كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 151 ـ 160
(151)
يا معشر قريش ؟ والله ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم ، هو والله شانئ رسول الله صلى الله عليه وآله إني آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينه ويكثر منه عويله. فكتب عامل معاوية إليه بذلك فلما بلغه أن غانمة قد قربت منه أمر بدار ضيافة فنظفت و ألقي فيها فرش ، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلما دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم فقال لها يزيد : إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته وكان لا تعرفه فقالت : من أنت ؟ كلأك الله. قال : يزيد بن معاوية. قالت : فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد. فتعمر لون يزيد فأتى أباه فأخبره فقال : هي أسن قريش وأعظمهم. فقال يزيد : كم تعد لها يا أمير المؤمنين ؟ قال : كانت تعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة عام وهي من بقية الكرام ، فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلم عليها فقالت : على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت : من منكم ابن العاص ؟ (1) قال عمرو : ها أنا ذا. فقالت : وأنت تسب قريشا وبني هاشم ؟ وأنت أهل السب وفيك السب وإليك يعود السب يا عمرو ؟ إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك وإني أذكر لك ذلك عيبا عيبا : ولدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء ، تبول من قيام ، وتعلوها اللئام ، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته ، ركبها في يوم واحد أربعون رجلا ، وأما أنت فقد رأيتك غاويا غير راشد ، ومفسدا غير صالح ، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرت ولا أنكرت ، وأما أنت يا معاوية ؟ فما كنت في خير ولا ربيت في خير ، فمالك ولبني هاشم ؟ أنساء بني أمية كنسائهم ؟! الحديث. وهو طويل وقد حذفنا من أوله مقدار ما ذكر ، راجع [ المحاسن والأضداد ] للجاحظ ص 102 ـ 104 ، وفي ط 118 ـ 121 و [ المحاسن والمساوي ] للبيهقي 1 ص 69 ـ 71.
    هذه حقيقة الرجل ونفسياته وروحياته منذ العهد الجاهلي وفي دور النبوة وبعده إلى ما أثاره من فتن إلتفت بها حلقتا البطان في أيام أمير المؤمنين عليه السلام يوم تحيزه إلى ابن آكلة الأكباد لدحض الحق وأهله ، وما كان يتحرى فيها من الغوائل وبعدها إلى أن ، اصطلمه القدر الحاتم ، واخترمته منيته يوم خابت أمنيته
1 ـ في لفظ الجاحظ : أفيكم عمرو بن العاص ؟.

(152)
فطفق يتغلل بين أطباق الجحيم وتضربه زبانيتها بمقامع من حديد ، ولعلنا ألمسناك هذه الحقيقة باليد فلن تجد في تضاعيف هاتيك الأعوام له مأثرة يتبجح بها ابن أنثى خلا ما تقوله زبائنه من أعداء أهل البيت عليهم السلام ، وما عسى أن يكون مقيلها من ظل الحق ؟ بعد ما أثبتناه من الحقيقة الراهنة ، ووقفنا عليه من أحوال رواة السوء و شناشنهم في افتعال المدايح للزعانفة المؤتلفة معهم في النزعات الباطلة.
    وأما تأميره في غزوة ذات السلاسل فلا يجديه نفعا بعد ما علمناه من أنه كان يتظاهر بالاسلام ويبطن النفاق في طيلة حياته ، وما كان الصالح العام والحكمة الإلهية يحدوان رسول الله صلى الله عليه وآله على العمل بالبواطن ، وإنما يجاري القوم مجاري ظواهرهم لأنهم حديثو عهد بالجاهلية ، والاسلام لما يتحكم في أفئدتهم ، فلو كاشفهم على السرائر ، لانتكصوا على أعقابهم ، وتقهقروا إلى جاهليتهم الأولى ، فكان يسايرهم على هذا الظاهر لعلهم يتمرنوا باعتناق الدين ، ويأخذ من قلوبهم محله ، ولذلك أنه صلى الله عليه وآله كان يعلم بنفاق كثير من أصحابه كما أخبره الله تعالى بقوله : و من أهل المدينة مردوا على النفاق. إلى غيرها من الآيات الكريمة ، لكنه يستر عليهم رعاية لما أبرمه حذار الانتكاث ، فكان تأمير عمرو مع علمه بنفاقه لتلك الحكمة البالغة غير ملازم لحسن حاله على ما عرفته من كلام مولانا أمير المؤمنين من أنه صلى الله عليه وآله لما عقد له الراية شرط عليه شرطا قد أخلفه.
    ويعرب عن حقيقة ما نرتأيه قول أبي عمرو وغيره : إن عمرو بن العاص ادعى على أهل الاسكندرية أنهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم ، فعهد إليها فحارب أهلها وافتتحها ، وقتل المقاتلة ، وسبى الذرية ، فنقم ذلك عليه عثمان ، ولم يصح عنده نقضهم العهد ، فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم ، وعزل عمروا عن مصر وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مصرا بدله ، فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان ، فلما بدا بينهما من الشر ما بدا اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله ، وكان يأتي المدينة أحيانا ويطعن على عثمان (1) و
1 ـ الاستيعاب 2 ص 435 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 112.

(153)
    ولى عمر عمرو بن العاص على مصر وبقي واليا عليها إلى أول خلافة عثمان ، سعر عليه الدنيا نارا ، ولما أتاه قتله قال : أنا أبو عبد الله إذا نكأت (1) قرحة أدميتها. ثم إن عثمان عزله عن الخراج واستعمله على الصلاة ، واستعمل على الخراج عبد الله ابن سعد بن أبي سرح ، ثم جمعهما لعبد الله بن سعد وعزل عمروا ، فلما قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان فأرسل إليه يوما عثمان خاليا به. فقال : يا بن النابغة ؟ ما أسرع ما قمل جربان (2) جبتك ؟ إنما عهدك بالعمل عام أول ، أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بالآخر ؟ والله لولا أكلة ما فعلت ذلك. فقال عمرو : إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ؟ في رعيتك. فقال عثمان : والله لقد استعملتك على ظلعك (3) وكثرة القالة فيك. فقال عمرو : قد كنت عاملا لعمر ابن الخطاب ففارقني وهو عني راض. فقال عثمان : وأنا والله لو أخذتك بما أخذك به عمر لاستقمت ، ولكني لنت لك فاجترأت علي. فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان. ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان. ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان. ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان.
    ولما قصد الثوار إلى المدينة أخرج لهم عثمان عليا فكلمهم فرجعوا عنه وخطب عثمان الناس فقال : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم ، فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد : إتق الله يا عثمان ؟ فإنك قد ركبت نهابير (4) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ، فناداه عثمان فقال : وإنك هناك يا بن النابغة ؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل. و في لفظ البلاذري في الأنساب : يا بن النابغة ؟ وإنك ممن تؤلب علي الطغام لأني عزلتك عن مصر.
    فلما كان حصر عثمان الأول خرج عمرو من المدينة حتى إنتهت إلى أرض له
1 ـ نكأ القرحة : قشرها قبل أن تبرأ.
2 ـ جربان الجبة بضم الميم والراء وكسرهما وتشديد الباء جيبها.
3 ـ أي على ما فيك من عيب وميل. والظلع في الأصل غمز البعير في مشيه.
4 ـ جمع نهبورة بالضم : المهلكة.


(154)
بفلسطين يقال لها : السبع. فنزل بها ، وكان يقول : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ، والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه. وفي لفظ البلاذري : وجعل يحرض الناس على عثمان حتى رعاة الغنم. فبينما هو بقصره بفلسطين إذ مر به راكب من المدينة فسأله عمرو عن عثمان فقال : تركته محصورا. قال عمرو : أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار ، فلما بلغه مقتل عثمان قال عمرو : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع ، من يلي هذا الأمر من بعده ؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبا ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق (1) وهو أكره من يليه إلي.
    فلما بلغه أن عليا قد بويع له ، فاشتد عليه وتربص لينظر ما يصنع الناس ، ثم نمى إليه معاوية بالشام يأبى أن يبايع عليا ، وإنه يعظم قتل عثمان ويحرض على الطلب بدمه ، فاستشار ابنيه عبد الله ومحمدا في الأمر ، وقال : ما تريان ؟ أما علي فلا خير عنده وهو رجل يدل (1) بسابقته ، وهو غير مشركي في شيء من أمره. فقال عبد الله ابن عمرو : توفي النبي صلى الله عليه وآله وهو عنك راض ، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وهو عنك راض ، وتوفي عمر رضي الله عنه وهو عنك راض ، أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو : أنت ناب من أنياب العرب فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس ذلك فيه صوت ولا ذكر. قال عمرو : أما أنت يا عبد الله ؟ فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي ، وأسلم في ديني ، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي أنبه لي في دنياي ، وأشر لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه إبناه حتى قدم على معاوية ، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان ، فقال عمرو بن العاص : أنتم على الحق ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو ، فقال ابنا عمرو لعمرو : ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك ؟! إنصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال : والله لعجب لك إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني ، أم والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها ، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية
1 ـ استنظف الشئ. أخذ كله.
2 ـ أدل وتدلل : انبسط واجترأ.


