كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 361 ـ 370
(361)
تثبت ، ولذلك تراه يتلجلج ويرعد ويبرق من غير جدوى أو عائدة ، ولا أحسبه يحير جوابا عن واحد من الأسئلة التي وجهناها إليه.
    وكأنه في احتجاجه بخلو كتاب العين عن ذلك نسي أو تناسى ما لهج به في المحصول من إطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في كتاب العين كما نقله عنه السيوطي في المزهر 2 ص 47 و 48.
    وأنا لا أدري ما المراد من الكتب الأصلية من اللغة ؟ ومن الذي خص هذا الاسم بالمعاجم التي يقصد فيها سرد الألفاظ وتطبيقها على معانيها في مقام الحجية ، وأخرج عنها ما ألف في غريب القرآن أو الحديث أو الأدب العربي ؟ وهل نية أرباب المعاجم دخيلة في صحة الاحتجاج بها ؟ أو أن ثقة أرباب الكتب وتضلعهم في الفن وتحريهم موارد استعمال العرب هي التي تكسبها الحجية ؟ وهذه كلها موجودة في كتب الأئمة والأعلام الذين نقل عنهم مجيئ المولى بمعنى الأولى.

مفعل بمعنى فعيل
    هلم معي إلى صخب وهياج تهجم بها على العربية ( ومن العزيز على العروبة والعرب ذلك ) الشاه ولي الله صاحب الهندي في تحفته الاثني عشرية فحسب في رد دلالة الحديث أنها لا تتم إلا بمجيئ المولى بمعنى الولي وأن مفعلا لم يأت بمعنى فعيل يريد به دحض ما نص به أهل اللغة من مجيئ المولى بمعنى الولي الذي يراد به ولي الأمر كما ولي المرآة : وولي اليتيم ، وولي العبد ، وولاية السلطان ، وولي العهد لمن يقيضه الملك عاهل مملكته بعده.
    نعم عزب عن الدهلوي قول الفراء المتوفى 207 في ( معاني القرآن ) وأبي العباس المبرد : بأن الولي والمولى في لغة العرب واحد.
    وذهل عن إطباق أئمة اللغة على هذا ، وعدهم الولي من معاني المولى في معاجم اللغة وغيرهما كما في مشكل القرآن للأنباري ، و الكشف والبيان للثعلبي في قوله تعالى : أنت مولانا ، و الصحاح للجوهري 2 ص 564 ، و ( غريب القرآن ) للسجستاني ص 154 ، وقاموس الفيروز آبادي 4 ص 401 ، و الوسيط للواحدي ، وتفسير القرطبي 3 ص 431 ، ونهاية ابن


(362)
الأثير 4 ص 246 وقال : ومنه قول عمر لعلي : أصبحت مولي كل مؤمن.
    وتاج العروس 10 ص 399 واستشهد بقوله تعالى : بأن الله ولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم.
    وبقوله صلى الله عليه وآله : وأيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها.
    وبحديث الغدير : من كنت مولاه فعلي مولاه (1).

نظرة في معاني المولى
    ذكر علماء اللغة من معاني المولى السيد غير المالك والمعتق كما ذكروا من معاني الولي الأمير والسلطان مع إطباقهم على اتحاد معنى الولي والمولى : وكل من المعنيين لا يبارح معنى الأولوية بالأمر ، فالأمير أولى من الرعية في تخطيط الأنظمة الراجعة إلى جامعتهم ، وبإجراء الطقوس المتكفلة لتهذيب أفرادهم ، وكبح عادية كل منهم عن الآخر ، وكذلك السيد أولى ممن يسوده بالتصرف في شؤونهم ، وتختلف دائرة هذين الوصفين سعتا وضيقا باختلاف مقادير الأمارة والسيادة فهي في والي المدينة أوسع منها في رؤساء الدواوين ، وأوسع من ذلك في ولاة الأقطار ، و يفوق الجميع ما في الملوك والسلاطين ، ومنتهى السعة في نبي مبعوث على العالم كله وخليفة يخلفه على ما جاء به من نواميس وطقوس.
    ونحن إذا غاضينا القوم على مجيئ الأولى بالشيء من معاني المولى فلا نغاضيهم علي مجيئه بهذين المعنيين ، وإنه لا ينطبق في الحديث إلا على أرقي المعاني.
    أو أوسع الدوائر ، بعد أن علمنا أن شيئاً من معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى لا يمكن إرادته في الحديث إلا ما يطابقهما من المعاني ألا ؟ وهي : 1 ـ الرب 2 ـ العم 3 ـ ابن العم 4 ـ الابن 5 ـ ابن الأخت 6 ـ المعتق 7 ـ المعتق 8 ـ العبد 9 ـ المالك 10 ـ التابع 11 ـ المنعم عليه 12 ـ الشريك 13 ـ الحليف 14 ـ الصاحب 15 ـ الجار
1 ـ لا بسعنا ذكر المصادر كلها أو جلها لكثرتها جدا ولا يهمنا مثل هذا التافه. في صحيح البخاري 7 ص 57 : المليك. وقال القسطلاني في شرح الصحيح 7 ص 77 : المولى المليك لأنه يلي أمور الناس. وشرحه كذلك أبو محمد العيني في عمدة القاري. وكذا قال لفظيا العدوي الحمزاوي في النور الساري.

(363)
16 ـ النزيل 17 ـ الصهر 18 ـ القريب 19 ـ المنعم 20 ـ الفقيد 21 ـ الولي 22 ـ الأولى بالشيء 23 ـ السيد غير المالك والمعتق 24 ـ المحب 25 ـ الناصر 26 ـ المتصرف في الأمر 27 ـ المتولي في الأمر.
    فالمعنى الأولى يلزم من إرادته الكفر إذ لا رب للعالمين سوى الله. وأما الثاني والثالث إلى الرابع عشر فيلزم من إرادة شيء منها في الحديث الكذب ، فإن النبي عم أولاد أخيه إن كان له أخ وأمير المؤمنين ابن عم أبيهم. وهو صلى الله عليه وآله ابن عبد الله وأمير المؤمنين ابن أخيه أبي طالب ، ومن الواضح اختلاف أمهما في النسب فخؤلة كل منهما غير خؤلة الآخر ، فليس هو عليه السلام بابن أخت لمن صلى الله عليه وآله ابن أخته. وأنت جد عليم بأن من أعتقه رسول الله لم يعتقه أمير المؤمنين مرة أخرى ، وإن كلا منهما سيد الأحرار من الأولين والآخرين ، فلم يكونا معتقين لأي ابن أنثى واعطف عليه العبد في السخافة والشناعة. ومن المعلوم أن الوصي صلوات الله عليه لم يملك مماليك رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يمكن إرادة المالك منه. ولم يكن النبي تابعا لأي أحد غير مرسله جلت عظمته ، فلا معنى لهتافه بين الملأ بأن من هو تابعه فعلي تابع له. ولم يكن على رسول الله لأي أحد من نعمة بل له المنن والنعم على الناس أجمعين فلا يستقيم المعنى بإرادة المنعم عليه. وما كان النبي صلى الله عليه وآله يشارك أحدا في تجارة أو غيرها حتى يكون وصيه مشاركا له أيضا ، على أنه معدود من التافهات إن تحققت هناك شراكة ، وتجارته لأم المؤمنين خديجة قبل البعثة كانت عملا لها لا شراكة معها ، ولو سلمناها فالوصي سلام الله عليه لم يكن معه في سفره ولا له دخل في تجارته. ولم يكن نبي العظمة محالفا لأحد ليعتز به ، وإنما العزة لله ولرسوله و للمؤمنين ، وقد اعتز به المسلمون أجمع ، إذن فكيف يمكن قصده في المقام ؟ وعلى فرض ثبوته فلا ملازمة بينهما.
    وأما الصاحب والجار والنزيل والصهر والقريب سواء أريد منه قربى الرحم أو قرب المكان فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني لسخافتها لا سيما في ذلك المحتشد الرهيب : في أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر صلى الله عليه وآله بحبس المقدم في السير ، ومنع التالي منه في محل ليس بمنزل له ، غير أن الوحي الإلهي المشفوع


(364)
بما يشبه التهديد إن لم يبلغ حبسه هنالك ، فيكون صلى الله عليه وآله قد عقد هذا المحتفل والناس قد أنهكهم وعثاء السفر ، وحر الهجير ، وحراجة الموقف حتى أن أحدهم ليضع ردائه تحت قدميه ، فيرقي هنالك منبر الأهداج ، ويعلمهم عن الله تعالى أن نفسه نعيت إليه ، وهو مهتم بتبليغ أمر يخاف فوات وقته بانتهاء أيامه ، وأن له الأهمية الكبرى في الدين والدنيا فيخبرهم عن ربه بأمور ليس للإشادة بها أي قيمة وهي : أن من كان هو صلى الله عليه وآله مصطحبا أو جارا أو مصاهرا له أو نزيلا عنده أو قريبا منه بأي المعنيين فعلي كذلك. لاها الله لا نحتمل هذا في أحد من أهل الحلوم الخائرة ، والعقليات الضعيفة ، فضلا عن العقل الأول ، والانسان الكامل نبي الحكمة ، وخطيب البلاغة ، فمن الإفك الشائن أن يعزى إلى نبي الاسلام إرادة شيء منها ، وعلى تقدير إرادة شيء منها فأي فضيلة فيها لأمير المؤمنين عليه السلام حتى يبخبخ ويهنأ بها ، ويفضلها سعد ابن أبي وقاص في حديثه (1) على حمر النعم لو كانت ، أو تكون أحب إليه من الدنيا وما فيها ، عمر فيها مثل عمر نوح.
    وأما المنعم : فلا ملازمة في أن يكون كل من أنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله يكون أمير المؤمنين عليه السلام منعما عليه أيضا بل من الضروري خلافه ، إلا أن يراد أن من كان النبي صلى الله عليه وآله منعما عليه بالدين والهدى والتهذيب و الارشاد والعزة في الدنيا والنجاة في الآخرة فعلي عليه السلام منعم عليه بذلك كله لأنه القائم مقامه ، والصادع عنه ، وحافظ شرعه ، ومبلغ دينه ، ولذلك أكمل الله به الدين ، وأتم النعمة بذلك الهتاف المبين ، فهو حينئذ لا يبارح معنى الإمامة الذي نتحراه ، ويساوق المعاني التي نحاول إثباتها فحسب.
    وأما العقيد : فلا بد أن يراد به المعاقدة والمعاهدة مع بعض القبايل للمهادنة أو النصرة فلا معنى لكون أمير المؤمنين عليه السلام كذلك إلا أنه تبع له في كل أفعاله وتروكه ، فيساوقه حينئذ المسلمون أجمع ، ولا معنى لتخصيصه بالذكر مع ذلك الاهتمام الموصوف ، إلا أن يراد أن لعلي عليه السلام دخلا في تلك المعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله لتنظيم السلطنة الإسلامية ، وكلائة الدولة عن الملاشات
1 ـ راجع ص 38 ـ 41.

(365)
بالقلاقل والحرج ، فله التدخل فيها كنفسه صلى الله عليه وآله ، وإن أمكن إرادة معاقدة الأوصاف والفضايل كما يقال : عقيد الكرم ، وعقيد الفضل ، أي : كريم وفاضل. ولو بتمحل لا يقبله الذوق العربي ، فيقصد أن من كنت عقيد الفضايل عنده فليعتقد في علي مثله ، فهو والحالة هذه مقارب لما نرتأيه من المعنى ، وأقرب المعاني أن يراد به العهود التي عاهدها صلى الله عليه وآله مع من بايعه من المسلمين على اعتناق دينه ، والسعي وراء صالحه ، والذب عنه ، فلا مانع أن يراد من اللفظ والحالة هذه فإنه عبارة أخرى لأن يقول : إنه خليفتي والإمام من بعدي.
المحب والناصر
    على فرض إرادة هذين المعنيين لا يخلو إما أن يراد بالكلام حث الناس على محبته ونصرته بما أنه من المؤمنين به والذابين عنه. أو أمره عليه السلام بمحبتهم ونصرتهم وعلى كل فالجملة إما إخبارية أو إنشائية.
    فالاحتمال الأول وهو الإخبار بوجوب حبه على المؤمنين فمما لا طايل تحته ، وليس بأمر مجهول عندهم لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ويناط التواني عنه بعدم تبليغ شيء من الرسالة كما في نص الذكر الحكيم ، فيحبس له الجماهير ، و يعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف حرج لا قرار به ، ثم يكمل به الدين ، وتتم به النعمة ، ويرضي الرب ، كأنه قد أتى بشيء جديد ، وشرع ما لم يكن وما لا يعلمه المسلمون ، ثم يهنأه من هنأه بأصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، مؤذنا بحدوث أمر عظيم فيه لم يعلمه القائل قبل ذلك الحين ، كيف ؟ وهم يتلون في آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه : والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة. مشعرا بلزوم التوادد بينهم كما يكون بين الأخوين ، نجل نبينا الأعظم عن تبليغ تافه مثله ، ونقدس إلهنا الحكيم عن عبث يشبهه.
    والثاني : وهو إنشاء وجوب حبه ونصرته بقوله ذلك ، وهو لا يقل عن المحتمل الأول في التفاهة ، فإنه لم يكن هناك أمر لم ينشأ وحكم لم يشرع حتى يحتاج إلى بيانه الانشائي كما عرفت ، على أن حق المقام على هذين الوجهين أن يقول صلى الله عليه


(366)
وآله : من كان مولاي فهو مولى علي أي محبه وناصره ، فهذان الاحتمالان خارجان عن مفاد اللفظ ، ولعل سبط ابن الجوزي نظر إلى هذا المعنى وقال في تذكرته ص 19 : لم يجز حمل لفظ المولى في هذا الحديث على الناصر. وسيأتي لفظه بتمامه. على أن وجوب المحبة والمناصرة على هذين الوجهين غير مختص بأمير المؤمنين عليه السلام وإنما هو شرع سواء بين المسلمين أجمع ، فما وجه تخصيصه به والاهتمام بأمره ؟ وإن أريد محبة أو نصرة مخصوصة له تربو عن درجة الرعية كوجوب المتابعة ، وامتثال الأوامر ، والتسليم له ، فهو معنى الحجية والإمامة ، لا سيما بعد مقارنتها بما هو مثلها في النبي صلى الله عليه وآله بقوله : من كنت مولاه ، والتفكيك بينهما في سياق واحد إبطال للكلام.
    والثالث : وهو إخباره بوجوب حبهم أو نصرتهم عليه ، فكان الواجب عندئذ إخباره صلى الله عليه وآله عليا والتأكيد عليه بذلك لا إلقاء القول به على السامعين ، وكذلك إنشاء الوجوب عليه وهو المحتمل الرابع ، فكان صلى الله عليه وآله في غنى عن ذلك الاهتمام وإلقاء الخطبة واستسماع الناس والمناشدة في التبليغ ، إلا أن يريد جلب عواطف الملأ وتشديد حبهم له عليه السلام إذا علموا أنه محبهم أو ناصرهم ليتبعوه ، ولا يخالفوا له أمرا ، ولا يردوا له قولا.
    وبتصديره صلى الله عليه وآله الكلام بقوله : من كنت مولاه. نعلم أنه على هذا التقدير لا يريد من المحبة أو النصرة إلا ما هو على الحد الذي فيه صلى الله عليه وآله منهما ، فإن حبه ونصرته لأمته ليس كمثلهما في أفراد المؤمنين ، وإنما هو صلى الله عليه آله يحب أمته فينصرهم بما أنه زعيم دينهم ودنياهم ، ومالك أمرهم وكالئ حوزتهم ، وحافظ كيانهم ، وأولى بهم من أنفسهم ، فإنه لو لم يفعل بهم ذلك لأجفلتهم الذئاب العادية ، وانتأشتهم الوحوش الكواسر ، ومدت إليه الأيدي من كل صوب وحدب ، فمن غارات تشن ، وأموال تباح ، ونفوس تزهق ، وحرمات تهتك ، فينتقض غرض المولى من بث الدعوة ، وبسط أديم الدين ، ورفع كلمة الله العليا ، بتفرق هاتيك الجامعة ، فمن كان في المحبة والنصرة على هذا الحد فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، والمعنى على هذا الفرض لا يحتمل غير ما قلناه.

(367)
( المعاني التي يمكن إرادتها من الحديث )
    لم يبق من المعاني إلا الولي. والأولى بالشئ. والسيد غير قسيميه : المالك والمعتق. والمتصرف في الأمر ومتوليه. أما الولي فيجب أن يراد منه خصوص ما يراد في الأولى لعدم صحة بقية المعاني كما عرفناكه ، وأما السيد (1) بالمعنى المذكور فلا يبارح معنى الأولى بالشيء لأنه المتقدم على غيره لا سيما في كلمة يصف بها النبي صلى الله عليه وآله نفسه ثم ابن عمه على حذو ذلك ، فمن المستحيل حمله على سيادة حصل عليها السايد بالتغلب والظلم ، وإنما هي سيادة دينية عامة يجب إتباعها على المسودين أجمع.
    وكذلك المتصرف في الأمر ، ذكره الرازي في تفسيره 6 ص 210 عن القفال عند قوله تعالى : واعتصموا بالله هو مولاكم الحج فقال : قال القفال : هو مولاكم سيدكم والمتصرف فيكم ، وذكرهما سعيد الچلبي مفتي الروم ، وشهاب الدين أحمد الخفاجي في تعليقيهما على البيضاوي ، وعده في الصواعق ص 25 من معانيه الحقيقية ، وحذا حذوه كمال الدين الجهرمي في ترجمة الصواعق ، ومحمد بن عبد الرسول البرزنجي في النواقض ، والشيخ عبد الحق في لمعاته ، فلا يمكن في المقام إلا أن يراد به المتصرف الذي قيضه الله سبحانه لأن يتبع فيحدو البشر إلى سنن النجاح فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في الجامعة الانسانية ، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله بأمر إلهي لا يبارحه في أقواله وأفعاله وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
    وكذلك متولي الأمر الذي عده من معاني المولى أبو العباس المبرد ، قال في قوله : إن الله مولى الذين آمنوا : والولي والمولى معناهما سواء ، وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم (2) وأبو الحسن الواحدي في تفسيره الوسيط ، والقرطبي في تفسيره 4 ص 232 في قوله تعالى في آل عمران : بل الله مولاكم. وابن الأثير في النهاية 4 ص 246 ، والزبيدي في تاج العروس 10 ص 398 ، وابن منظور في لسان
1 ـ عده من معاني المولى جمع كثير من أئمة التفسير والحديث واللغة ، لا يستهان بعدتهم.
2 ـ حكاه عنه الشريف المرتضى في الشافي.


(368)
العرب 20 وقالوا : ومنه الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل وفي رواية : وليها. أي متولي أمرها ، والبيضاوي في تفسير قوله تعالى : ما كتب لنا هو مولانا ( التوبة ) في تفسيره 1 ص 505 ، وفي قوله تعالى : واعتصموا بالله هو مولاكم ( الحج ) ج 2 ص 114 ، وفي قوله تعالى : والله مولاكم التحريم 2 ص 530 ، و أبو السعود العمادي في تفسير قوله تعالى : والله مولاكم التحريم ( هامش تفسير الرازي ) ج 8 ص 183 ، وفي قوله تعالى : هي مولاكم. والراغب في المفردات ، وعن أحمد بن الحسن الزاهد ، الدرواجكي في تفسيره : المولى في اللغة من يتولى مصالحك فهو مولاك يلي القيام بأمورك وينصرك على أعدائك ، ولهذا سمي ابن العم والمعتق مولى ثم صار إسما لمن لزم الشيء ، والزمخشري في الكشاف وأبو العباس أحمد بن يوسف الشيباني الكواشي المتوفى سنة 680 في تلخيصه ، والنسفي في تفسير قوله تعالى : أنت مولانا ، والنيسابوري في غرائب القرآن في قوله تعالى : أنت مولانا. و قوله تعالى : فاعلموا أن الله مولاكم. وقوله تعالى : هي مولاكم. وقال القسطلاني في حديث مر في ص 318 عن البخاري ومسلم في قوله صلى الله عليه وآله : أنا مولاه ، أي : ولي الميت أتولي عنه أموره ، والسيوطي في تفسير الجلالين في قوله تعالى : أنت مولانا. وقوله : فاعلموا أن الله مولاكم. وقوله : لن تصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا. فهذا المعنى لا يبارح أيضا معنى الأولى لا سيما بمعناه الذي يصف به صاحب الرسالة صلى الله عليه و آله نفسه على تقدير إرادته.
    على أن الذي نرتأيه في خصوص المقام بعد الخوض في غمار اللغة ، ومجاميع الأدب ، وجوامع العربية ، إن الحقيقة من معاني المولى ليس إلا الأولى بالشيء ، وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلا بمناسبة هذا المعنى.
    1 ـ فالرب سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم خلق العالمين كما شائت حكمته ويتصرف بمشيءته.
    2 ـ والعم أولى الناس بكلائة ابن أخيه والحنان عليه وهو القائم مقام والده الذي كان أولى به.


(369)
    3 ـ وابن العم أولى بالاتحاد والمعاضدة مع ابن عمه لأنهما غصنا شجرة واحدة.
    4 ـ والابن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له قال الله تعالى : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
    5 ـ وابن الأخت أيضا أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.
    6 ـ والمعتق بالكسر أولى بالتفضل على من أعتقه من غيره.
    7 ـ والمعتق بالفتح أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره بالخضوع بالطاعة.
    8 ـ والعبد أيضا أولى بالانقياد لمولاه من غيره وهو واجبه الذي نيطت سعادته به.
    9 ـ والمالك أولى بكلائة مماليكه وأمرهم والتصرف فيهم بما دون حد الظلم.
    10 ـ والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممن لا يتبعه.
    11 ـ والمنعم عليه أولى بشكر منعمه من غيره.
    12 ـ والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الأضرار.
    13 ـ والأمر في الحليف واضح ، فهو أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ودفع عادية الجور عنه.
    14 ـ وكذلك الصاحب أولى بأن يأدي حقوق الصحبة من غيره.
    15 ـ كما أن الجار أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلها من البعداء.
    16 ـ ومثلها النزيل فهو أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم وأمن في جوارهم.
    17 ـ والصهر أولى بأن يرعي حقوق من صاهره فشد بهم أزره ، وقوي أمره ، وفي الحديث الآباء ثلاثة : أب ولدك. وأب زوجك. وأب علمك.
    18 ـ واعطف عليها القريب الذي هو أولى بأمر القريبين منه والدفاع عنهم و السعي وراء صالحهم.
    19 ـ والمنعم أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.
    20 ـ والعقيد كالحليف في أولوية المناصرة له مع عاقده ، ومثلهما.
    21 ـ المحب و 22 والناصر ، فإن كلا منهما أولى بالدفاع عمن أحبه أو إلتزم


(370)
بنصرته.
    وقد عرفت الحال في الولي 23 ـ والسيد 24 ـ والمتصرف في الأمر 25 ـ والمتولي له 26.
    إذن فليس للمولى إلا معنى واحد وهو الأولى بالشيء وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل من موارده ، فالاشتراك معنوي وهو أولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لأوضاع كثيرة غير معلومة بنص ثابت والمنفية بالأصل المحكم ، وقد سبقنا إلى بعض هذه النظرية شمس الدين ابن البطريق في العمدة ص 56 وهو أحد أعلام الطائفة في القرن السادس ، وتطفح بشيء من ذلك كلمات غير واحد من علماء أهل السنة (1) حيث ذكروا المناسبات في جملة من معاني المولى تشبه ما ذكرنا.
    ويكشف عن كون المعنى المقصود ( الأولى ) هو المتبادر من المولى إذا أطلق كما يأتي بيانه عن بعض في الكلمات حول المفاد ما رواه مسلم بإسناده في صحيحه ص 197 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقل العبد لسيده مولاي. وزاد في حديث أبي معاوية : فإن مولاكم الله. وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث في تآليفهم.

القرائن المعينة
متصلة ومنفصلة
    إلى هنا لم يبق للباحث ملتحد عن البخوع لمجئ المولى بمعنى الأولى بالشيء ، وإن تنازلنا إلى أنه أحد معاينه وأنه من المشترك اللفظي ، فإن للحديث قرائن متصلة وأخرى منفصلة تنفي إرادة غيره. فإليك البيان :

    ( القرينة الأولى ) : مقدمة الحديث وهي قوله صلى الله عليه وآله : ألست أولى بكم من أنفسكم. أوما يؤدي مؤداه من ألفاظ متقاربة ، ثم فرع على ذلك قوله : فمن كنت مولاه فعلي مولاه. وقد رواها الكثيرون من علماء الفريقين فمن حفاظ أهل السنة وأئمتهم.
1 ـ راجع ما أسلفناه عن الدرواجكي وغيره وما يأتي عن سبط ابن الجوزي وغيره ، فتجد هناك كثيرا من نظرائهما في مطاوي كلمات القوم.
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس