كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 351 ـ 360
(351)
التقدير الثاني كذبا. وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير وحينئذ يسقط الاستدلال به. تفسير الرازي 8 ص 93.
    وقال في نهاية العقول : إن المولى لو كان يجيئ بمعنى الأولى لصح أن يقرن بأحدهما كل ما يصح قرنه بالآخر ، لكنه ليس كذلك ، فامتنع كون المولى بمعنى الأولى ، بيان الشرطية : أن تصرف الواضع ليس إلا في وضع الألفاظ المفردة للمعاني المفردة ، فأما ضم بعض تلك الألفاظ إلى البعض بعد صيرورة كل واحد منهما موضوعا لمعناه المفرد فذلك أمر عقلي ، مثلا إذا قلنا : الانسان حيوان فإفادة لفظ الانسان للحقيقة المخصوصة بالوضع ، وإفادة لفظ الحيوان للحقيقة المخصوصة أيضا بالوضع ، فأما نسبة الحيوان إلى الانسان بعد المساعدة على كون كل واحد من هاتين اللفظين موضوعة للمعنى المخصوص فذلك بالعقل لا بالوضع ، وإذا ثبت ذلك فلفظة الأولى إذا كانت موضوعة لمعنى ولفظة من موضوعة لمعنى آخر ، فصحة دخول أحدهما على الآخر لا يكون بالوضع بل بالعقل.
    وإذا ثبت ذلك فلو كان المفهوم من لفظة الأولى بتمامه من غير زيادة ولا نقصان هو المفهوم من لفظة المولى ، والعقل حكم بصحة اقتران المفهوم من لفظة من بالمفهوم من لفظة الأولى ، وجب صحة اقترانه أيضا بالمفهوم من لفظة المولى لأن صحة ذلك الاقتران ليست بين اللفظين بل بين مفهوميهما.
    بيان أنه ليس كلما يصح دخوله على أحدهما صح دخوله على الآخر : إنه لا يقال : هو مولى من فلان ، ويصح أن يقال هو مولى وهما موليان ، ولا يصح أن يقال : هو أولى ـ بدون من ـ وهما أوليان. وتقول : هو مولى الرجل ومولى زيد ، ولا تقول : هو أولى الرجل وأولى زيد. وتقول : هما أولى رجلين وهم أولى رجال ، ولا تقول : هما مولى رجلين ولا هم مولى رجال. ويقال : هو مولاه ومولاك ، ولا يقال : هو أولاه وأولاك. لا يقال : أليس يقال : ما أولاه ؟ لأنا نقول : ذاك أفعل التعجب لا أفعل التفضيل ، على أن ذاك فعل وهذا إسم ، والضمير هناك منصوب وهنا مجرور ، فثبت أنه لا يجوز حمل المولى على الأولى. إنتهى.
    وإن تعجب فعجب أن يعزب عن الرازي اختلاف الأحوال في المشتقات لزوما


(352)
وتعدية بحسب صيغها المختلفة ، إن اتحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ إنما يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب وتصاريف الألفاظ وصيغها ، فالاختلاف الحاصل بين المولى والأولى بلزوم مصاحبة الثاني للباء وتجرد الأول منه إنما حصل من ناحية صيغة أفعل من هذه المادة كما أن مصاحبة من هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا ، إذن فمفاد فلان أولى بفلان ، وفلان مولى فلان واحد حيث يراد به الأولى به من غيره. كما أن ( أفعل ) بنفسه يستعمل مضافا إلى المثنى والجمع أو ضميرهما بغير أدات فيقال : زيد أفضل الرجلين أو أفضلهما ، وأفضل القوم أو أفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنما هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتحاد المعنى في الجميع ، وهكذا الحال في بقية صيغ أفعل كأعلم وأشجع وأحسن وأسمح وأجمل إلى نظائرها.
    قال خالد بن عبد الله الأزهري في باب التفضيل من كتابه التصريح : إن صحة وقوع المرادف موقع مرادفه إنما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وههنا منع مانع وهو الاستعمال ، فإن إسم التفضيل لا يصاحب من حروف الجر إلا ( من ) حاصة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : والآخرة خير وأبقى.
    على أن ما تشبث به الرازي يطرد في غير واحد من معاني المول التي ذكرها هو وغيره ، منها ما أختاره معنى للحديث وهو : الناصر. فلم يستعمل هو مولى دين الله مكان ناصره ، ولا قال عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : من موالي إلى الله. مكان قوله : من أنصاري إلى الله ، ولا قال الحواريون : نحن موالي الله. بدل قولهم : نحن أنصار الله.
    ومنها الولي فيقال للمؤمن : هو ولي الله ولم يرد من اللغة مولاه ، ويقال : الله ولي المؤمنين ومولاهم. كما نص به الراغب في مفرداته ص 555.
    وهلم معي إلى أحد معاني المولى المتفق على إثباته وهو المنعم عليه فإنك تجده مخالفا مع أصله في مصاحبة ( على ) فيجب على الرازي أن يمنعه إلا أن يقول : إن مجموع اللفظ وأداته هو معنى المولى لكن ينكمش منه في الأولى به لأمر ما دبره بليل.
    وهذه الحالة مطردة في تفسير الألفاظ والمشتقات وكثير من المترادفات على


(353)
فرض ثبوت الترادف فيقال : أجحف به وجحفه. أكب لوجهه وكبه الله. أحرس به وحرسه. زريت عليه زريا وأزريت به. نسأ الله في أجله وأنسأ أجله. رفقت به وأرفقته. خرجت به وأخرجته. غفلت عنه وأغفلته. أبذيت القوم وبذوت عليهم. أشلت الحجر وشلت به.
    كما يقال : رأمت الناقة ولدها أي عطفت عليه. إختتأ له أي خدعه. صلى عليه أي دعا له. خنقته العبرة أي غص بالبكاء. احتنك الجراد الأرض وفي القرآن : لاحتنكن ذريته. أي استولى عليها واستولين عليهم. ويقال : استولى عليه أي غلبه وتمكن منه. وكلها بمعنى واحد. ويقال : أجحف فلان بعبده أي كلفه ما لا يطاق. وقال شاه صاحب في الحديث : إن أولى في قوله صلى الله عليه وسلم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. مشتق من الولاية بمعنى الحب. ا ه‍. فيقال : أولى بالمؤمنين أي أحب إليهم. ويقال بصر به ونظر إليه و رآه وكلها واحد.
    وأنت تجد هذا الاختلاف يطرد في جل الألفاظ المترادفة التي جمعها الرماني المتوفى 384 في تأليف مفرد في 45 صحيفة ( ط مصر 1321 ) ولم ينكر أحد من اللغويين شيئاً من ذلك لمحض اختلاف الكيفية في أداة الصحبة كما لم ينكروا بساير الاختلافات الواردة من التركيب فإنه يقال : عندي درهم غير جيد. ولم يجز : عندي درهم إلا جيد. ويقال : إنك عالم. ولا يقال : إن أنت عالم. ويدخل إلى إلى المضمر دون حتى مع وحدة المعنى. ولاحظ أم وأو فإنهما للترديد ويفرقان في التركيب بأربعة أوجه. وكذلك هل والهمزة فإنهما للاستفهام ويفرقان بعشرة فوارق ، وأيان وحتى مع اتحادهما في المعنى يفرقان بثلاث. وكم وكأين بمعنى واحد ويفرقان بخمسة. وأي ومن يفرقان بستة مع اتحادهما. وعند ولدن ولدي مع وحدة المعنى فيها تفرق بستة أوجه.
    ولعل إلى هذا التهافت الواضح في كلام الرازي أشار نظام الدين النيسابوري في تفسيره بعد نقل محصل كلامه إلى قوله : وحينئذ يسقط الاستدلال به. فقال : قلت : في هذا الاسقاط بحث لا يخفى.


(354)
( الشبهة عند العلماء )
    لم تكن هذه الشبهة الرازية الداحضة بالتي تخفى على العرب والعلماء لكنهم عرفوها قبل الرازي وبعده ، وما عرفوها إلا في مدحرة البطلان ، ولذلك تراها لم تزحزحهم عن القول بمجيئ المولى بمعنى الأولى ، قال التفتازاني في شرح المقاصد ص 289 ، والقوشجي في شرح التجريد ولفظهما واحد : إن المولى قد يراد به المعتق و الحليف والجار وابن العم والناصر والأولى بالتصرف قال الله تعالى : مأويكم النار هي مولاكم. أي أولى بكم ذكره أبو عبيدة وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير ، وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر والأولى بالتصرف شايع في كلام العرب منقول عن كثير من أئمة اللغة ، والمراد أنه اسم لهذا المعنى لا أنه صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة أفعل التفضيل وأنه لا يستعمل استعماله.
    ذكرا ذلك عند تقريب الاستدلال بالحديث على الإمامة ثم طفقا يردانه من شتى النواحي عدا هذه الناحية فأبقياها مقبولة عندهما ، كما أن الشريف الجرجاني في شرح المقاصد حذا حذوهما في القبول ، وزاد بأنه رد بذلك مناقشة القاضي عضد بأن مفعلا بمعنى أفعل لم يذكره أحد فقال : أجيب عنه بأن المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر والأولى بالتصرف شايع في كلام العرب منقول من أئمة اللغة ، قال أبو عبيدة : هي موليكم أي أولى بكم ، وقال عليه السلام : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها.
    وابن حجر في الصواعق ص 24 على تصلبه في رد الاستدلال بالحديث سلم مجيئ المولى بمعنى الأولى بالشيء لكنه ناقش في متعلق الأولوية في أنه هل هي عامة الأمور ؟ أو إنها الأولوية من بعض النواحي ؟ واختار الأخير ونسب فهم هذا المعنى من الحديث إلى الشيخين أبي بكر وعمر في قولهما : أمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وحكاه عنه الشيخ عبد الحق في لمعاته ، وكذا حذا حذوه الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد القادر الشافعي في ذخيرة المآل فقال : التولي : الولاية وهو الصديق والناصر أو الأولى بالاتباع والقرب


(355)
منه كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه. وهذا الذي فهمه عمر رضي الله عنه من الحديث فإنه لما سمعه قال : هنيئا يا بن أبي طالب ؟ أمسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة.
    وسبق عن الأنباري في مشكل القرآن : إن للمولى ثمان معان أحدها : الأولى بالشيء ، وحكاه الرازي عنه وعن أبي عبيدة فقال في نهاية العقول : لا نسلم أن كل من قال : إن لفظة المولى محتملة للأولى قال بدلالة الحديث على إمامة علي رضي الله عنه ، أليس إن أبا عبيدة وابن الأنباري حكما بأن لفظة المولى للأولى مع كونهما قائلين (1) بإمامة أبي بكر رضي الله عنه ؟. ونقل الشريف المرتضى عن أبي العباس المبرد إن أصل يا ولى أي الذي هو أولى وأحق ومثله المولى ، وقال أبو نصر الفارابي الجوهري المتوفى 393 في صحاح اللغة 2 ص 564 مادة ولي في قول لبيد : إنه يريد أولى موضع أن يكون فيه الخوف. وأبو زكريا الخطيب التبريزي في شرح ديوان الحماسة 1 ص 22 في قول جعفر بن علبة الحارثي :
ألهفي بقري سجل حين أحلبت علينا الولايا والعدو المباسل
    عد من وجوه معاني المولى الثمانية (2) الولي والأولى بالشيء ، وعن عمر بن عبد الرحمن الفارسي القزويني في كشف الكشاف في بيت لبيد : إن مولى المخافة. أي أولى وأحرى بأن يكون فيه الخوف ، وعد سبط ابن الجوزي في التذكرة ص 19 ذلك من معاني المولى العشرة المستندة إلى علماء العربية ، ومثله ابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص 16 ، وذكر الأولى في طليعة المعاني التي جاء بها الكتاب وتبعه الشبلنجي في نور الأبصار ص 78 وأسند ذلك إلى العلماء. وقال شارحا المعلقات السبع : عبد الرحيم بن عبد الكريم ، ورشيد النبي في بيت لبيد : إنه أراد بولي المخافة : الأولى بها.
    وبذلك كله تعرف حال ما أسنده صاحب التحفة الاثنى عشرية إلى أهل العربية
1 ـ لا يهمنا ما يرتأيانه في الإمامة وإنما الغرض تنصيصهما بمعنى اللفظ اللغوي.
2 ـ وهي : العبد ، والسيد ، وابن العم ، والصهر ، والجار ، والحليف ، والولي ، و الأولى بالشيء.


(356)
قاطبة من إنكار استعمال المولى بمعنى الأولى بالشيء. أو يحسب الرجل أن من ذكرناهم من أئمة الأدب الفارسي ؟ أو أنهم لم يقفوا على موارد لغة العرب كما وقف عليها الشاه صاحب الهندي ؟ وليس الحكم في ذلك إلا ضميرك الحر.
    مضافا إلى أن إنكار الرازي عدم استعمال أولى مضافا ممنوع على إطلاقه لما عرفت من إضافته إلى المثنى والمجموع ، وجائت في السنة إضافته إلى النكرة ، ففي صحيح البخاري في الجزؤ العاشر ص 7 و 9 و 10 و 13 بأسانيد جمة قد اتفق فيها اللفظ عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ألحقوا الفرايض بأهلها فما تركت الفرايض فلأولى رجل ذكر. ورواه مسلم في صحيحه 2 ص 2 ، وفيما أخرجه أحمد في المسند 1 ص 313 : فلأولى ذكر ، وفي ص 335 : فلأولى رجل ذكر ، وفي نهاية ابن الأثير 2 ص 49 : لأولى رجل ذكر.
    ويعرب عما نرتأيه في حديث الغدير ما يماثله في سياقه جدا عن رسول الله صلى الله عليه وآله : ما من مؤمن إلا أنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة إقرؤا إن شئتم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فإيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني وأنا مولاه. أخرجه البخاري في صحيحه 7 ص 190 وأخرجه مسلم في صحيحه 2 ص 4 بلفظ : إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به ، فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه.

كلمة أخرى للرازي
    وللرازي كلمة أخرى صعد فيها وصوب فحسب في كتابه نهاية العقول إن أحدا من أئمة النحو واللغة لم يذكر مجيئ مفعل الموضوع للحدثان أو الزمان أو المكان بمعنى أفعل الموضوع لإفادة التفضيل. وأنت إذا عرفت ما تلوناه لك من النصوص على مجيئ مولى بمعنى الأولى بالشيء علمت الوهن في إطلاق ما يقوله هو و من تبعه كالقاضي عضد الأيجي في المواقف ، وشاه صاحب الهندي في التحفة الاثنى عشرية والكابلي في الصواقع ، وعبد الحق الدهلوي في لمعاته ، والقاضي سناء الله الپاني پتي في سيفه المسلول ، وفيهم من بالغ في النكير حتى أسند ذلك إلى إنكار أهل العربية ، و


(357)
وأنت تعلم أن أساس الشبهة من الرازي ولم يسندها إلى غيره ، وقلده أولئك عمى مهما وجدوا طعنا في دلالة الحديث على ما ترتأيه الإمامية.
    أنا لا ألوم القوم على عدم وقوفهم على كلمات أهل اللغة واستعمالات العرب لألفاظها فإنهم بعداء عن الفن ، بعداء عن العربية ، فمن رازي إلى أيجي. ومن هندي إلى كابلي. ومن دهلوي إلى پاني پتي. وأين هؤلاء من العرب الأقحاح ؟ وأين هم من العربية ؟ نعم ـ حن قدح ليس منها ـ وإذا اختلط الحابل بالنابل طفق يحكم في لغة العرب من ليس منها في حل ولا مرتحل.
إذا ما فصلت عليا قريش فلا في العير أنت ولا النفير
    أو ما كان الذين نصوا بأن لفظ المولى قد يأتي بمعنى الأولى بالشيء أعرف بمواقع اللغة من هذا الذي يخبط فيها خبط عشواء ؟ كيف لا ؟ وفيهم من هو من مصادر اللغة ، وأئمة الأدب ، وحذاق العربية ، وهم مراجع التفسير ، أو ليس في مصارحتهم هذه حجة قاطعة على أن مفعلا يأتي بمعنى أفعل في الجملة ؟ إذن فما المبرر لذلك الانكار المطلق ؟ نعم ، لأمر ما جدع قصير أنفه.
    وحسب الرازي مبتدع هذا السفسطة قول أبي الوليد ابن الشحنة الحنفي الحلبي في روض المناظر في حوادث سنة ست وستمائة من أن الرازي كانت له اليد الطولى في العلوم خلا العربية. وقال أبو حيان في تفسيره 4 ص 149 بعد نقل كلام الرازي : إن تفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها ، وهو في أكثره شبيه بكلام الذين يسمون أنسهم حكماء.
    م ـ وقال الشوكاني في تفسيره 4 ص 163 في قوله تعالى : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( القصص ) : وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل والجواب عليها يظهر للقصر فضلا عن الكامل ].
    ثم إن الدلالة على الزمان والمكان في مفعل كالدلالة على التفضيل في أفعل. وكخاصة كل من المشتقات من عوارض الهيئات لا من جوهريات المواد ، وذلك أمر غالبي يسار معه على القياس ما لم يرد خلافه عن العرب ، وأما عند ذلك فإنهم المحكمون في معاني ألفاظهم ، ولو صفي للرازي إختصاص المولى بالحدثان أو الواقع منه في الزمان


(358)
أو المكان لوجب عليه أن ينكر مجيئه بمعنى الفاعل والمفعول وفعيل وها هو يصرح بإتيانه بمعنى الناصر. والمعتق بالكسر. والمعتق بالفتح. والحليف. وقد صافقه على ذلك جميع أهل العربية وهتف الكل مجيئ المولى بمعنى الولي ، وذكر غير واحد من معانيه الشريك. والقريب. والمحب والعتيق. والعقيد. المالك. والمليك. على إن من يذكر الأولى في معاني المولى وهم الجماهير ممن يحتج بأقوالهم لا يعنون أنه صفة له حتى يناقش بأن معنى التفضيل خارج عن مفاد المولى مزيد عليه فلا يتفقان. وإنما يريدون أنه اسم لذلك المعنى ، إذن فلا شيء يفت في عضدهم.
    وهب أن الرازي ومن لف لفه لم يقفوا على نظير هذا الاستعمال في غير المولى فإن ذلك لا يوجب إنكاره فيه بعد ما عرفته من النصوص ، فكم في لغة العرب من استعمال مخصوص بمادة واحدة فمنها : كلمة عجاف جمع أعجف. فلم يجمع أفعل على فعال إلا في هذه المادة كما نص به الجوهري في الصحاح ، والرازي نفسه في التفسير ، والسيوطي في المزهر ج 2 ص 63 وقد جاء بالقرآن الكريم : وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ( سورة يوسف ) ومنه شعر العرب في مدح سيد مضر هاشم ابن عبد مناف.
عمر والعلا هشم لثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
    ومنها : إن ما كان على فعلت ( مفتوح العين ) من ذوات التضعيف متعديا مثل رددت وعددت يكون المضارع منه مضموم العين إلا ثلاثة أحرف تأتي مضمومة ومكسورة وهي : شد. ونم. وعل. وزاد بعض : بث ( أدب الكاتب ص 361 ).
    ومنها أن ضمير المثنى والمجموع لا يظهر في شيء من أسماء الأفعال كصه و مه إلا : ها [ بمعنى خذ ] فيقال : هاؤما ، وهاؤم ، وهاؤن ، وفي الذكر الحكيم قوله سبحانه : هاؤم اقرؤا كتابيه. راجع التذكرة لابن هشام ، والأشباه والنظائر للسيوطي.
    ومنها : أن القياس المطرد في مصدر تفاعل هو التفاعل بضم العين إلا في مادة ( التفاوت ) فذكر الجوهري فيها ضم الواو أولا ثم نقل عن ابن السكيت عن الكلابيين فتحه ، وعن الغنبري كسره ، وحكي عن أبي زيد الفتح والكسر كما في أدب الكاتب ص 59 ، ونقل السيوطي في المزهر 2 ص 39 : الحركات الثلاث.


(359)
    ومنها : أن المطرد في مضارع فعل بفتح العين الذي مضارعه يفعل بكسره أنه لا يستعمل مضموم العين إلا في وجد فإن العامريين ضموا عينه كما في الصحاح وقال شاعرهم لبيد :
لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة فدع الصوادي لا يجدن غليله
    وصرح به ابن قتيبة في أدب الكاتب ص 361 ، والفيروز آبادي في القاموس 1 ص 343 ، وفي المزهر 2 ص 49 عن ابن خالويه في شرح الدريدية إنه قال : ليس في كلام العرب فعل يفعل مما فاؤه واو إلا حرف واحد : وجد يجد.
    ومنها : إن اسم الفاعل من أفعل لم يأت على فاعل إلا أبقل. وأورس. وأيفع فيقال : أبقل الموضع فهو بأقل.
    وأورس الشجرة فهو وارس. وأيفع الغلام فهو يافع : كذا في المزهر 2 ص 40 ، وفي الصحاح : بلد عاشب ولا يقال في ماضية إلا أعشبت الأرض. ومنها : إن اسم المفعول من أفعل لم يأت على فاعل إلا في حرف واحد وهو قول العرب : أسأمت الماشية في المرعى فهي سائمة. ولم يقولوا : مسأمة. قال تعالى : فيه تسيمون. من أسام يسيم. ذكره السيوطي في المزهر 2 ص 47. وتجد كثيرا من أمثال هذه من النوادر في المخصص لابن سيدة ، ولسان العرب ، وذكر السيوطي في المزهر ج 2 منها أربعين صحيفة.

جواب الرازي عما أثبتناه
    هناك للرازي جواب عن هذه كلها يكشف عن سوئة نفسه قال في نهاية العقول : وأما الذي نقلوا عن أئمة اللغة من : أن المولى بمعنى الأولى فلا حجة لهم ، إذ أمثال هذا النقل لا يصلح أن يحتج به في إثبات اللغة فنقول : إن أبا عبيدة وإن قال في قوله تعالى : مأويكم النار هي مولاكم : معناه هي أولى بكم.
    وذكر هذا أيضا الأخفش ، و الزجاج ، وعلي بن عيسى ، واستشهدوا ببيت لبيد ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق ، لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه إلا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى مرسلا غير مسند ، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة. إنتهى.


(360)
    ليت شعري من ذا الذي أخبر الرازي : إن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق ؟ وهل يطرد عنده قوله في كل ما نقل عنهم من المعاني اللغوية ؟ أو إن له مع لفظ المولى حسابا آخر ؟ وهل على اللغوي إذا أثبت معنى إلا الاستشهاد ببيت للعرب ؟ أو آية من القرآن الكريم ؟ وقد فعلوه.
    وكيف تخذ عدم ذكر الخليل وأضرابه حجة على التسامح ؟ بعد بيان نقله عن أئمة اللغة.
    وليس من شرط اللغة أن يكون المعنى مذكورا في جميع الكتب ، وهل الرازي يقتصر فيها على كتاب العين وأضرابه ؟ ومن ذا الذي شرط في نقل اللغة عنعنة الاسناد ؟ وهل هو إلا ركون إلى بيت شعر ؟ أو آية كريمة ؟ أو سنة ثابتة ؟ أو استعمال مسموع ؟ وهل يجد الرازي خيرا من هؤلاء لتلقي هاتيك كلها ؟ وما باله لا يقول مثل قوله هنا إذا جاءه أحد من القوم بمعنى من المعاني العربية ؟ أقول : لأن له في المقام مرمى لا يعدوه.
    وهل يشترط الرجل في ثبوت المعنى اللغوي وجوده في المعاجم اللغوية فحسب ؟ بحيث لا يقيم له وزنا إذا ذكر في تفسير آية ، أو معنى حديث ، أو حل بيت من الشعر ، ونحن نرى العلماء يعتمدون في اللغة على قول أي ضليع في العربية حتى الجارية الأعرابية (1) ولا يشترط عند الأكثر بشيء من الإيمان والعدالة والبلوغ ، فهذا القسطلاني يقول في شرح البخاري 7 ص 75 : قول الشافعي نفسه حجة في اللغة.
    وقال السيوطي في المزهر 1 ص 77 : حكم نقل واحد من أهل اللغة القبول.
    وحكى في ص 83 عن الأنباري قبول نقل العدل الواحد ولا يشترط أن يوافقه غيره في النقل.
    وفي ص 87 بقول شيخ أو عربي يثبت اللغة.
    وحكى في ص 27 عن الخصايص لابن جني قوله : من قال : إن اللغة لا تعرف إلا نقلا فقد أخطأ فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا ، فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر :
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
    يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات. وذكر أيضا ثبوت اللغة بالقرينة وبقول شاعر عربي. فهذه المصادر كلها موجودة في لفظ المولى غير أن الرازي لا يعلم أن اللغة بماذا
1 ـ راجع المزهر 1 ص 83 و 84.
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس