كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 141 ـ 150
(141)
عمرو : أما أنت يا عبد الله ؟ فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأما أنت يا محمد ؟ فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه ، فلما جنه الليل رفع صوته وأهله ينظرون إليه :
تطاول ليلي للهموم الطوارق وإن ابن هند سائلي أن أزوره أتاه جرير من علي بخطة فإن نال مني ما يؤمل رده فوالله ما أدري وما كنت هكذا أخادعه إن الخداع دنية أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة وقد قال عبد الله قولا تعلقت وخالفه فيه أخوه محمد وخوف التي تجلو وجوه العوائق وتلك التي فيها بنات البوائق أمرت عليه العيش ذات مضائق وإن لم ينله ذل ذل المطابق أكون ومهما قادني فهو سائقي أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق لشيخ يخاف الموت في كل شارق به النفس إن لم تقتطعني عوائقي وإني لصلب العود عند الحقائق
    فقال عبد الله : رحل الشيخ. وفي لفظ اليعقوبي : بال الشيخ على عقبيه وباع دينه بدنياه : فلما أصبح دعا عمرو غلامه ( وردان ) وكان داهيا ماردا فقال : ارحل يا وردان ؟ ثم قال : حط يا وردان ؟ ثم قال : ارحل يا وردان ؟ حط يا وردان ؟ فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ؟ أما إنك إن شئت أنبأتك بما في نفسك. قال : هات ويحك : قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض الآخرة ، فأنت واقف بينهما. قال : فإنك والله ما أخطأت فما ترى يا وردان ؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال الآن لما شهدت العرب مسيري إلى معاوية ، فارتحل وهو يقول :
يا قاتل الله وردانا وفطنته لما تعرضت الدنيا عرضت لها نفس تعف وأخرى الحرص يقلبها (1) أبدى لعمرك ما في النفس وردان بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان والمرء يأكل تبنا وهو غرثان (2)

1 ـ في شرح ابن أبي الحديد : يغلبها.
2 ـ غرث غرثا : جاع. فهو غرثان ج غرثى وغراث وغراثي.


(142)
أما علي فدين ليس يشركه فاخترت من طمعي دنيا على إني لأعرف ما فيها وأبصره لكن نفسي تحب العيش في شرف عمرو لعمر أبيه غير مشتبه دنيا وذاك له دنيا وسلطان بصر وما معي بالذي أختار برهان وفي أيضا لما أهواه ألوان وليس يرضى بذل العيش إنسان والمرء يعطس والوسنان وسنان
    فسار حتى قدم على معاوية وعرف حاجة معاوية إليه فباعده من نفسه وكايد كل واحد منهما صاحبه ، فلما دخل عليه قال : يا أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا هذه ثلثة أخبار ليس فيها ورد ولا صدر. قال : وما ذاك ؟ قال ذاك : أن محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين. ومنها : إن قيصر زحف بجماعة الروم إلي ليغلب على الشام. ومنها : إن عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير إلينا. قال : ليس كل ما ذكرت عظيما ، أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه خيلا تقتله أو تأتيك به وإن فاتك لا يضرك ؟ وأما قيصر فاهد له من وصفاء (1) الروم ووصائفها وآنية الذهب والفضة وسله الموادعة فإنه إليها سريع. وأما علي فلا والله يا معاوية ؟ ما تستوي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه.
    وفي رواية أخرى قال معاوية يا أبا عبد الله ؟ إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة ، وأظهر الفتنة ، وفرق الجماعة ، وقطع الرحم. قال عمرو : إلى من ؟ قال : إلى جهاد علي. فقال عمرو : والله يا معاوية ؟ ما أنت وعلي بعكمي (2) بعير ، مالك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه ، و الله إن له مع ذلك حدا وحدودا وحظا وحظوة وبلاء من الله حسنا ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ؟ وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر. قال : حكمت. قال : مصر طعمة. فتلكأ عليه (3).
1 ـ الوصيف. الغلام دون المراهق ج وصفاء. مؤنثه الوصيفة ج وصائف.
2 ـ العكم بالكسر : العدل بالكسر.
3 ـ تلكأ عن الأمر. أبطأ وتوقف.


(143)
    وفي حديث : قال له معاوية : إني أكره لك أن يتحدث العرب عنك : إنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال دعني عنك (1) قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمر : لا لعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : ادن مني برأسك أسارك. قال : فدنا منه عمرو ويسار فعض معاوية أذنه ، وقال : هذه خدعة ، هل ترى في البيت أحدا غيري وغيرك ؟ فأنشأ عمرو يقول :
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل فإن تعطني مصرا فاربح بصفقة وما الدين والدنيا سواء وإنني ولكنني أغضي الجفون وإنني وأعطيك أمرا فيه للملك قوة وتمنعني مصرا وليست برغبة (3) بذلك دنيا فانظرن كيف تصنع أخذت بها شيخا يضر وينفع (2) لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع لأخدع نفسي والمخادع يخدع وإني به إن زلت النعل أصرع وإني بذا الممنوع قدماً لمولع
     قال : أبا عبد الله ؟ ألم تعلم أن مصرا مثل العراق ؟ قال : بلى ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق ، وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى علي قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان فقال لمعاوية : أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك ؟ ليتك لا تغلب على الشام. فقال معاوية : يا عتبة ؟ بت عندنا الليلة فلما جن على عتبة الليل رفع صوته ليسمع معاوية وقال :
أيها المانع سيفا لم يهز إنما أنت خروف مائل أعط عمرا إن عمرا تارك يا لك الخير فخذ من دره إنما ملت على خز وقـز بين ضرعين وصوف لم يجز دينه اليوم لدنيا لم تحز شخبه الأولى وأبعد ما غرز (4)

1 ـ مر تحليل هذه الكلمة ص 126.
2 ـ البيتان يوجدان في عيون الأخبار لابن قتيبة 1 ص 181.
3 ـ الرغبة بكسر المهملة وفتحها : العطاء الكثير.
4 ـ الشخب : ما يخرج من تحت يد الحالب. الشخبة : الدفعة منه ج شخاب : غرزا الغنم : ترك حلبها لتسمن.


(144)
واسحب الذيل وبادر فوتها أعطه مصرا وزده مثـلها واترك الحرص عليها ضلة إن مصرا لعلي ولنا وانتهـزها إن عمرا ينتهز (1) إنما مصر لمن عز فبز (2) واشبب النار لمغرور يكز تغلب اليوم عليها من عجز
    فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو فأعطاه مصراً فقال له عمرو : لي الله عليك بذلك شاهد. قال له معاوية : نعم لك الله علي بذلك لئن فتح الله علينا الكوفة. قال عمرو : والله على ما نقول وكيل. فخرج عمرو من عنده فقال له إبناه : ما صنعت ؟ قال : أعطانا مصر. قالا : وما مصر في ملك العرب ؟ !. قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم يشبعكما مصر ، وكتب معاوية على أن لا ينقض شرط طاعة. وكتب عمرو على أن لا ينقض طاعة شرطا. فكايد كل واحد منهما صاحبه.
    كتاب صفين لابن مزاحم ص 20 ـ 24 ، كامل المبرد 1 ص 221 ، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 136 ـ 138 ، تاريخ اليعقوبي 2 ص 161 ـ 163 ، رغبة الآمل من كتاب الكامل 3 ص 108 ، قصص العرب 2 ص 362.

15 ـ عمار بن ياسر وعمرو
    اجتمع عمار بن ياسر مع عمرو بن العاص في المعسكر يوم صفين ، فنزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمايل سيوفهم فتشهد عمرو بن العاص ( يعني قال : أشهد أن لا إله إلا الله ) فقال عمار : اسكت فقد تركتها في حياة محمد ومن بعده ، ونحن أحق بها منك ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك ، وإن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك ، وتكفرك قبل القيام ، و تشهد بها على نفسك ، ولا تستطيع أن تكذبني. قال عمرو : يا أبا اليقظان ؟ ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم ، وحقنت دمائهم وحرضت على ذلك فعلام تقاتلنا ؟! أو لسنا نعبد إلها واحدا ؟ ونصلي قبلتكم ، وندعو ودعوتكم ؟ ونقرأ كتابكم ؟ ونؤمن برسولكم ؟ قال عمار : الحمد
1 ـ يقال : جاء يسحب ذيله : أي يمشي متبخترا انتهز : ابتدر واغتنم.
2 ـ بزه غلبه. بز الشيئ منه : أخذه بجفاء وقهر.


(145)
لله الذي أخرجها من فيك إنها لي ولأصحابي القبلة ، والدين وعبادة الرحمن ، والنبي والكتاب ، من دونك ودون أصحابك ، الحمد لله الذي قررك لنا بذلك دونك ودون أصحابك ، وجعلك ضالا مضلا لا تعلم هاد أنت أم ضال ، وجعلك أعمى ، وسأخبرك على ما قاتلتك عليه أنت وأصحابك ، أمرني رسول الله أن أقاتل الناكثين وقد فعلت ، و أمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم ، وأما المارقين فما أدري أدركهم أم لا.
    أيها الأبتر ؟ ألست تعلم أن رسول الله قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه ، أللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ؟! وأنا مولى الله ورسوله وعلي من بعده وليس لك مولى. قال له عمرو : لم تشتمني يا أبا اليقظان ؟ ولست أشتمك ، قال عمار : وبم تشتمني ؟ أتستطيع أن تقول : إني عصيت الله ورسوله يوما قط ؟ قال له عمرو : إن فيك لمسبات سوى ذلك. قال عمار : إن الكريم من أكرمه الله ، كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقواني الله ، وفقيرا فأغناني الله. وقال له عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال فتح لكم باب كل سوء. قال عمرو : فعلي قتله. قال عمار : بل الله رب علي قتله. (1)
    وروى نصر في كتابه ص 165 في حديث : فلما دنا عمار بن ياسر رحمه الله بصفين من عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ؟ بعت دينك بمصر ، تبا لك ، وطال ما بغيت الاسلام عوجا. ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرته ص 53 وزاد : والله ما قصدك وقصد عدو الله ابن عدو الله بالتعلل بدم عثمان إلا الدنيا.

16 ـ أبو نوح الحميري وعمرو
    أتى أبو نوح الحميري الكلاعي يوم صفين مع ذي الكلاع إلى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس ، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ؟ هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك ؟ قال عمرو : ومن هو ؟ قال ذو الكلاع : ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة. فقال عمرو : إني لأرى عليك سيما أبي تراب. قال أبو نوح : علي
1 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 176 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 373.

(146)
سيما محمد صلى الله عليه وأصحابه وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون.
    كتاب صفين ص 174 ، شرح النهج لابن أبي الحديد.

17 ـ أبو الأسود الدؤلي وعمرو
    قدم أبو الأسود (1) الدؤلي على معاوية بعد مقتل علي رضي الله عنه وقد استقامت لمعاوية البلاد ، فأدنى مجلسه ، وأعظم جائزته ، فحسده عمرو بن العاص فقدم على معاوية فاستأذن عليه في غير وقت الإذن له فقال له معاوية : يا أبا عبد الله ؟ ما أعجلك قبل وقت الإذن فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أتيتك لأمر قد أوجعني وارقني وغاظني ، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين. قال : وما ذاك ؟ يا عمرو ؟ قال : يا أمير المؤمنين ؟ إن أبا الأسود رجل مفوه له عقل وأدب ، من مثله للكلام يذكر ؟ وقد أذاع بمصرك من الذكر لعلي ، والبغض لعدوه وقد خشيت عليك أن يترى (2) في ذلك حتى يؤخذ لعنقك ، وقد رأيت أن ترسل إليه ، وترهبه ، وترعبه ، وتسبره ، وتخبره ، فإنك من مسألته على إحدى خبرتين ، إما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته ، وإما أن يستقبلك فيقول ما ليس من رأيه ، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح إنشاء الله تعالى. فقال له معاوية : إني امرؤ والله لقل ما تركت رأيا لرأي امرئ قط إلا كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين ، ولكن إن أرسلت إليه فسألته فخرج من مساءلتي بأمر لا أجد عليه مقدما ويملأني غيظا لمعرفتي بما يريد ، وإن الأمر فيه أن يقبل ما أبدى من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره وندع ما وراء ذلك يذهب جانبا. فقال عمرو : أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين ، وقد عرفت رأي ولست أرى خلافي و ما آلوك خيرا ، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه وطيئا.
    فأرسل معاوية إلى أبي الأسود فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا فرحب به معاوية وقال : يا أبا الأسود ؟ خلوت أنا وعمرو فتناجزنا (3) في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين. قال : سل يا أمير المؤمنين ؟ عما بدا لك. فقال : يا
1 ـ ظالم بن عمرو التابعي الكبير المتوفى سنة 69 وهو ابن خمس وثمانين سنة.
2 ـ ترى تريأ في الأمر : تراخى فيه.
3 ـ ناجزه : خاصمه. والمناجزة في الحرب المبارزة.


(147)
أبا الأسود ؟ أيهم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال : أشدهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وأوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية إلى عمرو وحرك رأسه ، ثم تمادى في مسألته فقال : يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أفضلهم عندك ؟ قال أتقاهم لربه وأشدهم خوفا لدينه. فاغتاظ معاوية على عمرو ، ثم قال : يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أعلم ؟ قال : أقولهم للصواب وأفصلهم للخطاب. قال : يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أشجع ؟ قال : أعظمهم بلاء ، وأحسنهم عناء ، وأصبرهم على اللقاء. قال : فأيهم كان أوثق عنده ؟ قال من أوصى إليه فيما بعده. قال : فأيهم كان للنبي صلى الله عليه وآله صديقا ؟ قال : أولهم به تصديقا. فأقبل معاوية على عمرو و قال : لا جزاك الله خيرا ، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئا ؟ فقال أبو الأسود : إني قد عرفت من أين أتيت ، فهل تأذن لي فيه ؟ فقال : نعم. فقل ما بدا لك. فقال يا أمير المؤمنين ، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه وآله بأبيات من الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أللهم ؟ إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بكل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا ؟ أو مدركا رباحا ؟ وأيم الله إن امرءا لم يعرف إلا بسهم أجيل عليه فجال لحقيق أن يكون كليل اللسان ضعيف الجنان ، مستشعرا للاستكانة ، مقارنا للذل والمهانة ، غير ولوج فيما بين الرجال ، ولا ناظر في تسطير المقال ، إن قالت الرجال أصغى ، وإن قامت الكرام أقعى (1) متعيص لدينه لعظيم دينه ، غير ناظر في أبهة الكرام ولا منازع لهم ، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء ، يعامل الناس بالمكر والخداع ، والمكر والخداع في النار. فقال عمرو : يا أخا بني الدؤل ؟ والله إنك لأنت الذليل القليل ، ولولا ما تمت به من حسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحدية (2) غير أنك بهم تطول ، وبهم تصول ، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا ، سيصير عليك وبالا ، و أيم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديما وحديثا ، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة ، وإنك لتوالي عدوه ، وتعادي وليه ، وتبغيه الغوائل ، ولئن أطاعني ليقطعن عنه لسانك ، وليخرجن من رأسك شيطانك ، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان (3) في أصل الشجرة.
1 ـ أقعى الكلب : جلس على استه.
2 ـ الأجدل : الصقر. والحداة بكسر الحاء : طائر من الجوارح. والعامة تسميه الحدية.
3 ـ الأفعوان بضم الأول : ذكر الأفعى.


(148)
    فتكلم معاوية فقال : يا أبا الأسود ؟ أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك. و قال لعمرو : فلم تغرق كما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت ، غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء ، والباغي أظلم ، والثالث أحلم ، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره وقوما غير مطرودين ، فقام عمرو وهو يقول :
لعمري لقد أعيى القرون التي مضت لغش ثوى بين الفؤاد كمين
وقام أبو الأسود وهو يقول :
ألا إن عمرا رام ليث خفية (1) وكيف ينال الذئب ليث عرين
تاريخ ابن عساكر 7 ص 104 ـ 106

18 ـ حديث أبي جعفر وزيد
    قال أبو جعفر وزيد بن الحسن : طلب معاوية إلى عمرو بن العاص يوم صفين أن يسوي صفوف أهل الشام فقال له عمرو : على أن لي حكمي إن قتل الله ابن أبي طالب ؟ واستوسقت لك البلاد. فقال : أليس حكمك في مصر ؟ قال : وهل مصر تكون عوضا عن الجنة ؟ وقتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ؟ فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله ؟ إن قتل ابن أبي طالب ، رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك. فقال لهم عمرو : يا معشر أهل الشام ؟ سووا صفوفكم ؟ أعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلهكم ، وجاهدوا عدو الله وعدوكم ، واقتلوهم قتلهم الله وأدبارهم ، واصبروا إن الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
    كتاب صفين لابن مزاحم ص 123 ، شرح ابن أبي الحديد.
    هذا أكبر كلمة تدل على ضئولة الرجل في دينه لأنها تنم عن عرفانه بحق أمير المؤمنين عليه السلام ومغبة أمر من ناواه ومع ذلك فهو يحرض الناس على قتاله و يموه عليهم ، وهي ترد قول من يبرر عمله باجتهاده أو بعدله.

19 ـ عمرو وابن أخيه
    كان لعمرو بن العاص ابن أخ (2) أريب من بني سهم جاءه من مصر فقال له : ألا
1 ـ الخفية : الغيضة الملتفة.
2 ـ في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ابن عم.


(149)
تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش ؟ أعطيت دينك ، وتمنيت دنيا غيرك ، أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي ؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب ؟ (1) فقال عمرو : يا بن أخي إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى :
ألا يا هند أخت بني زياد رمي عمرو بأعور عبشمي له خدع يحار العقل فيها فشرط في الكتاب عليه حرفا وأثبت مثـله عمرو عليه ألا يا عمرو؟ ما أحرزت مصرا وبعت الدين بالدنيا خسارا فلو كنت الغداة أخذت مصرا وفدت إلى معاوية بن حرب وأعطيت الذي أعطيت منها ألم تعرف أبا حسن عليا عدلت به معاوية بن حرب ويا بعد الأصابع من سهيل أتأمن أن تراه على خدب ؟ ينادي بالنزال وأنت منه رمي عمرو بداهية البلاد بعيد القعر محشي الكباد (2) مزخرفة صوائد للفوائد يناديه بخدعته المنادي كلا المرأين حية بطن وادي وما ملت الغداة إلى الرشاد فأنت بذاك من شر العباد ولكن دونها خرط القتاد فكنت بها كوافد قوم عاد بطرس فيه نضح من مداد وما نالت يداه من الأعادي؟؟!! فيا بعد البياض من السواد ويا بعد الصلاح من الفساد يحث الخيل بالاسل الخداد (3) قريب فانظرن من ذا تعادي
    فقال عمرو : يا بن أخي ؟ لو كنت مع علي وسعني بيتي ولكن الآن مع معاوية. فقال له الفتى : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك. ولكنك تريد دنياه ويريد دينك. وبلغ معاوية قول الفتى ، فطلبه فهرب فلحق فحدثه بأمر عمرو ومعاوية. قال
1 ـ يعني كتابا كتبه معاوية لعمرو بمصر وجعلها طعمة له.
2 ـ يعني معاوية : يقال في النسبة إلى عبد شمس : عبشمى. حشا حشوا : ملا. احتشى : امتلاء.
3 ـ خدب بالكسر وتشديد الموحدة : سنام البعير الضخم. الأسل : الرماح.


(150)
فسر ذلك عليا وقربه قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أشترى كما اشتري عمرو ؟! فقال معاوية : إنما يشترى الرجال لك. قال : فلما بلغ عليا ما صنع معاوية وعمرو قال :
يا عجبا لقد سمعت منكرا يسترق السمع ويغشي البصرا أن يقرنوا وصيه والأبترا كلاهما في جنده قد عسكرا من ذا بدنيا بيعه قد خسرا إني إذا الموت دنا وحضرا قدم لوائي لا تؤخر حذرا لما رأيت الموت موتا أحمرا حي يمان يعظمون الخطرا قل لابن حرب لا تدب الحمرا لا تحسبني يا بن حرب عمرا كانت قريش يوم بدر جزرا لو أن عندي يا بن حرب جعفرا كذبا على الله يشيب الشعرا ما كان يرضى أحمد لو أخبرا شاني الرسول واللعين الأخزرا (1) قد باع هذا دينه فأفجرا بملك مصر إن أصاب الظفرا شمرت ثوبي ودعوت قنبرا لن ينفع الحذار مما قدرا عبأت همدان وعبوا حميرا قرن إذا ناطح قرنا كسرا أرود قليلا أبد منك الضجرا (2) وسل بنا بدرا معا وخيبرا إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا (3) أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
    الإمامة والسياسة 1 ص 84 ، كتاب صفين لابن مزاحم ص 24 ، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 138.

20 ـ غانمة بنت غانم وعمرو
    بلغ غانمة بنت غانم سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم وهي بمكة قالت :
1 ـ الخزر : ضيق العين. الخزرة بالضم : انقلاب الحدقة نحو اللحاظ وهو أقبح الحول.
2 ـ أدب الصبى : صيره. أرود في السير : رفق وتمهل. الضجر بفتح الفاء والعين. القلق من غم وضيق نفس.
3 ـ الجزرة. الشاة التي تذبح ج جزر. بالفتح وقد تكسر. الصدر ، بالتحريك : رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس