الغدير ـ الجزء الخامس ::: 51 ـ 60
(51)
عليه جبرئيل فيراه ، ويسمع كلامه ، وينزل عليه الوحي ، والنبي ربما يسمع الكلام ، وربما رأى الشخص ولم يسمع ، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص. وقال : والأئمة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلونه إلا بعهد من الله وأمر منه لا يتجاوزونه. وفي الكتاب نصوص أخرى متعددة في هذا المعنى ، فالأئمة لدى هؤلاء أنبياء يوحى إليهم ، ورسل أيضا لأنهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم.
    وقال في ج 2 ص 35 : قد قدمنا في الجزء الأول : أن القوم يزعمون أن أئمة أهل البيت يوحى إليهم ، وأن الملائكة تأتيهم بالوحي من الله ومن السماء ، وتقدم قولهم : أن الأئمة لا يفعلون شيئا ولا يقولونه إلا بوحي من الله ، وتقدم : إن الفرق عندهم بين محمد رسول الله وبين الأئمة من ذريته : إن محمدا كان يرى الملك النازل عليه بالوحي ، وأما الأئمة فيسمعون الوحي وصوت الملك وكلامه ولا يرون شخصه ، و هذا هو الفرق لديهم بين النبي والإمام ، وبين الرسل والأئمة ، وهو فرق لا حقيقة له ، فالأئمة من آل البيت عندهم أنبياء ورسل بكل ما في كلمة النبي والرسول من معنى ، لأن النبي الرسول هو إنسان أوحى الله إليه رسالة ، وكلف تبليغها ونشرها ، سواء أكان وحي الله إليه بواسطة الملك أم بلا واسطة ، وسواء رأى شخص تلك الواسطة أم لم يره ، بل سمع منه وعقل عنه ، هذا هو النبي الرسول. ورؤية الملك لا دخل له في حقيقة معنى النبي والرسول بالاجماع ، ولهذا يقولون : الرسول هو إنسان أوحي إليه وأمر بالبلاغ ، والنبي هو إنسان أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ ولم يجعلوا لرؤية الملك دخلا في حقيقة النبي وحقيقة الرسول ، وهذا لا ينازع فيه أحد من الناس ، فالشيعة يزعمون لفاطمة وللأئمة من ولدها ما يزعمون للأنبياء والرسل من المعاني والحقايق ، فهم يزعمون أنهم معصومون ، وأنهم يوحى إليهم ، وأن الملائكة تنزل عليهم بالرسالات ، وأن لهم معجزات أقلها إحياؤهم الأموات ، كما يقولون في أفضل كتبهم. إنتهى.
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون
[ النحل 105 ]


(52)
4
علم أئمة الشيعة بالغيب
    شاعت القالة حول علم الأئمة من آل محمد صلوات الله عليه وعليهم ممن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم ، فعند كل منهم حوشي من الكلام ، يزخرف الزلح من القول ، ويخبط خبط عشواء ، ويثبت البرهنة على جهله ، كأن الشيعة تفردت بهذا الرأي عن المذاهب الإسلامية ، وليس في غيرهم من يقول بذلك في إمام من أئمة المذاهب ، فاستحقوا بذلك كل سبسب وتحامل ووقيعة ، فحسبك ما لفقه القصيمي في ( الصراع ) من قوله في صحيفة ب تحت عنوان : الأئمة عند الشيعة يعلمون كل شئ ، والأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئا أعلمهم الله إياه ، وهم يعلمون متى يموتون ، ولا يموتون إلا باختيارهم ، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شئ ص 125 وص 126 [ من الكافي للكليني ] ثم قال :
    وفي الكتاب نصوص أخرى أيضا في المعنى ، فالأئمة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب ، وعلم ما كان وما سيكون ، وإنه لا يخفى عليهم شئ ، والمسلمون كلهم يعلمون أن الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة ، والنصوص في الكتاب والسنة وعن الأئمة في أنه لا يعلم الغيب إلا الله متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.
    ج ـ العلم بالغيب أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آت إنما هو أمر سائغ ممكن لعامة البشر كالعلم بالشهادة يتصور في كل ما ينبأ الانسان من عالم غابر ، أو عهد قادم لم يره ولم يشهده ، مهما أخبره بذلك عالم خبير ، أخذا من مبدأ الغيب والشهادة ، أو علما بطرق أخرى معقولة ، وليس هناك أي وازع من ذلك ، وأما المؤمنون خاصة فأغلب معلوماتهم إنما هو الغيب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقاءه والحياة بعد الموت


(53)
والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الأكبر ، إلى آخر ما آمن من به المؤمن وصدقه ، فهذا غيب كله ، وأطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز ، وبذلك عرف الله المؤمنين في قوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب ( البقرة 3 ) وقوله تعالى : الذين يخشون ربهم بالغيب ( الأنبياء 49 ) وقوله : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( فاطر 18 ) وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ( يس 11 ) وقوله : من خشي الرحمن بالغيب ( ق 33 ) وقوله : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة ( الملك 12 ) وقوله : جنات عدن وعد الله عباده بالغيب ( مريم 61 ).
    ومنصب النبوة والرسالة يستدعي لمتوليه العلم بالغيب من شتى النواحي مضافا إلى ما يعلم منه المؤمنون ، وإليه يشير قوله تعالى : كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( هود ) ومن هنا قص على نبيه القصص ، وقال بعد النبأ عن قصة مريم : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ( آل عمران 44 ) وقال بعد سرد قصة نوح : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك.
    ( هود 49 ) وقال بعد قصة إخوان يوسف : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ( يوسف 102 ).
    وهذا العلم بالغيب الخاص بالرسل دون غيرهم ينص عليه بقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
    نعم : ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
    فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلهم يعلمون الغيب بنص من الكتاب العزيز ، ولكل منهم جزء مقسوم ، غير أن علم هؤلاء كلهم بلغ ما بلغ محدود لا محالة كما وكيفا ، وعارض ليس بذاتي ، ومسبوق بعدمه ليس بأزلي ، وله بدء ونهاية ليس بسرمدي ، ومأخوذ من الله سبحانه وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو.
    والنبي ووارث علمه في أمته (1) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب
1 ـ أجمعت الأمة الإسلامية على أن وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علمه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام راجع الجزء الثالث من كتابنا ص 95 ـ 101.

(54)
من البلايا ، والمنايا ، والقضايا ، وإعلامهم الناس بشئ من ذلك ، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته ، وإنما العلم ، والعمل به ، وإعلام الناس بذلك ، مراحل ثلاث لا دخل لكل مرحلة بالأخرى ، ولا يستلزم العلم بالشئ وجوب العمل على طبقه ، ولا ضرورة الاعلام به ، ولكل منها جهات مقتضية ووجوه مانعة لا بد من رعايتها ، وليس كلما يعلم يعمل به ، ولا كلما يعلم يقال.
    قال الحافظ الأصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفى 790 في كتابه القيم [ الموافقات في أصول الأحكام ] ج 2 ص 184 : لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد ، وقد تحصل [ للحاكم ] بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يد على حال ، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ، فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه ، وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه. الحديث. فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم (1) وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه ، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه : إن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمد الكذب ، لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه ، هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها لا من الخوارق التي تداخلها أمور ، والقائل
1 ـ قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات : لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. إلى أن قال : والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ لأنه حكم بما أمر الله.

(55)
بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى. إلى أن قال : في ص 187.
    إن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، ولم يستثن من ذلك أحد حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين.
    فما ظنك بآحاد الأمة ، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك والنمط واحد ، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية.
    وقال في ص 189 : فصل : إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها ؟ فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم وذلك على أوجه : أحدها أن يكون في أمر مباح كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلك ، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده بشر ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.
    الثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره ، والكرامة كما إنها خصوصية كذلك هي فتنة واختبار لينظر كيف تعملون ، فإن عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس.
    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام


(56)
المصلين خلفه : أنه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته ، فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.
    الثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته فهذا أيضا جائز كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك ... إلخ.
    فهلا كان من الغيب نبأ إبني نوح ، وأنباء قوم هو وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم ولوط ، وذكرى ذي القرنين ، ونبأ من سلف من الأنبياء والمرسلين ؟! وهلا كان منه ما أسر به النبي صلى الله عليه وآله إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها فلما نبأها به وقالت : من أنبأك هذا ؟ قال : نبأني العليم الخبير ؟ ( تحريم 3 ).
    وهلا كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل ما لم يستطع عليه صبرا ؟ ( الكهف ) وهلا كان منه ما كان يقول عيسى لأمته : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ؟ ( آل عمران 49 ).
    وهلا كان منه قول عيسى لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ؟ ( الصف 6 ) وهلا كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف : لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ؟ ( يوسف 15 ).
    وهلا كان ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمرا من الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم ؟ ( البقرة 33 ).
    وهلا كانت منه تلكم البشارات الجمة المحكية عن التوراة والانجيل والزبور وصحف الماضين وزبر الأولين بنبوة نبي الاسلام وشمائله وتاريخ حياته وذكر أمته ؟.
    وهلا كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المروية عن الكهنة والرهابين والاقسة حول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته ؟.
    ليس هناك أي منع وخطر إن علم الله أحدا ممن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أو سيكون ، من علم السماوات والأرضين ، من علم الأولين


(57)
والآخرين ، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم ير أي وازع إذا حبا أحدا بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض. ولا يتصور عندئذ قط اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب ، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أي مرتبة رابية ، وشتان بينهما ، إذ القيود الامكانية البشرية مأخوذة في العلم البشري دائما لا محالة ، سواء تعلق بالغيب أو تعلق بالشهادة ، وهي تلازمه ولا تفارقه ، كما أن العلم الآلهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الاحدية الخاصة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.
    وكذلك الحال في علم الملائكة ، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلا وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كل شئ أن يقرأ ما فيه ويطلع عليه لم يشارك الله قط في صفته العلم بالغيب ، ولا يلزم منه الشرك.
    فلا مقايسة بين العلم الذاتي المطلق وبين العرضي المحدود ، ولا بين ما لا يكيف بكيف.
    ولا يؤين بأين وبين المحدود المقيد.
    ولا بين الأزلي الأبدي وبين الحادث الموقت.
    ولا بين التأصلي وبين المكتسب من الغير ، كما لا يقاس العلم النبوي بعلم غيره من البشر ، لاختلاف طرق علمهما ، وتباين الخصوصيات والقيود المتخذة في علم كل منهما ، مع الاشتراك في إمكان الوجود.
    بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلد فيما علما من الأحكام الشرعية ولو أحاط المقلد بجميعها ، لتباين المبادئ العلمية فيهما.
    فالعلم بالغيب على وجه التأصل والاطلاق من دون قيد بكم وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنما هما من صفات الباري سبحانه ، ويخصان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة ، وهذا هو المعنى نفيا وإثباتا في مثل قوله تعالى : قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ( النمل 65 ) وقوله تعالى : إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور ( فاطر 38 ) وقوله تعالى : إن الله يعلم غيب السموات والأرض بصير بما تعملون ( الحجرات 18 ) وقوله تعالى : ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( الجمعة 8 ) وقوله تعالى : عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( الحشر 22 ) وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ( السجدة 6 ) وقوله تعالى : عالم الغيب والشهادة


(58)
العزيز الحكيم ( التغابن 18 ) وقوله تعالى : حكاية عن نوح ، لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ( أنعام 50 ، هود 31 ) وقوله تعالى حكاية : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ( الأعراف 188 ).
    وبهذا التفصيل في وجوه العلم يعلم عدم التعارض نفيا وإثباتا بين أدلة المسألة كتابا وسنة ، فكل من الأدلة النافية والمثبتة ناظر إلى ناحية منها ، والموضوع المنفي من علم الغيب في لسان الأدلة غير المثبت منه وكذلك بالعكس.
    وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل البيت العصمة عليهم السلام مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام مجيبا يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قاله : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟ فقال عليه السلام : سبحان الله ضع يدك على راسي فوالله ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت ، ثم قال : لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله (1) وكذلك الحال في بقية الصفات الخاصة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى فإنها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصصة ، فلو كان عيسى على نبينا وآله وعليه السلام يحيي كل الموتى بإذن الله ، أو كان خلق عالما بشرا من الطين بإذن ربه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله : إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ( آل عمران 49 ) لم يكن يشارك المولى سبحانه في صفته الإحياء والخلق ، والله هو الولي ، وهو محيي الموتى ، وهو الخلاق العليم.
    وإن الملك المصور في الأرحام مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها (1) لم يكن يشارك ربه في صفته ، والله هو الخالق
1 ـ أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه.
2 ـ عن حذيفة مرفوعا : إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئا ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه ، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول. وابن الدبيع في التيسير 4 ص 40.
    وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول 4 ص 40 : إذا بلغت ( يعني المضغة ) أن تخلق نفسا بعث الله ملكا يصورها ، فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ؟ أشقى أم سعيد ؟ وما عمره ؟ وما رزقه ؟ وما أثره ؟ وما مصائبه ؟ فيقول الله فيكتب الملك.


(59)
البارئ المصور ، وهو الذي يصور في الأرحام كيف يشاء.
    والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدر له من خير وشر وشقاوته وسعادته ثم ينفخ في الروح (1) لا يشارك ربه ، والله هو الذي لم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا وملك الموت مع أنه يتوفى الأنفس ، وأنزل الله فيه القرآن وقال : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ( السجدة 11 ) صح مع ذلك الحصر في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شئ من ذلك ، كما صحت النسبة في قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ( النحل 28 ) وفي قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ( النحل 32 ) ولا تعارض في كل ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.
    والملك لا يغشاه نوم العيون (2) ولا تأخذه سنة الراقد بتقدير من العزيز العليم وجعله ، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم.
    ولو أن أحدا مكنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض برمتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.
    فهلم معي نسائل القصيمي عن أن قول الشيعة بأن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئا أعلمهم الله إياه كيف يتفرع عليه القول بأن الأئمة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب ؟ وما وجه الاشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه ؟ وقد ذهب على الجاهل أن الحكم بأن القول بعلم الأئمة بما كان وما يكون ـ وليس هو كل الغيب ولا جله ـ وعدم خفاء شئ من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب.
    تحديد لعلم الله ، وقول بالحد في صفاته سبحانه ، ومن حده
1 ـ عن ابن مسعود مرفوعا : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح. أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من أئمة الصحاح إلا النسائي وأحمد في مسنده 1 ص 374 ، 414 ، 430 ، وأبو داود في مسنده 5 ص 38 ، وذكره ابن الأثير في جامعه ، وابن الدبيع في التيسير 4 ص 39.
2 ـ راجع الخطبة الأولى من نهج البلاغة وشروحها.


(60)
فقد عده ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنة على أن لا يعلم الغيب إلا الله قد خفيت مغزاها على المغفل ولم يفهم منها شيئا ، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد.
    ونسائل الرجل : كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمة قومه ؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال : أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة (1) وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في مسنده ج 5 ص 388 عن أبي إدريس قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة.
    وقد جهل بأن علم المؤمن بموته واختياره الموت واللقاء مهما خير بينه وبين الحياة ليس من المستحيل ، ولا بأمر خطير بعيد عن خطر المؤمن فضلا عن أئمة المؤمنين من العترة الطاهرة ، هلا يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمتهم من ذلك وعدوه فضائل لهم ؟ ذكروا عن ابن شهاب (2) قال : كان أبو بكر ـ ابن أبي قحافة ـ والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر : ارفع يدك يا خليفة رسول الله إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.
    وذكر أحمد في مسنده 1 ص 48 و 51 ، والطبري في رياضه 2 ص 74 إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها ، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلا جمعة ، وفي الرياض ج 2 ص 75 عن كعب الأحبار إنه قال لعمر. يا أمير المؤمنين اعهد بأنك ميت إلى ثلاثة أيام فلما قضى ثلاثة أيام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال : القول ما قال كعب.
    وروى إن عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر : إحترس أو أخرج العجم من المدينة فإني لا آمن أن يطعنك رجل منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.
    وعن جبير بن مطعم قال : إنا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلا
1 ـ صحيح مسلم في كتاب الفتن ، مسند أحمد 5 ص 386 ، البيهقي ، تاريخ ابن عساكر 4 ص 94 ، تيسير الوصول 4 ص 241 ، خلاصة التهذيب 63 ، الإصابة 1 ص 218 ، التقريب 82.
2 ـ ك 3 ص 64 ، صف 1 ص 10 ، يا 1 ص 180.
الغدير ـ الجزء الخامس ::: فهرس