(155)
وعطف عليه.
    أنساب الأشراف للبلاذري 5 ص 74 ، 87 ، تاريخ الطبري 5 ص 108 ـ 111 و 224 ، كامل ابن الأثير 3 ص 68 ، تذكرة السبط ص 49 ، جمهرة رسائل العرب 1 ص 388.
    وكان بعد تلك المساومة المشؤمة يحرض الناس على قتل الإمام أمير المؤمنين كما فعله على عثمان حتى قتله وافتخر به بقوله : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع : ثم جعل قميصه وسيلة النيل إلى الرتبة والراتب وقام بطلب دمه قائلا : إن في النفس من ذلك ما فيها. وممن حث على أمير المؤمنين وألبه حريث مولى معاوية بن أبي سفيان قال ابن عساكر في تاريخه 4 ص 113 : قال معاوية لحريث : إتق عليا ثم ضع رمحك حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص : إنك والله يا حريث ؟ لو كنت قرشيا لأحب معاوية أن تقتل عليا ولكن كره أن يكون لها حظها ، فإن رأيت منه فرصة فاقتحم عليه.
    ولما قتل أمير المؤمنين عليه السلام استبشر بذلك وبشره به سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص قال ابن عساكر في تاريخه 6 ص 181 : لما طعن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ذهب سفيان يبشر معاوية وعمرو بن العاص بقتله فكتب معاوية إلى عمرو وهو يقول :
وقتك وأسباب المنون كثيرة فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه نجوت وقد بل المرادي سيفه ويضربني بالسيف آخر مثله وأنت تناغي كل يوم وليلة منية شيخ من لوي بن غالب وصاحبه دون الرجال الأقارب من ابن أبي شيخ الأباطح طالب فكانت عليه تلك ضربة لازب بمصرك بيضا كالظباء الشوازب
    هذه نفسية الرجل وتمام حقيقته اللائحة على تجارته البائرة ، وصفقته الخاسرة ، وبضاعته المزجاة من الدين المبطن بالإلحاد ، والمكتنف بالنفاق ، ولو لم يكن كذلك لما اقتنع بتلك المساومة ، وهو يعرف الثمن والمثمن ، ويعلم سابقة أمير المؤمنين وفضله وقرابته ويقول : إن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق. ومع ذلك يظهر بغضه وعداه بقوله : وهو أكره من يليه إلي. ويعترف بالحق ويتحيز إلى خلافه ، و


(156)
يعرف الموضع الصالح للخلافة ثم يميل مع الهوى ويقول : إنما أردنا هذه الدنيا. فيبيع دينه لمعاوية بثمن بخس ( مصر وكورها ) ويؤلب الناس على الإمام الطاهر بنص الكتاب العزيز ، ويسر بقتله ، ولقد صارح بكل ذلك صراحة لا تقبل التأويل وهي مستفاد من نصوصه ونصوص الصحابة الأولين ، وبها عرف في التاريخ الصحيح كما سمعت من دون أي استنباط أو تحوير ، فلا بارك الله في صفقة يمينه ، ولا غار له بخير.

    حديث شجاعته
    لم نعهد لابن النابغة موقفا مشهودا في المغازي والحروب سواء في ذلك : العهد الجاهلي ، ودور النبوة ، وأما وقعة صفين فلم يؤثر عنه سوى مخزات سوئته مع أمير المؤمنين ، وفراره من الأشتر ، وقد بقي عليه عار الأولى مدى الحقب والأعوام ، وجرى بها المثل وغنى بها أهل الحجاز وجاء في شعر عتبة بن أبي سفيان :
سوى عمرو وقته خصيتاه نجى ولقلبه منه وجيب
    وفي شعر معاوية بن أبي سفيان يذكر عمرا وموقفه كما يأتي :
فقد لاقى أبا حسن عليا فلو لم يبد عورته للاقى فآب الوائلي مآب خازي به ليثا يذلل كل غازي
    وفي شعر الحارث بن نصر السهمي :
فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه هما كانتا للنفس والله واقيه
وفي شعر الأمير أبي فراس :
ولا خير في دفع الردى بمذلة كما ردها يوما بسوئته عمرو
وفي شعر الزاهي البغدادي :
وصد عن عمرو بسر كرما إذ لقيا بالسوأتين من شخص
وقال آخر :
ولا خير في صون الحياة بذلة كما صانها يوما بذلته عمرو
وقال عبد الباقي الفاروقي العمري :
وليلة الهرير قد تكشفت عن سوءة ابن العاص لما غلبا


(157)
فحاد عنه مغضبا حيدرة ولو يشأ ركب فيه زجة وعف والعفو شعار النجبا تركيب مزجي كمعدي كربا
    وكان قد تكرر منه هذا العمل المخزي كما سيأتي ، ولو كان للرجل شيء من البسالة لجبه معيريه بتعداد مشاهده ، وسلقهم بلسان حديد ، وهو ذلك الصلف المفوه ، وفيما أمر من الحروب كان الزحف للجيش الباسل دونه ، فلم يسط أمامه ، وإنما كان رئيا في أمرهم يدير وجه الحيلة فيه ، كما أنه كان في صفين كذلك لم يبارح سرادق معاوية وطفق يبديه دهائه إلا في موقفين سيوافيك تفصيلهما ، ولذلك كله اشتهر بدهاء دون الشجاعة. قال البيهقي في [ المحاسن والمساوي ] 1 ص 39 : قال عمرو بن العاص لابنه عبد الله يوم صفين : تبين لي هل ترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؟ قال عبد الله : فنظرت إليه فرأيته فقلت : يا أبه ؟ ها هو ذاك على بغلة شهباء عليه قباء أبيض وقلنسوة بيضاء. قال فاسترجع وقال : والله ما هذا بيوم ذات السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا بيوم أجنادين ، وددت أن بيني وبين موقفي بعد المشرقين.
    هذا هو الذي عرفه منه معاصروه ، وستقف على أحاديثهم ، نعم جاء ابن عبد البر بعد لأي من عمر الدهر فتهجس في ( الاستيعاب ) فعده من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورا بذلك فيهم. ولعل ابن منير (1) المولود بعد ابن عبد البر بعشر سنين وقف على كلامه في ( الاستيعاب ) وحكمه ببطولة الرجل فقال في قصيدته التترية :
وأقول إن أخطأ معاوية هذا ولم يغدر معاوية بطل بسوءته يقاتل فما أخطأ القدر ولا عمرو مكر لا بصارمه الذكر
    فإليك ما يؤثر في مواقفه حتى ترى عيه عن القحوم إلى الفوارس في مضمار النضال والدنو من نقع الحومة ، وتقف على حقيقته من هذه الناحية أيضا ، وتعرف قيمة كلام ابن حجر في ( الإصابة ) 3 ص 2 من : أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقربه ويدنيه لمعرفته وشجاعته ، ولا نسائله متى قربه وأدناه.
1 ـ أحد شعراء الغدير في قرن السادس تأتي هناك قصيدته التترية وترجمته.

(158)
أمير المؤمنين وعمرو
في معترك القتال بصفين
    كان عمرو بن العاص عدو للحرث بن نضر الخثعمي ، وكان من أصحاب علي عليه السلام ، وكان علي قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم بشجاعته وامتنع كل منهم من الإقدام عليه وكان عمرو ما جلس مجلسا إلا ذكر فيه الحرث بن نضر الخثعمي وعابه فقال الحرث :
ليس عمرو بتارك ذكره الحرث واضع السيف فوق منكبه الاي‍ ليت عمرا يلقاه في حومة النقع حيث يدعو البراز حامية القوم فوق شهب مثل السحوق من ثم يا عمرو تستريح من الفخر فالقه إن أردت مكرمة الدهر مدى الدهر أو يلاقي عليا من لا يحسب الفوارس شيا وقد أمست السيوف عصيا إذا كان بالبراز مليا النخل ينادي المبارزين : إليّا وتلقى به فتى هاشميا أو الموت كل ذاك عليا
    فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمرا فأقسم بالله ليلقين عليا ولو مات ألف موتة. فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم علي وهو مخترط سيفا ، معتقل رمحا ، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه ، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغرا برجليه ، كاشفا عورته ، فانصرف عنه علي لاقتا وجهه ، مستدبرا له ، فعد الناس ذلك من مكارم علي وسؤدده ، وضرب بها المثل.
    كتاب صفين لابن مزاحم ص 224 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 110.
    وقال ابن قتيبة في ـ الإمامة السياسة ـ 1 ص 91 : ذكروا أن عمرا قال لمعاوية : أتجبن عن علي وتتهمني في نصيحتي إليك ؟؟!! والله لأبارزن عليا و لو مت ألف موتة في أول لقائه ، فبارزه عمرو فطعنه علي فصرعه ، فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي وولى بوجهه دونه ، وكان علي رضي الله عنه لم ينظر قط إلى عورة أحد حياء
1 ـ سحقت النخلة: طالت. فهي سحوق بالفتح ج سحق بالضم.

(159)
وتكرما وتنزها عما لا يحل ، ولا يجل بمثله كرم الله وجهه.
    وقال المسعودي في مروج الذهب 2 ص 25 : إن معاوية أقسم على عمرو لما أشار عليه بالبراز إلى أن يبرز إلى علي فلم يجد عمرو من ذلك بدا فبرز ، فلما التقيا عرفه علي وشال السيف ليضربه به فكشف عمرو عن عورته وقال : مكره أخوك لأبطل. فحول علي وجهه وقال : قبحت. ورجع عمرو إلى مصافه.
    اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفين عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن عامر ، وابن طلحة الطلحات الخزاعي ، فقال عتبة : إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب ، ما فينا إلا موتور مجتاح ، أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر ، وأما أنت يا وليد ؟ فقتل أباك صبرا ، وأما أنت يا ابن عامر فصرع أباك وسلب عمك ، وأما أنت يا بن طلحة ؟ فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك ، وأما أنت يا مروان ، فكما قال الشاعر (1).
وأفلتهن علباء جريضا ولو أدركته صفر الوطاب (2)
    فقال معاوية : هذا الاقرار فأي غير غيرت ؟ قال مروان : وأي غير تريد ؟! قال : أريد أن تشجروه بالرماح. قال : والله يا معاوية ؟ ما أراك إلا هاذيا أو هاذئا وما أرانا إلا ثقلنا عليك. فقال ابن عقبة :
يقول لنا معاوية بن حـرب يشد على أبي حسن عـلي فيهتك مجمع اللبات منه فقلت له : أتلعب يا بن هند ؟ أما فيكم لواتركم طلوب بأسمر لا تهجنه العكوب (3) ونقع القوم مطرد يثوب كأنك بيننا رجل غريب

1 ـ البيت لامرؤ القيس ، قوله. صفر الوطاب. مثل يضرب لمن مات أو قتل.
2 ـ أفلته : خلصه وأطلقه. أفلت : تخلص. علباء من علب اللحم : تغيرت رائحته بعد اشتداده. الجريض : المشرف على الهلاك. الصفر بالحركات الثلاث : الخالي. الوطب : سقاء اللبن ج وطاب.
3 ـ هجنه الأمر : قبحه وعابه. العكوب بالفتح : الغبار.


(160)
أتغرينا بحية بطن واد وما ضبع يدب ببطن واد بأضعف حيلة منا إذا ما دعا للقاه في الهيجاء لاق سوى عمرو وقته خصيتاه كأن القوم لما عاينوه كعمرو أي معاوية بن حرب لقد ناداه في الهيجا علي إذا نهشت فليس لها طبيب أتيح (1) له به أسد مهيب لقيناه ولقياه عجيب فأخطأ نفسه الأجل القريب نجى ولقلبه منـه وجيب خلال النقع ليس لهم قلوب وما ظني ستلحقـه العيوب فأسمعه ولكن لا يجيب
    فغضب عمرو وقال : إن كان الوليد صادقا فليلق عليا ، أو فليقف حيث يسمع صوته وقال عمرو:
يذكرني الوليد دعا علي متى يذكر مشاهـده قريش فأما في اللقاء فأين منه وعير في الوليـد لقاء ليث لقيت ولست أجهله عليا فأطعنه ويطعنني خلاسا (4) فرمها أنت يا بن أبي معيط وأقسم لو سمعت ندا علي ولو لاقيته شقت جيوب وبطن المرء يملأه الوعيد يطر من خوفه القلب الشديد معاوية بن حرب والوليد إذا ما زار (2) هابته الأسود وقد بلت من العلق اللبود (3) وماذا بعد طعنته أريد ؟ وأنت الفارس البطل النجيد (5) لطار القلب وانتفخ الوريد عليك ولطمت فيك الخدود (6)

1 ـ تاح تيحا وتوحا : قدر وتهيأ. رجل متيح : أي لا يزال يقع في بلية.
2 ـ من الزئير : صوت الأسد.
3 ـ اللبد بالكسر : الشعر المجتمع بين كفي الأسد. ما يجعل على ظهر الفرس تحت السرج ج لبود والباد.
4 ـ يقال : الرجلان يتخالسان : أي يروم كل منهما قتل صاحبه.
5 ـ النجيد : الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.
6 ـ كتاب صفين ص 222 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 110 ، تذكرة السبط ص 51.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس