كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 261 ـ 270
(261)
تقبله الأرض.
    وفي الخصايص ج 1 ص 147 : أخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق أبي نوفل ابن أبي عقرب عن أبيه قال. أقبل لهب بن أبي لهب يسب النبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أللهم ؟ سلط عليه كلبك. قال وكان أبو لهب يحتمل البز إلى الشام ويبعث بولده مع غلمانه ووكلائه ويقول : إن ابني أخاف عليه دعوة محمد فتعاهدوه. فكانوا إذا نزلوا المنزل ألزقوه إلى الحائط وغطوا عليه الثياب والمتاع ففعلوا ذلك به زمانا فجاء سبع فتله فقتله.
    وأخرج البيهقي عن قتادة : إن عتبة (1) بن أبي لهب تسلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له : الزرقاء ليلا فأطاف بهم الأسد ـ فعدا ( أي : وثب ) عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فضغمه (2) ضغمة فذبحه.
    وأخرج البيهقي عن عروة : إن الأسد لما كان بهم تلك الليلة إنصرف عنهم فقاموا وجعلوا عتبة في وسطهم فأقبل الأسد يتخطاهم حتى أخذ برأس عتبة ففدغه (3) وروي عن أبي نعيم وابن عساكر من طريق عروة مثله. وأخرجه ابن إسحاق وأبو نعيم من طريق آخر عن محمد بن كعب القرظي وغيره. وزاد : إن حسان بن ثابت قال في ذلك :
سائل بني الأشقر إن جئتهم (4) لا وسع الله له قبره رحم نبي جده ثابت أسبل بالحجر لتكذيبه فاستوجب الدعوة منه بما أن سلط الله بها كلبه ما كان أنباء أبي واسع (5) بل ضيق الله على القاطع يدعو إلى نور له ساطع دون قريش نهزة القارع بين للناظر والسامع يمشي الهوينا مشية الخادع

1 ـ ورواه ابن الأثير في النهاية 3 ص 21 في عتبة بن عبد العزى.
2 ـ ضغم ضغما : عض بملء فمه يقال : ضغمه ضغمة الأسد.
3 ـ الفدغ معجمة الآخر ومهملته : الشدخ والكسر.
4 ـ في ديوان حسان. بني الأشعر.
5 ـ أبو واسع : كنية عتبة بن أبي لهب.


(262)
حتى أتاه وسط أصحابه فالتقم الرأس بيافوخه وقد علتهم سنة الهاجع والنحر منه فغرة الجايع
    قلت : لا يوجد في ديوان حسان من هذه الأبيات إلا البيت الأول وفيه بعده قوله :
إذ تركوه وهو يدعوهم والليث يعلوه بأنيابه الرحمن مصروعهم بالنسب الأقصى وبالجامع منعفرا وسط دم ناقع لا يرفع ولا يوهن قوة الصارع
    وأخرج أبو نعيم عن طاووس قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم إذا هوى. قال عتبة بن أبي لهب : كفرت برب النجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلط الله عليك كلبا من كلابه. الحديث. وأخرج أبو نعيم عن أبي الضحى قال : قال ابن أبي لهب : هو يكفر بالذي قال : والنجم إذا هوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحديث.
    وبهذه كلها تعلم أن العذاب المنفي في الآيتين بسبب وجوده المقدس يراد به النفي في الجملة لا بالجملة ، وهو الذي تقتضيه الحكمة ، ويستدعيه الصالح العام ، فإن في الضرورة ملزما لقطع العضو الفاسد ، إتقاء سراية الفساد منه إلى غيره ، بخلاف الجثمان الدنف بعضه ، بحيث لا يخشى بداره إلى غيره ، أو المضنى كله ويؤمل فيه الصحة ، فإنه يعالج حتى يبرء.
    وإن الله سبحانه هدد قريشا بمثل صاعقة عاد وثمود إن مردوا عن الدين جميعا و قال : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم مثل صاعقة عاد وثمود ، وإذ كان مناط الحكم إعراض الجميع لم تأتهم الصاعقة بحصول المؤمنين فيهم ، ولو كانوا استمروا على الضلال جميعا لأتاهم ما هددوا به ، ولو كان وجود الرسول صلى الله عليه وآله مانعا عن جميع أقسام العذاب بالجملة لما صح ذلك التهديد ، ولما أصيب النفر الذين ذكرناهم بدعوته ، ولما قتل أحد في مغازيه بعضبه الرهيف ، فإن كل هذه أقسام العذاب أعاذنا الله منها.
    * ( الوجه الخامس ) * : إنه لو صح ذلك لكان آية كآية أصحاب الفيل ومثلها تتوفر الدواعي لنقله ، ولما وجدنا المصنفين في العلم من أرباب المسانيد والصحاح والفضايل والتفسير والسير ونحوها قد أهملوه رأسا فلا يروى إلا بهذا الاسناد المنكر فعلم أنه كذب باطل.


(263)
    ( الجواب ) : إن قياس هذه التي هي حادثة فردية لا تحدث في المجتمع فراغا كبيرا يأبه له ، وورائها أغراض مستهدفة تحاول إسدال ستور الإنساء عليها كما أسدلوها على نص الغدير نفسه ، وهملجوا وراء إبطاله حتى كادوا أن يبلغوا الأمل بصور خلابة ، و تلفيقات مموهة ، وأحاديث مائنة ، بيد أن الله أبى إلا أن يتم نوره.
    إن قياسها بواقعة أصحاب الفيل تلك الحادثة العظيمة التي عدادها في الإرهاسات النبوية وفيها تدمير أمة كبير يشاهد العالم كله فراغها الحادث ، وإنفاذ أمة هي من أرقي الأمم ، والابقاء عليها وعلى مقدساتها ، وبيتها الذي هو مطاف الأمم ، ومقصد الحجيج ، وتعتقد الناس فيه الخير كله والبركات بأسرها ، وهو يومئذ أكبر مظهر من مظاهر الصقع الربوبي.
    إن قياس تلك بهذه في توفر الدواعي لنقلها مجازفة ظاهرة ، فإن من حكم الضرورة أن الدواعي في الأولى دونها في الثانية ، كما تجد هذ الفرق لائحا بين معاجز النبي صلى الله عليه وآله فمنها : ما لم ينقل إلا بأخبار آحاد. ومنها : ما تجاوز حد التواتر. ومنها : ما هو المتسالم عليه بين المسلمين بلا اعتناء بسنده. وما ذلك إلا لاختلاف موارد العظمة فيها أو المقارنات المحتفة بها.
    وأما ما ادعاه ابن تيمية من إهمال طبقات المصنفين لها فهو مجازفة أخرى لما أسلفناه من رواية المصنفين لها من أئمة العلم ، وحملة التفسير ، وحفاظ الحديث ، ونقلة التاريخ الذين تضمنت المعاجم فضائلهم الجمة ، وتعاقب من العلماء إطراءهم. وإلى الغاية لم نعرف المشار إليه في قوله : بهذا الاسناد المنكر. فإنه لا ينتهي إلا إلى حذيفة بن اليمان ( المترجم ص 25 ) الصحابي العظيم ، وسفيان بن عيينة المعروف إمامته في العلم والحديث والتفسير وثقته في الرواية ( المترجم ص 80 ) وأما الاسناد إليهما فقد عرفه الحفاظ و المحدثون والمفسرون المنقبون في هذا الشأن فوجدوه حريا بالذكر والاعتماد ، و فسروا به آية من الذكر الحكيم من دون أي نكير ، ولم يكونوا بالذين يفسرون الكتاب بالتافهات. نعم : هكذا سبق العلماء وفعلوا لكن ابن تيمية استنكر السند وناقش في المتن لأن شيئاً من ذلك لا يلائم دعارة خطته.
    ( الوجه السادس ) : أن المعلوم من هذا الحديث أن حارثا المذكور كان


(264)
مسلما باعترافه بالمبادي الخمسة الاسلامية ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين لم يصبه عذاب على العهد النبوي.
    ( الجواب ) : إن الحديث كما أثبت إسلام الحارث فكذلك أثبت ردته برده قول النبي صلى الله عليه وآله وتشكيكه فيما أخبر به عن الله تعالى ، والعذاب لم يأته على حين إسلامه وإنما جاءه بعد الكفر والارتداد ، وقد مر في ص 245 أنه بعد سماعه الحديث شك في نبوة النبي صلى الله عليه وآله. على أن في المسلمين من شملته العقوبة لما تجرؤا على قدس صاحب الرسالة كجمرة ابنة الحارث التي أسلفنا حديثها ص 260 و بعض آخر مر حديثه في جواب الوجه الرابع ، وروى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع : أن رجلا أكل عند النبي بشماله فقال : كل بيمينك. قال : لا أستطيع ، قال : لا استطعت ، قال : فما رفعها إلى فيه بعد.
    وفي صحيح البخاري ج 5 ص 227 : إن النبي دخل على أعرابي يعوده قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال : لا بأس طهور. قال : قلت : طهور كلا بل هي حمى تفور ( أو : تثور ) على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فنعم إذا. فما أمسى من الغد إلا ميتا.
    م ـ وفي أعلام النبوة للماوردي ص 81 قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقي الرجل شعره في الصلاة فرأى رجلا ينقي شعره في الصلاة ، فقال : قبح الله شعرك. فصلع مكانه.
    ( الوجه السابع ) : إن الحارث بن النعمان غير معروف في الصحابة ولم يذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ، وابن مندة ، وأبو نعيم الاصبهاني ، وأبو موسى في تآليف ألفوها في أسماء الصحابة فلم نتحقق وجوده.
    ( الجواب ) : إن معاجم الصحابة غير كافلة لاستيفاء أسمائهم ، فكل مؤلف من أربابها جمع ما وسعته حيطته وأحاط به إطلاعه ثم جاء المتأخر عنه فاستدرك على من قبله بما أوقفه السير في غضون الكتب وتضاعيف الآثار ، وأوفى ما وجدناه من ذلك كتاب [ الإصابة بتمييز الصحابة ] لابن حجر العسقلاني ، ومع ذلك فهو يقول في مستهل كتابه : فإن من أشرف العلوم الدينية علم الحديث النبوي ، ومن أجل معارفه تمييز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن خلف بعدهم ، وقد جمع في ذلك جمع من الحفاظ تصانيف


(265)
بحسب ما وصل إليه اطلاع كل منهم ، فأول من عرفته صنف في ذلك أبو عبد الله البخاري أفرد في ذلك تصنيفا فنقل منه أبو القاسم البغوي وغيره ، وجمع أسماء الصحابة مضمومة إلى من بعدهم جماعة من طبقة مشايخه كخليفة بن خياط ، ومحمد بن سعد ومن قرنائه كيعقوب بن سفيان ، وأبي بكر بن أبي خيثمة ، وصنف في ذلك جمع بعدهم كأبي القاسم البغوي ، وأبي بكر بن أبي داود ، وعبدان ، ومن قبلهم بقليل كمطين ، ثم كأبي علي ابن السكن ، وأبي حفص بن شاهين ، وأبي منصور الماوردي ، وأبي حاتم بن حبان ، وكالطبراني ضمن معجمه الكبير ، ثم كأبي عبد الله بن مغدة ، وأبي نعيم ثم كأبي عمر ابن عبد البر وسمى كتابه الاستيعاب لظنه أنه استوعب ما في كتب من قبله ومع ذلك ففاته شيء كثير فذيل عليه أبو بكر بن فتحون ذيلا حافلا وذيل عليه جماعة في تصانيف لطيفة ، وذيل أبو موسى المديني على ابن مندة ذيلا كبيرا ، وفي أعصار هؤلاء خلائق يتعسر حصرهم ممن صنف في ذلك أيضا إلى أن كان في أوائل القرن السابع فجمع عز الدين ابن الأثير كتابا حافلا سماه أسد الغابة جمع فيه كثيرا من التصانيف المتقدمة إلا أنه تبع من قبله فخلط من ليس صحابيا بهم ، وأغفل كثيرا من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم ، ثم جرد الأسماء التي في كتابه مع زيادات عليها الحافظ أبو عبد الله الذهبي وعلم لمن ذكر غلطا ولمن لا تصح صحبته ولم يستوعب ذلك ولا قارب ، وقد وقع لي بالتتبع كثير من الأسماء التي ليست في كتابه ولا أصله على شرطهما فجمعت كتابا كبيرا في ذلك ميزت فيه الصحابة من غيرهم ، ومع ذلك فلم يحصل لنا من ذلك جميعا الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة إلى ما جاء عن أبي زرعة الرازي ، قال توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل و امرأة كلهم قد روى عنه سماعا أو رؤية ، قال ابن فتحون في ذيل الاستيعاب بعد أن ذكر ذلك : أجاب أبو زرعة بهذا سؤال من سأله عن الرواة خاصة فكيف بغيرهم ، ومع هذا فجميع من في الاستيعاب يعني بمن ذكر فيه باسم أو كنية وهما ثلاثة آلاف و خمسمائة ، وذكر أنه استدرك عليه على شرطه قريبا ممن ذكر ، قلت : وقرأت بخط الحافظ الذهبي من ظهر كتابه التجريد : لعل الجميع ثمانية آلاف إن لم يزيدوا لم ينقصوا. ثم رأيت بخطه : إن جميع من في أسد الغابة سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة و


(266)
وخمسون نفسا ، ومما يؤيد قول أبي زرعة ما ثبت في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة تبوك : والناس كثير لا يحصيهم ديوان. وثبت عن الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه قال : من قدم عليا على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. فقال النووي : وذلك بعد النبي بإثني عشر عاما بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح الكثير ممن لم يضبط أسماءهم ، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح وفي الطاعون العام وعمواس (1) وغير ذلك من لا يحصى كثرة ، وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم حضروا حجة الوداع. والله أعلم.
    وقد أسلفنا في ص 9 : أن الحضور في حجة الوداع مع رسول الله كانوا مائة ألف أو يزيدون. إذا فأين لهذه الكتب استيفاء ذلك العدد الجم ؟ وليس في مجاري الطبيعة الخبرة بجميع هاتيك التراجم بحذافيرها ، فإن أكثر القوم كانوا مبثوثين في البراري والفلوات تقلهم مهابط الأودية وقلل الجبال ، ويقطنون المفاوز والحزوم ولا يختلفون إلى الأوساط والحواضر إلا لغايات وقتية تقع عندها الصحبة والرواية في أيام وليالي تبطأ بهم الحاجات فيها ، وليس هناك ديوان تسجل فيه الأسماء ويتعرف أحوال الوارد والصادر.
    إذا فلا يسع أي باحث الإحاطة بأحوال أمة هذه شؤونها ، وإنما قيد المصنفون أسماءا كثر تداولها في الرواية ، أو لأربابها أهمية في الحوادث ، وبعد هذا كله فالنافي لشخص لم يجد إسمه في كتب هذا شأنها خارج عن ميزان النصفة ، ومتحايد عن نواميس البحث ، على أن من المحتمل قريبا : أن مؤلفي معاجم الصحابة أهملوا ذكره لردته الأخيرة.
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم
ولا هدى ولا كتاب منير

سورة لقمان

1 ـ كورة على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس منها ، كان ابتداء الطاعون في سنة 18 ه‍ ثم فشا في أرض الشام فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة.

(267)
عيد الغدير في الاسلام
    ومما شيء من جهته لحديث الغدير الخلود والنشور ، ولمفاده التحقق والثبوت ، اتخاذه عيدا يحتفل به وبليلته بالعبادة والخشوع ، وإدرار وجوه البر ، وصلة الضعفاء ، والتوسع على النفس ، والعائلات ، واتخاذ الزينة والملابس القشيبة ، فمتى كان للملأ الديني نزوع إلى تلكم الأحوال فطبع الحال يكون له اندفاع إلى تحري أسبابها ، و التثبت في شؤونها فيفحص عن رواتها. أو أن الاتفاق المقارن لهاتيك الصفات يوقفه على من ينشدها ويرويها ، وتتجدد له وللأجيال في كل دور لفتة إليها في كل عام ، فلا تزال الأسانيد متواصلة ، والطرق محفوظة ، والمتون مقروئة ، والأنباء بها متكرر.
    إن الذي يتجلى للباحث حول تلك الصفة أمران : الأول : إنه ليس صلة هذا العيد بالشيعة فحسب ، وإن كانت لهم به علاقة خاصة ، وإنما اشترك معهم في التعيد به غيرهم من فرق المسلمين فقد عده البيروني في الآثار الباقية في القرون الخالية ص 334 مما استعمله أهل الاسلام من الأعياد ، وفي مطالب السئول لابن طلحة الشافعي ص 53 : يوم غدير خم ذكره ( أمير المؤمنين ) في شعره وصار ذلك اليوم عيدا وموسما لكونه كان وقتا نصه رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه المنزلة العلية ، وشرفه بها دون الناس كلهم. وقال ص 56 : وكل معنى أمكن إثباته مما دل عليه لفظ المولى لرسول الله صلى الله عليه وآله فقد جعله لعلي وهي مرتبة سامية ، ومنزلة سامقة ، ودرجة علية ، ومكانة رفيعة ، خصصه بها دون غيره ، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيد وموسم سرور لأولياءه. تفيدنا هذه الكلمة اشتراك المسلمين قاطبة في التعيد بذلك اليوم سواء رجع الضمير في ( أوليائه ) إلى النبي أو الوصي صلى الله عليهما وآلهما ، أما على الأول : فواضح. وأما على الثاني : فكل المسلمون يوالون أمير المؤمنين عليا شرع سواء في ذلك من يواليه بما هو خليفة الرسول بلا فصل ، ومن يراه رابع


(268)
الخلفاء فلن تجد في المسلمين من ينصب له العداء إلا شذاذ من الخوارج مرقوا عن الدين الحنيف.
    وتقرأنا كتب التاريخ دروسا من هذا العيد ، وتسالم الأمة الإسلامية عليه في الشرق والغرب ، واعتناء المصريين والمغاربة والعراقيين بشأنه في القرون المتقادمة وكونه عندهم يوما مشهودا للصلاة والدعاء والخطبة وإنشاد الشعر على ما فصل في المعاجم.
    ويظهر من غير مورد من الوفيات لابن خلكان التسالم على تسمية هذا اليوم عيدا ففي ترجمة المستعلى ابن المستنصر 1 ص 60 : فبويع في يوم عيد غدير خم وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة 487. وقال في ترجمة المستنصر بالله العبيدي 2 ص 223 : وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشر ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى ، قلت : وهذه الليلة هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من ذي الحجة وهو غدير خم بضم الخاء وتشديد الميم ورأيت جماعة كثيرة يسألون عن هذه الليلة متى كانت من ذي الحجة ، وهذا المكان بين مكة والمدينة وفيه غدير ماء ويقال : إنه غيضة هناك ، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة شرفها الله تعالى عام حجة الوداع ووصل إلى هذا المكان وآخى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : علي مني كهارون من موسى ، أللهم ؟ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. وللشيعة به تعلق كبير ، وقال الحازمي : وهو واد بين مكة والمدينة عند الجحفة غدير عنده خطب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة وشدة الحر.
    وهذا الذي يذكره ابن خلكان من كبر تعلق الشيعة بهذا اليوم هو الذي يعنيه المسعودي في التنبيه والاشراف ص 221 بعد ذكر حديث الغدير بقوله : وولد علي رضي الله عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم. ونحوه الثعالبي في ثمار القلوب بعد أن عد ليلة الغدير من الليالي المضافات المشهورة عند الأمة بقوله ص 511 ، وهي الليلة التي خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غدها بغدير خم على أقتاب الإبل فقال في خطبته : من كنت مولاه فعلي مولاه ، أللهم ؟ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من


(269)
خذله ، فالشيعة يعظمون هذه الليلة ويحيونها قياما.
    وذلك اعتقادهم وقوع النص على الخلافة بلا فصل فيه ، وهم وإن انفردوا عن غيرهم بهذه العقيدة لكنهم لم يبرحوا مشاطرين مع الأمة التي لم تزل ليلة الغدير عندهم من الليالي المضافة المشهورة ، وليست شهرة هذه الاضافة إلا لاعتقاد خطر عظيم ، و فضيلة بارزة في صبيحتها ، ذلك الذي جعله يوما مشهودا أو عيدا مباركا.
    ومن جراء هذا الاعتقاد في فضيلة يوم الغدير وليلته وقع التشبيه بهما في الحسن والبهجة قال تميم بن المعز صاحب الديار المصرية المتوفى 374 من قصيدة له ذكرها الباخرزي في دمية القصر ص 38 :
تروح علينا بأحداقها نواعم لا يستطعن النهوض حسن كحسن ليالي الغدير حسان حكتهن من نشرهنّه إذا قمن من ثقل أردافهنّه وجئن ببهجة أيامهنّه
    ومما يدل على ذلك : التهنئة لأمير المؤمنين عليه السلام من الشيخين وأمهات المؤمنين وغيرهم من الصحابة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله كما ستقف على ذلك مفصلا إنشاء الله والتهنئة من خواص الأعياد والأفراح.
    ( الأمر الثاني ) إن عهد هذا العيد يمتد إلى أمد قديم متواصل بالدور النبوي فكانت البدئة به يوم الغدير من حجة الوداع بعد أن أصحر نبي الاسلام صلى الله عليه وآله بمرتكز خلافته الكبرى ، وأبان للملأ الديني مستقر إمرته من الوجهة الدينية والدنيوية ، وحدد لهم مستوى أمر دينه الشامخ ، فكان يوما مشهودا يسر موقعه كل معتنق للاسلام ، حيث وضح له فيه منتجع الشريعة ، ومنبثق أنوار أحكامها ، فلا تلويه من بعده الأهواء يمينا وشمالا ، ولا يسف به الجهل إلى هوة السفاسف ، وأي يوم يكون أعظم منه ؟ وقد لاح فيه لأحب السنن ، وبان جدد الطريق ، وأكمل فيه الدين ، وتمت فيه النعمة ، ونوه بذلك القرآن الكريم.
    وإن كان حقا اتخاذ يوم تسنم فيه الملوك عرش السلطنة عيدا يحتفل به بالمسرة والتنوير وعقد المجتمعات وإلقاء الخطب وسرد القريض وبسط الموائد كما جرت به العادات بين الأمم والأجيال ، فيوم استقرت فيه الملوكية الإسلامية والولاية الدينية العظمى لمن


(270)
جاء النص به من الصادع بالدين الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أولى أن يتخذ عيدا يحتفل به بكل حفاوة وتبجيل ، وبما أنه من الأعياد الدينية يجب أن يزاد فيه على ذلك بما يقرب إلى الله زلفى من صوم وصلاة ودعاء وغيرها من وجوه البر كما ؟ وقفك عليه في الملتقى إنشاء الله تعالى.
    ولذلك كله أمر رسول الله صلى الله عليه وآله من حضر المشهد من أمته ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار كما أمر أمهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السلام وتهنأته على تلك الحظوة الكبيرة بإشغاله منصة الولاية ومرتبع الأمر والنهي في دين الله.

    ( حديث التهنئة )
    أخرج الإمام الطبري محمد بن جرير في كتاب ( الولاية ) حديثا بإسناده عن زيد ابن أرقم مر شطر كبير منه ص 214 ـ 216 وفي آخره فقال : معاشر الناس ؟ قولوا : أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا وميثاقا بألسنتنا وصفقة بأيدينا نؤديه إلى أولادنا و أهالينا لا نبغي بذلك بدلا وأنت شهيد علينا وكفى بالله شهيدا ، قولوا ما قلت لكم ، وسلموا على علي بإمرة المؤمنين ، وقولوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، فإن الله يعلم كل صوت وخائنة كل نفس فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ، قولوا ما يرضي الله عنكم فإن تكفروا فإن الله غني عنكم.
    قال زيد بن أرقم : فعند ذلك بادر الناس بقولهم : نعم سمعنا وأطعنا على أمر الله و رسوله بقلوبنا ، وكان أول من صافق النبي صلى الله عليه وآله وعليا : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والأنصار وباقي الناس إلى أن صلى الظهرين في وقت واحد وامتد ذلك إلى أن صلى العشائين في وقت واحد وأوصلوا البيعة والمصافقة ثلثا.
    ورواه أحمد بن محمد الطبري الشهير بالخليلي في كتاب ( مناقب علي بن أبي طالب ) المؤلف سنة 411 بالقاهرة من طريق شيخه محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن وفيه : فتبادر الناس إلى بيعته وقالوا : سمعنا وأطعنا لما أمرنا الله ورسوله بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وجميع جوارحنا ثم انكبوا على رسول الله وعلى علي بأيديهم ، وكان أول من صافق
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس