كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 251 ـ 260
(251)
    بطحان روي فيه الضم والفتح واد بالمدينة وهو أحد أوديتها الثلاثة وهي : العقيق ، وبطحان : وقتاة ، قال الشاعر وهو يقوي رواية من سكن الطاء :
أبا سعيد لم أزل بعدكم كم مجلس ولى بلذاته سقيا لسلع ولساحاتها في كرب للشوق تغشاني لم يهنني إذ غاب ندماني والعيش في أكناف بطحان
    وقال ابن مقبل في قول من كسر الطاء :
عفى بطحان من سليمي فيثرب فملقى الرمال من منى فالمحصب
    وقال أبو زياد : بطحان من مياه الضباب.
    وقال في ص 222 : البطيحة بالفتح ثم الكسر وجمعها البطائح ، والبطيحة والبطحاء واحد. وتبطح السيل إذا اتسع في الأرض. وبذلك سميت بطائح واسط. لأن المياه تبطحت فيها أي سالت ، واتسعت في الأرض ، وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة ، وكانت قديما قرى متصلة وأرضا عامرة ، فاتفق في أيام كسرى أبرويز أن زادت دجلة زيادة مفرطة ، وزاد الفرات أيضا بخلاف العادة ، فعجز عن سدها فتبطح الماء في تلك الديار والعمارات والمزارع فطرد أهلها عنها ... الخ.
    وقال ابن منظور في لسان العرب 3 ص 236 ، والزبيدي في تاج العروس ج 2 ص 124 ما ملخصه : بطحاء الوادي تراب لين مما جرته السيول. وقال ابن الأثير بطحاء الوادي وأبطحه حصاه اللين في بطن المسيل ، ومنه الحديث : إنه صلى بالابطح يعني أبطح مكة. قال : هو مسيل واديها. وعن أبي حنيفة : الأبطح لا ينبت شيئاً إنما هو بطن المسيل. وعن النضر : البطحاء بطن التلعة والوادي وهو التراب السهل في بطونها مما قد جرته السيول. يقال : أتينا أبطح الوادي فنمنا عليه. وبطحاؤه مثله وهو ترابه وحصاه السهل اللين. وقال أبو عمرو : سمي المكان أبطح لأن الماء ينبطح فيه أي يذهب يمينا وشمالا ج أباطح وبطائح. وفي الصحاح : تبطح السيل اتسع في البطحاء.
    وقال ابن سيدة : سال سيلا عريضا قال ذو الرمة :
ولا زال من نوء السماك عليكما ونوء الثريا وابل متبطح
    وقال لبيد :


(252)
يزع الهيام عن الثرى ويمده بطح يهايله عن الكثبان
    وقال آخر :
إذا تبطحن على المحامل تبطح البط بجنب الساحل
    وبطحاء مكة وأبطحها معروفة لانبطاحها ، بطحان بالضم وسكون الطاء وهو الأكثر قال ابن الأثير في النهاية : ولعله الأصح. وقال عياض في المشارق : هكذا يرويه المحدثون. وكذا سمعناه من المشايخ ( والصواب الفتح وكسر الطاء ) كقطران كذا قيد القالي في البارع ، وأبو حاتم والبكري في المعجم ، وزاد الأخير : ولا يجوز غيره. هو أحد أودية المدينة الثلاثة : وهو العقيق وبطحان وقتاة ، وروى ابن الأثير فيه الفتح أيضا وغيره بالكسر و في الحديث كان عمر أول من بطح المسجد وقال : أبطحوه من الوادي المبارك. تبطيح المسجد إلقاء الحصى فيه وتوثيره ، وفي حديث ابن الزبير : فأهاب بالناس إلى بطحه أي تسويته. وانبطح الوادي في هذا المكان واستبطح ، أي استوسع فيه ، ويقال في النسبة إلى بطحان المدينة : البطحانيون. ا هـ (1).
    وقال اليعقوبي في كتاب البلدان ص 84 : ومن واسط إلى البصرة في البطائح لأنه تجتمع فيها عدة مياه ، ثم يصير من البطائح في دجلة العوراء ، ثم يصير إلى البصرة فيرسي في شط نهر ابن عمر ويوم البطحاء : من أيام العرب المعروفة منسوب إلى بطحاء ذي قار ، وقعت الحرب فيها بين كسرى وبكر بن وائل.
    وهناك شواهد كثيرة من الشعر لمن يحتج بقوله في اللغة العربية ، منها ما يعزى إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من قوله يخاطب به وليد بن المغيرة :
يهددني بالعظيم الوليد أنا ابن المبجل بالأبطحين فقلت : أنا ابن أبي طالب وبالبيت من سلفي غالب
    وذكر الميبذي في شرحه : أنه عليه السلام يريد أبطح مكة والمدينة. وقال نابغة بني شيبان (2) في ديوانه ص 104 من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان :
1 ـ ولهذه المذكورات شواهد في الصحاح والقاموس والنهاية والصراح والطراز وغيرها من معاجم اللغة.
2 ـ عبد الله بن المخارق بن سليم.


(253)
والأرض منه جم النبات بها وارتدت الأكم من تهاويل ذي مثل الزرابي للونه صبح نور عميم والأسهل البطح
    وللسيد الحميري يصف الكوثر الذي يسقي منه أمير المؤمنين عليه السلام شيعته يوم القيامة قوله من قصيدة تأتي في ترجمته في شعراء القرن الثاني :
بطحاؤه مسك وحافاته يهتز منها مونق مربع
    وقال أبو تمام المترجم في شعراء القرن الثالث في المديح في ديوانه ص 68 :
قوم هم آمنوا قبل الحمام بها كانوا الجبال لها قبل الجبال وهم من بين ساجعها الباكي ونائحها سالوا ولم يك سيل في أباطحها
    وقال الشريف الرضي (1) من قصيدة في ديوانه 1 ص 205 :
دعوا ورد ماء لستم من حلاله وحلوا الروابي قبل سيل الأباطح
    وله من قصيدة أخرى توجد في ديوانه ص 198 قوله :
متى أرى البيض وقد أمطرت سيل دم يغلب سيل البطاح
    ويقول من أخرى ص 194 :
قلوب عيش فيك رق نسيمه كالماء رق على جنوب بطاح
    وله من أخرى ص 191 :
بكل فلاة تقود الجياد فيلجم أعناقها بالجبال تعثر فيها ببيض الأداحي (2) وينعل أرساعها بالبطاح
    وقال مهيار الديلمي (3) في قصيدة كتبها إلى النهرواني يهنئه بعقد نكاح :
فما اتفق السعدان حتى تكافأ ولو قيل : غير الشمس سيقت هدية أعز بطون في أعز بطاح إلى البدر لم أفرح له بنكاح
    وله في ديوانه 1 ص 199 من قصيدة كتبها إلى الصاحب أبي القاسم قوله :
فكن سامعا في كل نادي مسرة شوارد في الدنيا ولسن بوارحا

1 ـ أحد شعراء الغدير في القرن الرابع تأتي هناك ترجمته.
2 ـ الدحية بكسر المهملة : رئيس الجند.
3 ـ أحد شعراء الغدير في القرن الخامس تأتي هناك ترجمته.


(254)
حوامل أعباء الثناء خفائفا صعدن الهضاب أو هبطن الأباطحا
    وقال في مستهل قصيدة كتبها إلى ناصر الدولة بعمان :
لمن صاغيات (1) في الجبال طلائح تسيل على نعمان منها الأباطح
    وقال أبو إسحاق ابن خفاجة الأندلسي المتوفى 533 من مقطوعة :
فإن أنا لم أشكرك والدار غربة ولا استشرفت يوما إلي به الربا فلا جادني غاد من المزن رائح جلالا ولا هشت إلي الأباطح
    وله من قصيدة أخرى في ديوانه ص 37 :
تخايل نخوة بهم المذاكي لهم همم كما شمخت جبال وتعسل هزة لهم الرماح وأخلاق كما دمثت بطاح
    ومن مقطوعة له يصف الكلب والأرنب في ديوانه ص 37 :
يجول حيث يكشر عن نصال وطورا يرتقي حدب الروابي مؤللة وتحمله رماح وآونة تسيل به البطاح
    ويقول في قصيدة يهنئ بها قاضي القضاة :
بشرى كما أسفر وجه الصباح وارتجز الرعد بلج الندى فدنر الزهر متون الربى واستشرف الرائد برقا ألاح ريا ويحدو بمطايا الرياح ودرهم القطر بطون البطاح
    وله من قصيدة يصف معركا قوله :
زحمت مناكبه الأعادي زحمة بسطتهم فوق البطاح بطاحا
    وله من أخرى قوله :
غلام كما استخشنت جانب هضبة ولان على طش من المزن أبطح
    وللأرجاني المتوفى 544 من قصيدة يمدح بها الوزير شمس الملك في ديوانه ص 80 قوله :
لا غرو إن فاضت دما مقلتي بل يا أخا الحي ؟ إذا زرته وقد غدت ملء فؤادي جراح فحي عني ساكنات البطاح

1 ـ الصاغيات : المائلات.

(255)
    ولشهاب الدين المعروف بحيص بيص المتوفى 574 المدفون في مقابر قريش ، في رثاء أهل البيت عليهم السلام عن لسانهم يخاطب من ناوئهم ، وتجرأ على الله بقتلهم قوله :
ملكنا فكان العفو منا سجية وحللتم قتل الأسارى وطالما فلما ملكتم سال بالدم أبطح غدونا عن الاسرا نعف ونصفح (1)
    وأنت جد عليم أن مصارع أهل البيت عليهم السلام نوعا كانت بالعراق في مشهد الطف وغيره ، ومنهم من قتل بفخ من أعمال مكة غير أنه واقع بينها وبين المدينة يبعد عنها نحو ستة أميال لا في جهة الأبطح الذي هو وادي المحصب بمقربة من منى في شرقي مكة.
    ولبعضهم يرثي الإمام السبط الشهيد عليه السلام قوله من قصيدة :
وتأن نفسي للربوع وقد غدا بيت لآل المصطفى في كربلا بيت النبي مقطع الاطناب ضربوه بين أباطح وروابي
    ( الوجه الثاني ) : إن سورة المعارج مكية باتفاق أهل العلم فيكون نزولها قبل واقعه الغدير بعشر سنين أو أكثر من ذلك.
    ( الجواب ) : إن المتيقن من معقد الإجماع المذكور هو نزول مجموع السورة مكيا لا جميع آياتها فيمكن أن يكون خصوص هذه الآية مدنيا كما في كثير من السور ، ولا يرد عليه أن المتيقن من كون السورة مكية أو مدنية هو كون مفاتيحها كذلك ، أو الآية التي انتزع منها اسم السورة ، لما قدمناه من أن هذا الترتيب هو ما اقتضاه التوقيف لا ترتيب النزول ، فمن الممكن نزول هذه الآية أخيرا وتقدمها على النازلات قبلها بالتوقيف ، وإن كنا جهلنا الحكمة في ذلك كما جهلناها في أكثر موارد الترتيب في الذكر الحكيم ، وكم لها من نظير ومن ذلك.
    1 ـ سور العنكبوت فإنها مكية إلا من أولها عشرة آيات كما رواه الطبري في تفسيره في الجزء العشرين ص 86 ، والقرطبي في تفسيره 13 ص 323 ، والشربيني في السراج المنير 3 ص 116.
1 ـ هذه الأبيات خمسها جماعة وشطرتها فممن خمسها السيد راضي بن السيد صالح القزويني المتوفى سنة 1287 ، والعلامة الأكبر السيد ناصر بن أحمد بن عبد الصمد الغريفي المتوفى سنة 1331 ، والشيخ عبد الحسين بن القاسم الحلي النجفي المعاصر وله تشطيرها أيضا.

(256)
    2 ـ سور الكهف فإنها مكية إلا من أولها سبع آيات فهي مدنية وقوله : ( واصبر نفسك ) الآية. كما في تفسير القرطبي 10 ص 346 ، وإتقان السيوطي 1 ص 16.
    3 ـ سورة هود مكية إلا قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار. كما في تفسير القرطبي 9 ص 1 وقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك كما في السراج المنير 2 ص 40.
    4 ـ سورة مريم مكية إلا آية السجدة وقوله : وإن منكم إلا واردها. كما في إتقان السيوطي 1 ص 16.
    5 ـ سورة الرعد فإنها مكية إلا قوله : ولا يزال الذين كفروا. وبعض آيها الأخر أو بالعكس كما نص به القرطبي في تفسيره 9 ص 278 ، والرازي في تفسيره ج 6 ص 258 ، والشربيني في تفسيره 2 ص 137.
    6 ـ سورة إبراهيم مكية إلا قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله. الآيتين نص به القرطبي في تفسيره 9 ص 338 ، والشربيني في السراج المنير 2 ص 159.
    7 ـ سورة الاسراء مكية إلا قوله : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض إلى قوله : واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا. كما في تفسير القرطبي 10 ص 203 ، والرازي 5 ص 540 ، والسراج المنير 2 ص 261.
    8 ـ سورة الحج مكية إلا قوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف. كما في تفسيري القرطبي 12 ص 1 ، والرازي 6 ص 206 ، والسراج المنير 2 ص 511.
    9 ـ سورة الفرقان مكية إلا قوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر. كما في تفسير القرطبي 13 ص 1 ، والسراج المنير 2 ص 617.
    10 ـ سورة النمل مكية إلا قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا. الآية.
    إلى آخر السورة ، نص بذلك القرطبي في تفسيره 15 ص 65 ، والشربيني في تفسيره 2 ص 205.
    11 ـ سورة القصص مكية إلا قوله : الذين آتيناهم الكتاب من قبله وقيل : إلا آية : إن الذي فرض عليك القرآن. الآية. كما في تفسيري القرطبي 13


(257)
ص 247 ، والرازي 6 ص 585.
    12 ـ سورة المدثر مكية غير آية من آخرها على ما قيل كما في تفسير الخازن 4 ص 343.
    13 ـ سورة القمر مكية إلا قوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، قاله الشربيني في السراج المنير 4 ص 136.
    14 ـ سورة الواقعة مكية إلا أربع آيات كما في السراج المنير 4 ص 171.
    15 ـ سورة المطففين مكية إلا الآية الأولى ومنها انتزع إسم السورة كما أخرجه الطبري في الجزء الثلاثين من تفسيره ص 58.
    16 ـ سورة الليل مكية إلا أولها ومنها إسم السورة كما في الاتقان 1 ص 17.
    17 ـ سورة يونس مكية إلا قوله : وإن كنت في شك. الآيتين أو الثلاث أو قوله : ومنهم من يؤمن به. كما في تفسير الرازي 4 ص 774 ، وإتقان السيوطي 1 ص 15 ، وتفسير الشربيني 2 ص 2.
( كما أن غير واحد من السور المدنية فيها آيات مكية )
    منها : سورة المجادلة فإنها مدنية إلا العشر الأول ومنها تسمية السورة كما في تفسير أبي السعود في هامش الجزء الثامن من تفسير الرازي ص 148 ، والسراج المنير 4 ص 210. ومنها : سورة البلد مدنية إلا الآية الأولى ( وبها تسميتها بالبلد ) إلى غاية الآية الرابعة كما قيل في الاتقان 1 ص 17. وسور أخرى لا نطيل بذكرها المجال.
    على أن من الجايز نزول الآية مرتين كآيات كثير نص العلماء على نزولها مرة بعد أخرى عظة وتذكيرا ، أو اهتماما بشأنها ، أو اقتضاء موردين لنزولها غير مرة نظير البسملة ، وأول سورة الروم ، وآية الروح ، وقوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به. إلى آخر النحل. وقوله : من كان عدوا لله. الآية. وقوله : أقم الصلاة طرفي النهار. وقوله أليس. الله بكاف عبده. وسورة الفاتحة فإنها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة. ولتثنية نزولها سميت بالمثاني (1)
1 ـ راجع إتقان السيوطي 1 ص 60 ، وتاريخ الخميس 1 ص 11.

(258)
    ( الوجه الثالث ) : إن قوله تعالى : وإذ قالوا أللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء. نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل يوم الغدير بسنين.
    ( الجواب ) : كأن هذا الرجل يحسب أن من يروي تلك الأحاديث المتعاضدة يرى نزول ما لهج به الحارث بن النعمان الكافر من الآية الكريمة السابق نزولها و أفرغها في قالب الدعاء ، في اليوم المذكور ، والقارئ لهاتيك الأخبار جد عليم بمينه في هذا الحسبان ، أو أنه يرى حجرا على الآيات السابق نزولها أن ينطق بها أحد ، فهل في هذه الرواية غير أن الرجل المرتد ( الحارث أو جابر ) تفوه بهذه الكلمات ؟ وأين هو من وقت نزولها ؟ فدعها يكن نزولها في بدر أو أحد. فالرجل أبدى كفره بها كما أبدى الكفار قبله إلحادهم بها. لكن ابن تيمية يريد تكثير الوجوه في إبطال الحق الثابت.
    ( الوجه الرابع ) : إنها نزلت بسبب ما قاله المشركون بمكة ولم ينزل عليهم العذاب هناك لوجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم لقوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
    ( الجواب ) : لا ملازمة بين عدم نزول العذاب في مكة على المشركين ، وبين عدم نزوله ههنا على الرجل فإن أفعال المولى سبحانه تختلف باختلاف وجوه الحكمة ، فكان في سابق علمه إسلام جماعة من أولئك بعد حين ، أو وجود مسلمين في أصلابهم ، فلو أبادهم بالعذاب النازل لأهملت الغاية المتوخاة من بعث الرسول صلى الله عليه وآله. ولما لم ير سبحانه ذلك الوجه في هذا المنتكس على عقبه عن دين الهدى بقيله ذلك ، ولم يكن ليولد مؤمنا كما عرف ذلك نوح عليه السلام من قومه فقال : ولن يلدوا إلا فاجرا كفارا. قطع جرثومة فساده بما تمناه من العذاب الواقع ، وكم فرق بين أولئك الذين عومل معهم بالرفق رجاء هدايتهم ، وتشكيل أمة مرحومة منهم ومن أعقابهم ، مع العلم بأن الخارج منهم عن هاتين الغايتين سوف يقضى عليه في حروب دامية ، أو يأتي عليه الخزي المبير ، فلا يسعه بث ضلالة ، أو إقامة عيث. وبين هذا الذي أخذته الشدة ، مع العلم بأن حياته مثار فتن ، ومنزع إلحاد ، وما عساه يتوفق لهدايته ، أو يستفاد بعقبه. ووجود الرسول صلى الله عليه وآله رحمة تدرع العذاب عن الأمة ، إلا أن تمام الرحمة


(259)
أن يكون فيها مكتسح للعراقيل أمام السير في لاحب الطريق المهيع ، ولذلك قم سبحانه ذلك الجذم الخبيث ، للخلاف عما أبرمه النبي الأعظم في أمر الخلافة ، كما أنه في حروبه ومغازيه كان يجتاح أصول الغي بسيفه الصارم ، وكان يدعو على من شاهد عتوه ، ويأس من إيمانه ، فتجاب دعوته.
    أخرج مسلم في صحيحه 2 ص 468 بالإسناد عن ابن مسعود : إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الاسلام قال : أللهم ؟ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة حتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فذلك قوله : يوم تأتي السماء بدخان مبين. و رواه البخاري 2 ص 125.
    وفي تفسير الرازي 7 ص 467 : إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال : أللهم اجعل سنيهم كسني يوسف. فارتفع المطر واجدبت الأرض وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف ، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود.
    وروى ابن الأثير في النهاية 3 ص 124 : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أللهم ؟ اشدد وطأتك على مضر مثل سني يوسف فجهدوا حتى أكلوا العلهز (1) ورواه السيوطي في الخصايص الكبرى 1 ص 257 من طريق البيهقي عن عروة ومن طريقه وطريق أبي نعيم عن أبي هريرة.
    وقال ابن الأثير في الكامل 2 ص 27 : كان أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وآله دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمى ويثكل ولده فجلس في ظل شجرة فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه ورقة من ورقها وبشوكها حتى عمي.
    وقال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مالك بن الطلالة بن عمرو بن غبشان فأشار جبريل إلى رأسه فامتلأ قيحا فمات.
1 ـ دم كانوا يخلطونه بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه.

(260)
    وروى ابن عبد البر في الاستيعاب هامش الإصابة 1 ص 218 : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى يتكفأ ، وكان الحكم بن أبي العاص يحكيه ، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم يوما فرآه يفعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : فكذلك فلتكن. فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ فعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه :
إن اللعين أبوك فارم عظامه يمسي خميص البطن من عمل التقى إن ترم ترم مخلجا مجنونا ويظل من عمل الخبيث بطينا
    وروى ابن الأثير في النهاية 1 ص 345 من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر : إن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبا مروان كان يجلس خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تكلم اختلج بوجهه فرآه فقال له : كن كذلك. فلم يزل يختلج حتى مات وفي رواية : فضرب به شهرين ثم أفاق خليجا ، أي : صرع ، ثم أفاق مختلجا (1) قد أخذ لحمه وقوته. وقيل : مرتعشا.
    وروى ابن حجر في الإصابة ص 3451 من طريق الطبراني ، والبيهقي في الدلائل ، والسيوطي في الخصايص الكبرى 2 ص 79 عن الحاكم وصححه وعن البيهقي و الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال : كان الحكم بن أبي العاص يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم اختلج بوجهه فقال له النبي : كن كذلك. فلم يزل يختلج حتى مات. وروى مثله بطريق آخر.
    وفي الإصابة 1 ص 346 : أخرج البيهقي من طريق مالك بن دينار : حدثني هند بن خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي صلى الله عليه وسلم باصبعه فالتفت فرآه فقال : أللهم ؟ اجعله وزغا. فزحف مكانه.
    وفي الإصابة 1 ص 276 ، والخصايص الكبرى 2 ص 79 : ذكر ابن فتحون عن الطبري : إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب إلى الحارث بن أبي الحارثة ابنته جمرة بنت الحارث فقال : إن بها سوء. ولم تكن كما قال ، فرجع فوجدها قد برصت.
    وفي الخصايص الكبرى 2 ص 78 من طريق البيهقي عن أسامة بن يزيد قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فكذب عليه فدعا عليه رسول الله فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم
1 ـ الحلج بالمهملة. والخلج بالمعجمة ، بمعنى واحد أي الحركة والاضطراب.
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس