتنص شوارد التاريخ ، لأن ما يتحراه من تنسيق لفظه ، وفخامة معناه ، وما يجب أن يكون في شعره أو نثره من محسنات الأسلوب ، ومقربات المغزى بإشارة أو استعارة ، منوط بالاطلاع على أحوال الأمم والوقوف على ما قصدوه من دقائق ورقائق.
    وإذا عممنا التاريخ على مثل علم الرجال والطبقات ، فحاجة الفقيه إليه مسيسة في تصحيح الأسانيد ، وإتقان مدارك الفتاوى ، وبه يظهر افتقار المحدث إليه في مزيد الوثوق برواياته ، على أن لفن الحديث مواضيع متداخلة مع التاريخ كما يروى من قصص الأنبياء وتحليل تعاليمهم ، حيث يجب على المحدث المحاكمة بين ما يتلقاه ! و


(4)
ما يسرده التاريخ ! أو التطبيق بينهما إن جاءا متفقين في بيان الحقيقة.
    والمفسر لا منتدح له من التوغل في التاريخ عند ما يقف على آيات كريمة توعز إلى قصص الماضين وأحوالهم ، لضرب من الحكمة ، ونوع من العظة ، وعلى آيات أخرى نزلت في شئون خاصة ، يفصلها التاريخ تفصيلا ، والباحث إذا دقق النظرة في أي علم يجد أن له مسيسا بالتاريخ لا يتم لصاحبه غايته المتوخاة إلا به.
    فالتاريخ إذا ضالة العالم ، وطلبة المتفنن ، وبغية الباحث ، وأمنية أهل الدين ومقصد الساسة ، وغرض الأديب ، والقول الفصل : إنه مأرب المجتمع البشري أجمع وهو التاريخ الصحيح الذي لم يقصد به إلا ضبط الحقايق على ما هي عليه ، فلم تعبث به أغراض مستهدفة ، ولم يعث فيه نزعات أهوائية ككثير مما ألف من زبر التاريخ التي روعي في جملة منها جلب مرضاة القادة والأمراء ، أو تدعيم مبدأ ، أو فكر مفكر ، أو أريد به التحليق بأشخاص معلومين إلى أوج العظمة ، والاسفاف بآخرين إلى هوة الضعة ، لمغاز هنالك تختلف باختلاف الظروف والأحوال ، أو إختلط فيه الحابل بالنابل ، بتوسع المؤلفين لما حسبوه من أن الإحاطة بكل ما قيل توسع في العلم ، وإحسان في السمعة ، ذهولا منهم عن أن مقادير الرجال بالدراية لا بالرواية (1) فأدخلوا في التاريخ هفوات لا تحصى ، غير شاعرين بأن رواة تلك السفاسف زبائن عصبة ، وحناق على عصبة ، أو أنهم قصاصون غير مكترثين من الاكثار في النقل الخرافي أو الافتعال ، إكبارا للسمعة ، أو نزولا على حكم النهمة ، فتلقتها عنهم السذج في العصور المتأخرة كحقايق راهنة ، وتنبه لها المنقب فوجدها أحاديث خرافية فرفضها ، غير مبال بالطعن على التاريخ ، فلا شعر أولئك أنها وليدة تقاليد أو مطامع ، ولا عرف هذا أن الآفة عن ورطات القالة ، وسوء صنيع
1 ـ في كتاب زيد الزراد عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : قال أبو جعفر عليه السلام : يا بني أعرف منازل شيعة علي على قدر روايتهم ومعرفتهم فإن المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجة الإيمان ، إني نظرت في كتاب لعلي (ع) فوجدت فيه : إن زنة كل امرئ وقدره معرفته ، إن الله يحاسب العباد على قدر ما أتاهم من العقول. وفي غيبة النعماني ص 70 في حديث عن الإمام الصادق (ع) خبر تدريه خير من عشر ترويه إن لكل حق حقيقة ، ولكل صواب نورا. و في كشف الغمة للشعراني ج 1 ص 40 : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : كونوا للعلم وعاة ، ولا تكونوا له رواة.

(5)
الكتبة ، لا في أصل الفن ، ولو ذهبنا إلى ذكر الشواهد لهذه كلها لخرج الكتاب عن وضعه ، هكذا خفيت الحقيقة بين مفرط ومفرط ، وذهبت ضحية الميول والشهوات.
    فواجب الباحث أن يسبر هذا الغور ، متجردا عن النعرات الطائفية ، غير متحيز إلى فئة ، متزحزحا عن عوامل الحب والبغض ، ونصب عينيه مقياس من أصول مسلمة ، يقابل به صفحة التاريخ ، فإن طالته أو قصرت عنه رفضها ، وإن قابلته مقابلة المثل بالمثل اعتمد عليها ، على تفصيل لا يسعه نطاق البحث هيهنا.

أهمية الغدير في التاريخ
    لا يستريب أي ذي مسكة في أن شرف الشيء بشرف غايته ، فعليه إن أول ما تكسبه الغايات أهمية كبرى من مواضيع التاريخ هو ما اسس عليه دين ، أو جرت به نحلة ، واعتلت عليه دعايم مذهب ، فدانت به أمم ، وقامت به دول ، وجرى به ذكر مع الأبد ، ولذلك تجد أئمة التاريخ يتهالكون في ضبط مبادئ الأديان وتعاليمها ، وتقييد ما يتبعها من دعايات ، وحروب ، وحكومات ، وولايات التي عليها نسلت الحقب والأعوام ، و مضت القرون الخالية ( سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا ) وإذا أهمل المؤرخ شيئاً من ذلك فقد أوجد في صحيفته فراغا لا تسده أية مهمة ، وجاء فيها بأمر خداج ، بتر أوله ، ولا يعلم مبدءه ، وعسى أن يوجب ذلك جهلا للقارئ في مصير الأمر ومنتهاه.
    إن واقعة ( غدير خم ) هي من أهم تلك القضايا ، لما ابتنى عليها وعلى كثير من الحجج الدامغة ، مذهب المقتصين أثر آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم ، وهم معدودون بالملايين ، وفيهم العلم والسؤدد ، والحكماء ، والعلماء ، والأماثل ، ونوابغ في علوم الأوايل والأواخر ، والملوك ، والساسة ، والأمراء ، والقادة ، والأدب الجم ، والفضل الكثار ، وكتب قيمة في كل فن ، فإن يكن المؤرخ منهم فمن واجبه أن يفيض على أمته نبأ بدء دعوته ، وإن يكن من غيرهم فلا يعدوه أن يذكرها بسيطة عندما يسرد تاريخ أمة كبيرة كهذه ، أو يشفعها بما يرتئيه حول القضية من غميزة في الدلالة ، إن كان مزيج نفسه النزول على حكم العاطفة ، وما هنالك من نعرات طائفته ، على حين أنه لا يتسنى له


(6)
غمز في سندها ، فإن ما ناء به نبي الاسلام يوم الغدير من الدعوة إلى مفاد حديثه لم يختلف فيه اثنان ، وإن اختلفوا في مؤداه لأغراض وشوائب غير خافية على النابه البصير.
    فذكرها من أئمة المؤرخين البلاذري المتوفى سنة 279 في أنساب الأشراف ، و ابن قتيبة المتوفى 276 في المعارف ، والإمامة والسياسة ، والطبري المتوفى 310 في كتاب مفرد ، وابن زولاق الليثي المصري المتوفى 287 في تأليفه ، والخطيب البغدادي المتوفى 463 في تاريخه ، وابن عبد البر المتوفى 463 في الاستيعاب ، والشهرستاني المتوفى 548 في الملل والنحل ، وابن عساكر المتوفى 571 في تاريخه ، وياقوت الحموي في معجم الأدباء ج 18 ص 84 من الطبعة الأخيرة ، وابن الأثير المتوفى 630 في أسد الغابة ، وابن أبي الحديد المتوفى 656 في شرح نهج البلاغة ، وابن خلكان المتوفى 681 في تاريخه واليافعي المتوفى 768 في مرآة الجنان ، وابن الشيخ البلوي في ألف باء ، وابن كثير الشامي المتوفى 774 في البداية والنهاية ، وابن خلدون المتوفى 808 في مقدمة تاريخه ، وشمس الدين الذهبي في تذكرة الحفاظ ، والنويري المتوفى حدود 833 في نهاية الإرب في فنون الأدب ، وابن حجر العسقلاني المتوفى 852 في الإصابة وتهذيب التهذيب ، وابن الصباغ المالكي المتوفى 855 في الفصول المهمة ، والمقريزي المتوفى 845 في الخطط ، وجلال الدين السيوطي المتوفى 910 في غير واحد من كتبه ، والقرماني الدمشقي المتوفى 1019 في أخبار الدول ، ونور الدين الحلبي المتوفى 1044 في السيرة الحلبية ، وغيرهم.
     وهذا الشأن في علم التاريخ لا يقل عنه الشأن في فن الحديث ، فإن المحدث إلى أي شطر ولى وجهه من فضاء فنه الواسع ، يجد عنده صحاحا ومسانيد تثبت هذه المأثرة لولي أمر الدين عليه السلام ، ولم يزل الخلف يتلقاه من سلفه حتى ينتهي الدور إلى جيل الصحابة الوعاة للخبر ، ويجد لها مع تعاقب الطبقات بلجا ونورا يذهب بالأبصار ، فإن أغفل المحدث عما هذا شأنه ، فقد بخس للأمة حقا ، وحرمها عن الكثير الطيب مما أسدى إليها نبيها نبي الرحمة من بره الواسع ، وهدايته لها إلى الطريقة المثلى.
     فذكرها من أئمة الحديث : إمام الشافعية أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 كما في نهاية ابن الأثير ، وإمام الحنابلة أحمد بن حنبل المتوفى 241 في مسنده


(7)
ومناقبه ، وابن ماجة المتوفى 273 في سننه ، والترمذي المتوفى 276 في صحيحه ، والنسائي المتوفى 303 في الخصايص ، وأبو يعلى الموصلي المتوفى 307 في مسنده ، والبغوي المتوفى 317 في السنن ، والدولابي المتوفى 320 في الكنى والأسماء ، والطحاوي المتوفى 321 في مشكل الآثار ، والحاكم المتوفى 405 في المستدرك ، وابن المغازلي الشافعي المتوفى 483 في المناقب ، وابن مندة الاصبهاني المتوفى 512 بعدة طرق في تأليفه ، والخطيب الخوارزمي المتوفى 568 في المناقب ومقتل الإمام السبط عليه السلام ، والكنجي المتوفى 658 في كفاية الطالب ، ومحب الدين الطبري المتوفى 694 في الرياض النضرة ، وذخاير العقبى ، والحمويني المتوفى 722 في فرايد السمطين ، والهيثمي المتوفى 807 في مجمع الزوايد ، والذهبي المتوفى 748 في التلخيص ، والجزري المتوفى 830 في أسنى المطالب ، وأبو العباس القسطلاني المتوفى 923 في المواهب اللدنية ، والمتقي الهندي المتوفى 975 في كنز العمال ، والهروي القاري المتوفى 1014 في المرقاة في شرح المشكاة ، وتاج الدين المناوي المتوفى 1031 في كنوز الحقايق في حديث خير الخلايق. وفيض القدير ، والشيخاني القادري في الصراط السوي في مناقب آل النبي ، وباكثير المكي المتوفى 1047 في وسيلة الآمال في مناقب الآل ، وأبو عبد الله الزرقاني المالكي المتوفى 1122 في شرح المواهب ، وابن حمزة الدمشقي الحنفي في كتاب البيان والتعريف ، وغيرهم.
     كما أن المفسر نصب عينيه آي (1) من القرآن الكريم نازلة في هذه المسألة يرى من واجبه الافاضة بما جاء في نزولها وتفسيرها ، ولا يرضى لنفسه أن يكون عمله مبتورا ، وسعيه مخدجا ، فذكرها من أئمة التفسير الطبري المتوفى 310 في تفسيره ، والثعلبي المتوفى 427 / 437 في تفسيره ، والواحدي المتوفى 468 في أسباب النزول ، والقرطبي المتوفى 567 في تفسيره ، وأبو السعود في تفسيره ، والفخر الرازي المتوفى 606 في تفسيره الكبير ، وابن كثير الشامي المتوفى 774 في تفسيره ، والنيشابوري المتوفى
1 ـ كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا. في سورة المائدة وقوله فيها : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقوله في المعارج : سال سائل بعذاب واقع.

(8)
في القرن الثامن في تفسيره ، وجلال الدين السيوطي في تفسيره ، والخطيب الشربيني في تفسيره ، والآلوسي البغدادي المتوفى 1270 في تفسيره ، وغيرهم.
     والمتكلم حين يقيم البراهين في كل مسألة من مسائل علم الكلام ، إذا انتهى به السير إلى مسألة الإمامة فلا منتدح له من التعرض لحديث الغدير حجة على المدعي أو نقلا لحجة الخصم ، وإن أردفه بالمناقشة في الحساب عند الدلالة ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني البصري المتوفى سنة 403 في التمهيد ، والقاضي عبد الرحمن الإيجي الشافعي المتوفى 756 في المواقف ، والسيد الشريف الجرجاني المتوفى 816 في شرح المواقف ، والبيضاوي المتوفى 685 في طوالع الأنوار ، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنظار ، والتفتازاني المتوفى 792 في شرح المقاصد ، والقوشجي المولى علاء الدين المتوفى 879 في شرح التجريد. وهذا لفظهم.
     إن النبي صلى الله عليه وآله قد جمع الناس يوم غدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع ، وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ، وجمع الرجال ، وصعد عليها ، وقال مخاطبا : معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : أللهم بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، أللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله (1).
     ومن المتكلمين القاضي النجم محمد الشافعي المتوفى 876 في بديع المعاني ، وجلال الدين السيوطي في أربعينه ، ومفتي الشام حامد بن علي العمادي في الصلاة الفاخرة بالأحاديث المتواترة ، والآلوسي البغدادي المتوفى 1324 في نثر اللئالي ، وغيرهم.
     واللغوي لا يجد منتدحا من الايعاز إلى حديث الغدير عند إفاضة القول في معنى المولى أو الخم. أو الغدير. أو الولي. كابن دريد محمد بن الحسن المتوفى 321 في جمهرته ج 1 ص 71 (2) وابن الأثير في النهاية ، والحموي في معجم البلدان في خم ، والزبيدي الحنفي في تاج العروس ، والنبهاني في المجموعة النبهانية.
1 ـ ذكرنا لفظهم لكونه غير مسند بل ذكروه إرسال المسلم.
2 ـ قال : غدير خم معروف وهو الموضع الذي قام فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا بفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كذا في المطبوع من الجمهرة ، وقد حكى عنه ابن شهر آشوب وغيره في العصور المتقادمة من النسخ المخطوطة من الجمهرة ما نصه : هو الموضوع الذي نص النبي عليه السلام فيه على علي (ع) اهـ وقد حرفته يد الطبع الأمينة



(9)
واقعة الغدير
    أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله الخروج إلى الحج في سنة عشر من مهاجره ، وأذن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجته تلك التي يقال عليها حجة الوداع. وحجة الاسلام. وحجة البلاغ. وحجة الكمال. وحجة التمام (1) ولم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله ، فخرج صلى الله عليه وآله من المدينة مغتسلا متدهنا مترجلا متجردا في ثوبين صحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة ، وأخرج معه نساءه كلهن في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامة ـ المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس (2).
     وعند خروجه صلى الله عليه وآله أصاب الناس بالمدينة جدري ( بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما ) أو حصبة منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى الله عليه وآله ، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألف ، ويقال : مائة ألف و أربعة عشر ألفا ، وقيل : مائة ألف وعشرون ألفا ، وقيل : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، و يقال أكثر من ذلك ، وهذه عدة من خرج معه ، وأما الذين حجوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع علي ( أمير المؤمنين ) وأبي موسى (3).
     أصبح صلى الله عليه وآله يوم الأحد بيلملم ، ثم ارح فتعشى بشرف السيالة ، وصلى هناك المغرب والعشاء ، ثم صلى الصبح بعرق الظبية ، ثم نزل الروحاء ، ثم سار من الروحاء فصلى العصر بالمنصرف ، وصلى المغرب والعشاء بالمتعشى وتعشى به ، وصلى الصبح بالأثابة ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحى جمل وهو عقبة الجحفة ونزل السقياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلى هناك ثم راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ومنها إلى قديد وسبت فيه ، وكان يوم الأحد بعسفان ، ثم سار فلما كان بالغميم اعترض المشاة فصفوا
1 ـ الذي نظنه ( وظن الألمعي يقين ) إن الوجه في تسمية حجة الوداع بالبلاغ هو نزول قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، الآية كما إن الوجه في تسميتها بالتمام والكمال هو نزول قوله سبحانه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، الآية.
2 ـ الطبقات لابن سعد ج 3 ص 225 ، إمتاع المقريزي ص 510 ، إرشاد الساري ج 6 ص 429.
3 ـ السيرة الحلبية ج 3 ص 283 ، سيرة أحمد زيني دحلان ج 3 ص 3 ، تاريخ الخلفاء لابن الجوزي في الجزء الرابع ، تذكرة خواص الأمة ص 18 ، دائرة المعارف لفريد وجدي ج 3 ص 542.


(10)
صفوفا فشكوا إليه المشي ، فقال : استعينوا باليسلان مشي سريع دون العدو ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الاثنين بمر الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصل المغرب حتى دخل مكة ، ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء (1).
    فلما قضى مناسكه وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات و وصل إلى غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، و ذلك يوم الخميس (2) الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية. وأمره أن يقيم عليا علما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد ، وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقم ما تحتهن حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن ، وكان يوما هاجرا يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء ، وظلل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلما انصرف صلى الله عليه وآله من صلاته قام خطيبا وسط القوم (3) على أقتاب الإبل (4) وأسمع الجميع ، رافعا عقيرته فقال :
    الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل ، ولا مضل لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ـ أما بعد ـ : أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، وإني أوشك أن أدعى فأجبت ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا ، قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها
1 ـ الإمتاع للمقريزي ص 513 ـ 517.
2 ـ هو المنصوص عليه في لفظ البراء بن عازب وبعض آخر من رواة حديث الغدير وسيوافيك كلامنا فيه ص 41.
3 ـ جاء في لفظ الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 156 وغيره.
4 ـ ثمار القلوب ص 511 ومصادر أخر كما مرت ص 8.
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس