الغدير ـ الجزء السادس ::: 241 ـ 250
(241)
وحوله آلاف من المؤمنين يقولون بمقالته ، وهو يحسب أنه أميرهم ولم يسألهم عما سأل الشامي عنه ؟ ثم كيف انحلت تلك المشكلة بأبسط جواب ؟ أو لم يكن الخليفة يعلم ذلك من أن الانسان إذا لم يكن مشركا أو منافقا فهو مؤمن لا محالة ؟ أم أنه حسب أن المؤمن الواثق بإيمانه لا يجوز له أن يقول : أنا مؤمن.
    لأن ذلك القول كفر كما في حديث قتادة ؟ وذلك تعبدا بقول عمر.
    لكن الله سبحانه مدح أقواما في الذكر بأن قالوا آمنا مثل قوله تعالى : قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله (1) وقوله : ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول (2) وقوله : ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا (3) وقوله : يقولون آمنا واشهد بأننا مسلمون (4) وقوله : يقولون ربنا آمنا (5) وقوله : قالوا آمنا برب العالمين (6) والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا. ومنهم من قال : بلى.
    إذا خوطب بقول العلي العظيم : أولم تؤمن (7) ومنهم من قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (8).
    ومن جلية الواضحات عدم الفرق بين قول القائل : آمنا بكذا أو نحن مؤمنون أو أنا مؤمن بكذا إذا وثق من نفسه بإيمان ، ومن فرق بينها فهو مجازف لا محالة.
    ولعل الخليفة كان ناظرا إلى حراجة الموقف في الإيمان ، وعزة خلوصة من خفيات صفات الشرك والنفاق حتى كان يسأل حذيفة عن نفسه ، قال الغزالي في إحياء العلوم 1 ص 129 : الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه ، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين ؟ وهل هو منهم وهل عدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ؟ (9).
    م ـ وكان حذيفة صاحب السر المكنون في تمييز المنافقين ، ولذلك كان عمر لا يصلي
1 ـ سورة آل عمران آية 52.
2 ـ سورة آل عمران آية 53.
3 ـ سورة آل عمران آية 193.
4 ـ سورة المائدة آية 111.
5 ـ سورة المائدة آية 83.
6 ـ سورة الأعراف آية 121.
7 ـ سورة البقرة آية 260.
8 ـ راجع الأعراف آية 143.
9 ـ وذكره الباقلاني في التمهيد ص 196 ، وابن أبي جمرة في بهجة النفوس 4 ص 48.


(242)
على ميت حتى يصلي عليه حذيفة يخشى أن يكون من المنافقين.
    كذا قاله ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 1 ص 44 ).
71
قدوم أسقف نجران على الخليفة
    قدم أسقف نجران على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في صدر خلافته فقال : يا أمير المؤمنين إن أرضنا باردة شديدة المؤنة لا يحتمل الجيش وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملا.
    قال : فضمنه إياه فكان يحمل المال ويقدم به في كل سنة و يكتب له عمر البرائة بذلك فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة وكان شيخا جميلا مهيبا فدعاه عمر إلى الله وإلى رسوله وكتابه وذكر له أشياء من فضل الاسلام وما تصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة فقال له الأسقف : يا عمر ! أتقرؤن في كتابكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض فأين يكون النار ؟ فسكت عمر وقال لعلي : أجبه أنت : فقال له علي : أنا أجيبك يا أسقف أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقال الأسقف : ما كنت أرى أن أحدا ليجيبني عن هذه المسألة.
    من هذا الفتى يا عمر ؟ فقال : علي بن أبي طالب ختن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه وهو أبو الحسن والحسين.
    فقال الأسقف : فأخبرني يا عمر ! عن بقعة من الأرض طلع فيها الشمس مرة واحدة ثم لم تطلع قبلها ولا بعدها ؟ قال عمر : سل الفتى.
    فسأله فقال : أنا أجيبك هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرة واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها.
    فقال الأسقف : أخبرني عن شئ في أيدي الناس شبه بثمار الجنة.
    قال عمر : سل الفتى.
    فسأله فقال علي أنا أجيبك هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شئ فكذلك ثمار الجنة.
    فقال الأسقف : صدقت قال : أخبرني هل للسموات من قفل ؟ فقال علي : قفل السموات الشرك بالله فقال الأسقف : وما مفتاح ذلك القفل ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله لا يحجبها شئ دون العرش.
    فقال : صدقت.
    فقال : أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض ؟ فقال علي : أما نحن فلا نقول كما يقولون دم الخشاف ولكن أول دم وقع على وجه الأرض مشيمة حواء حيث ولدت هابيل بن آدم.
    قال : صدقت وبقيت مسألة واحدة أخبرني أين الله ؟ فغضب عمر فقال علي : أنا أجيبك وسل عنا شئت كنا


(243)
عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه ملك فسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أين أرسلت ؟ فقال : من السماء السابعة من عند ربي ، ثم أتاه آخر فسأله فقال : أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي ، فجاء ثالث من الشرق ، ورابع من المغرب فسألهما فأجابا كذلك فالله عز وجل هيهنا وهيهنا في السماء إله وفي الأرض إله.
    أخرجه الحافظ العاصمي في زين الفتى في شرح سورة هل أتى.
72
جلد صائم قعد على شراب
    أخرج أحمد ـ إمام الحنابلة ـ في الأشربة عن عمرو بن عبد الله بن طلحة الخزاعي إن عمر بن الخطاب أتي بقوم أخذوا على شراب فيهم رجل صائم فجلدهم وجلده معهم قالوا : إنه صائم ، قال لم جلس معهم ؟. (1)
    هل علم الخليفة الوجه في جلوس الرجل معهم في منتدى الشرب وهو صائم لا يشاركهم في العمل ؟ فلعل الضرورة ألجأته إلى ذلك فما كان يسعه مفارقتهم خشية بوادرهم ، أو ضرر آخر يستقبله إن فارقهم ، أو أن قصد ردعهم عن المنكر حدى الصائم المسكين إلى مصاحبتهم ، والملاينة معهم في بدء الأمر ، وإذا احتمل شئ من هذه فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
    وهب إنه لم يحتمل شيئا منها فإن غاية ما هنالك أن تعزر الرجل تأديبا وقد عرفت في ص 175 حد التعزير ، وإنه لا يتجاوز العشرة أسواطا ، فكيف ساوى بينه و بينهم في الجلد ؟.
73
رأي الخليفة في مسك بيت المال
    أتي عمر مرة بمسك فأمر أن يقسم بين المسلمين ثم سد أنفه فقيل له في ذلك ، فقال : وهل ينتفع منه إلا بريحه ؟ ودخل يوما على زوجته فوجد معها ريح مسك فقال : ما هذا ؟ قالت : إني بعت من مسك في بيت مال المسلمين ووزنت بيدي فلما وزنت مسحت إصبعي في متاعي هذا فقال : ناوليني متاعك فأخذه فصب عليه الماء فلم يذهب فجعل يدلكه في
1 ـ كنز العمال 3 ص 101 ، منتخب الكنز هامش مسند أحمد 2 ص 427.

(244)
التراب ويصب عليه الماء حتى ذهب ريحه (1).
    هكذا فليكن الفقيه البارع ، وهل كان الخليفة يضرب ستارا أمام مصابيح المسلمين حتى لا يستضيئ بضوءها ؟ أو يضرب سدا على مهب الصبا متى حملت شدا من حقول المسلمين ؟ إلى أمثال هذه من الانتفاعات القهرية التي لا دخل لرضاء المالك فيها ؟ أنا لا أدري.
74
اجتهاد الخليفة في صلاة الميت
    عن أبي وائل قال : كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وستا أو قال أربعا فجمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر كل رجل بما رأى فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة.
    وعن سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رضي الله عنه قال : كان التكبير أربعا وخمسا فجمع عمر الناس على أربع التكبير على الجنازة (2).
    وقال ابن حزم في ( المحلى ) احتج من منع أكثر من أربع بخبر رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم بالتكبير على الجنازة فقالوا : كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وأربعا فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. ا ه‍.
    وأخرج الطحاوي عن إبراهيم قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر سبعا.
    وآخر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر خمسا.
    وآخر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر أربعا.
    إلا سمعته فاختلفوا في ذلك فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر رضي الله عنه فلما ولي عمر رضي الله عنه ورأى اختلاف الناس في ذلك شق عليه جدا فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه ،
1 ـ الفتوحات الإسلامية 2 ص 414.
2 ـ سنن البيهقي 4 ص 37 ، فتح الباري 3 ص 157 وقال في الحديث الثاني : إسناد صحيح وفي الحديث الأول. إسناد حسن ، إرشاد الساري 2 ص 417.


(245)
فانظروا أمرا تجتمعون عليه فكأنما أيقظهم فقالوا : نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين ! فأشر علينا.
    فقال عمر رضي الله عنه : بل أشيروا علي فإنما أنا بشر مثلكم ، فتراجعوا الأمر بينهم فاجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات فأجمع أمرهم على ذلك. ( عمدة القاري 4 ص 129 ) وقال العسكري في أولياته ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 93 ، والقرماني في تاريخه ـ هامش الكامل ـ 1 ص 203 : إن عمر أول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات.
    قال الأميني : الذي ثبت من السنة وعمل الصحابة اختلاف العدد في التكبير على الجنازة المحمول على مراتب الفضل في الميت أو الصلاة نفسها ، وذلك يكشف عن إجزاء كل من تلك الأعداد ، فاختيار الواحد منها والجمع عليه والمنع عن البقية كما يمنع عن البدع رأي غير مدعوم بشاهد ، واجتهاد تجاه السنة والعمل.
    ومن الواضح الجلي بعد تلاوة ما وقع من المفاوضة بين الخليفة والصحابة إنه لم يكن هناك نسخ وإنما ذكر كل منهم ما شاهده على العهد النبوي ، فدعوى النسخ وتأخر التكبير بالأربع عن هاتيك الأعداد زور من القول ، ولذلك لم يحتج به أحد ممن يعبأ بحجاجه ، وإنما حصروا الدليل على تعيين عمر ومنعه بعد تزييف ما قيل من دليل المنع كما سمعت من ابن حزم ، وهو كما ترى رأي يخص بقائله لا تقاوم السنة الثابتة وهي لا تترك بقول الرجال.
    ويوهن ذلك الجمع والمنع صفح الصحابة عنهما ، أخرج أحمد في مسنده 4 ص 370 عن عبد الأعلى قال : صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمسا فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلي فأخذ بيده فقال : نسيت ؟ قال : لا ولكن صليت خلف أبي القاسم خليلي صلى الله عليه وسلم فكبر خمسا فلا أتركها أبدا.
    وروى البغوي من طريق أيوب بن النعمان أنه قال : شهدت جنازة سعد بن حبتة فكبر عليه زيد بن أرقم خمسا ( الإصابة 2 : 22 ) وأخرج الطحاوي عن يحيى بن عبد الله التيمي قال : صليت مع عيسى مولى حذيفة ابن اليمان على جنازة فكبر عليها خمسا ثم التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكني


(246)
كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي ـ يعني حذيفة بن اليمان ـ صلى على جنازة فكبر عليها خمسا ثم التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكني كبرت كما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر خمسا. ( عمدة القاري 4 ص 129 ).
    قال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد (1) : كان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء الميت وكان يكبر أربع تكبيرات وصح عنه أنه كبر خمسا (2) وكان الصحابة بعده يكبرون أربعا وخمسا وستا فكبر زيد بن أرقم خمسا ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها ذكره مسلم (3) وكبر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حنيف ستا (4) وكان يكبر على أهل بدر ستا وعلى غيرهم من الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا ، ذكره الدار قطني (5) وذكر سعيد بن منصور على الحكم عن ابن عيينة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا ، وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع بل فعله هو وأصحابه من بعده ، و الذين منعوا من الزيادة على الأربع منهم من احتج بحديث ابن عباس : إن آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعا قالوا : وهذا آخر الأمرين وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم هذا ، وهذا الحديث قد قال الخلال في العلل : أخبرني حارث قال سأل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح عن ميمون عن ابن عباس فذكر الحديث فقال أحمد : هذا كذب ليس له أصل إنما رواه محمد بن زيادة الطحان وكان يضع الحديث ، واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس : إن الملائكة لما صلت على آدم عليه الصلاة والسلام كبرت عليه أربعا وقالوا : تلك سنتكم يا بني آدم.
    وهذا الحديث قد قال فيه الأثرم : جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة فسمعت أبا عبد الله قال : رأيت أحاديثه موضوعة ، فذكر منها عن أبي المليح عن ميمون بن مهران عن ابن
1 ـ ج 1 ص 145 ، وفي ط هامش شرح المواهب للزرقاني 2 ص 70.
2 ـ أخرجه ابن ماجة في سننه 1 ص 458.
3 ـ وأخرجه أبو داود في سننه 2 ص 67 ، وابن ماجة في سننه 1 ص 458 ، وأحمد في مسنده 4 ص 368 ، 371 ، والبيهقي في السنن الكبرى 4 ص 36 ، فتح الباري 3 ص 157.
4 ـ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4 ص 36.
5 ـ وأخرجه البيهقي في السنن 4 ص 37 ، وذكره ابن حجر في فتح الباري 3 ص 157 نقلا عن ابن المنذر.


(247)
عباس : إن الملائكة لما صلت على آدم فكبرت عليه أربعا.
    واستعظمه أبو عبد الله و قال : أبو المليح كان أصح حديثا وأتقى لله من أن يروي مثل هذا.
    واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة لما صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالت هذه سنتكم يا بني آدم. وهذا لا يصح. وقد روي مرفوعا وموقوفا.
    وكان أصحاب معاذ يكبرون خمسا قال علقمة : قلت لعبد الله : إن ناسا من أصحاب معاذ قدموا من الشام فكبروا على الميت لهم خمسا. فقال عبد الله : ليس على الميت في التكبير وقت ، كبر ما كبر الإمام فإذا انصرف الإمام فانصرف. هذا نص كلام ابن القيم وفيه فوائد.
75
الخليفة ومسائل ملك الروم
    أخرج أحمد ـ إمام الحنابلة ـ في الفضائل قال : حدثنا عبد الله القواريري ثنا مؤمل عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب قال : كان عمر بن الخطاب يقول : أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن ، قال ابن المسيب : ولهذا القول سبب وهو : أن ملك الروم كتب إلى عمر يسأله عن مسائل فعرضها على الصحابة فلم يجد عندهم جوابا فعرضها على أمير المؤمنين فأجاب عنها في أسرع وقت بأحسن جواب.
     ( ذكر المسائل ) قال ابن المسيب : كتب ملك الروم إلى عمر رضي الله عنه : من قيصر ملك بني الأصفر إلى عمر خليفة المؤمنين ـ المسلمين ـ أما بعد : فإني مسائلك عن مسائل فأخبرني عنها : ما شيئ لم يخلقه الله ؟ وما شيئ لم يعلمه الله ؟ وما شيئ ليس عند الله ؟ وما شيئ كله فم ؟ وما شيئ كله رجل ؟ وما شيئ كله عين ؟ وما شيئ كله جناح ؟ وعن رجل لا عشيرة له ؟ وعن أربعة لم تحمل بهم رحم ؟ وعن شيئ يتنفس وليس فيه روح ؟ وعن صوت الناقوس ماذا يقول ؟ وعن ظاعن ظعن مرة واحدة ؟ وعن شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ما مثلها في الدنيا ؟ وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة ؟ وعن شجرة نبتت من غير ماء ؟ وعن أهل الجنة فإنهم يأكلون ويشربون ولا يتغوطون ولا يبولون ما مثلهم في الدنيا ؟ وعن موايد الجنة فإن عليها القصاع في كل قصعة ألوان لا يخلط بعضها ببعض ما مثلها في الدنيا ؟ وعن جارية تخرج من تفاحة في


(248)
الجنة ولا ينقص منها شيئ ؟ وعن جارية تكون في الدنيا لرجلين وهي في الآخرة لواحد ؟ وعن مفاتيح الجنة ما هي ؟ فقرأ علي عليه السلام الكتاب وكتب في الحال خلفه.
بسم الله الرحمن الرحيم
    أما بعد : فقد وقفت على كتابك أيها الملك وأنا أجيبك بعون الله وقوته وبركته وبركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أما الشيئ الذي لم يخلقه الله تعالى : فالقرآن لأنه كلامه وصفته ، وكذا كتب الله المنزلة والحق سبحانه قديم وكذا صفاته. وأما الذي لا يعلمه الله فقولكم : له ولد وصاحبة وشريك ، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله لم يلد ولم يولد.
    وأما الذي ليس عند الله : فالظلم وما ربك بظلام للعبيد. وأما الذي كله فم : فالنار تأكل ما يلقى فيها. وأما الذي كله رجل : فالماء. وأما الذي كله عين. فالشمس. وأما الذي كله جناح : فالريح. وأما الذي لا عشيرة له : فآدم عليه السلام. وأما الذين لم يحمل بهم رحم : فعصى موسى ، وكبش إبراهيم ، وآدم ، وحواء. وأما الذي يتنفس من غير روح فالصبح لقوله تعالى : والصبح إذا تنفس. وأما الناقوس : فإنه يقول طقا طقا ، حقا حقا ، مهلا مهلا.
    عدلا عدلا ، صدقا صدقا ، إن الدنيا قد غرتنا واستهوتنا ، تمضي الدنيا قرنا قرنا ، ما من يوم يمضي عنا إلا أوهى منا ركنا ، إن الموتى قد أخبرنا إنا نرحل فاستوطنا.
    وأما الظاعن : فطور سيناء لما عصت بنو إسرائيل وكان بينه وبين الأرض المقدسة أيام فقلع الله منه قطعة وجعل لها جناحين من نور فنتقه عليهم فذلك قوله : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم.
    وقال لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا وإلا أوقعته عليكم. فلما تابوا رده إلى مكانه.
    وأما المكان الذي لم تطلع على الشمس إلا مرة واحدة فأرض البحر لما فلقه الله لموسى على السلام وقام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها ثم عاد ماء البحر إلى مكانه.
    وأما الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام : فشجرة طوبى وهي سدرة المنتهى في السماء السابعة إليها ينتهي أعمال بني آدم وهي من أشجار الجنة ليس في الجنة قصر ولا بيت إلا وفيه غصن من أغصانها ، ومثلها في الدنيا الشمس أصلها واحد وضوئها في كل مكان.
    وأما الشجرة التي نبتت من غير ماء : فشجرة يونس وكان ذلك معجزة له لقوله تعالى : وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأما غذاء أهل الجنة فمثلهم في الدنيا الجنين في بطن أمه فإنه يغتذي من


(249)
سرتها ولا يبول ولا يتغوط. وأما الألوان في القصعة الواحدة : فمثله في الدنيا البيضة فيها لونان أبيض وأصفر ولا يختلطان. وأما الجارية التي تخرج من التفاحة : فمثلها في الدنيا الدودة تخرج من التفاحة ولا تتغير. وأما الجارية التي تكون بين اثنين : فالنخلة التي تكون في الدنيا لمؤمن مثلي ولكافر مثلك وهي لي في الآخرة دونك ، لأنها في الجنة وأنت لا تدخلها ، وأما مفاتيح الجنة : فلا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
    قال ابن المسيب. فلما قرأ قيصر الكتاب قال : ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة ثم سأل عن المجيب فقيل له : هذا الجواب ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم فكتب إليه : سلام عليك. أما بعد : فقد وقفت على جوابك ، وعلمت أنت من أهل بيت النبوة ، و معدن الرسالة ، وأنت موصوف بالشجاعة والعلم ، وأوثر أن تكشف لي عن مذهبكم والروح التي ذكرها الله في كتابكم في قوله : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي فكتب إليه أمير المؤمنين : أما بعد فالروح نكتة لطيفة ، ولمعة شريفة ، من صنعة باريها وقدرة منشأها ، وأخرجها من خزائن ملكه وأسكنها في ملكه فهي عنده لك سبب ، وله عندك وديعة ، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك ، والسلام.
    زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي ، وتذكرة خواص الأمة لسبط ابن الجوزي الحنفي ص 87.
76
موقف الخليفة في الأحكام
    عن ابن أذينة العبدي قال : أتيت عمر فسألته من أين أعتمر ؟ قال إئت عليا فسله. فأتيته فسألته فقال لي علي : من حيث ابدأت ـ يعني ميقات أرضه ـ (1) قال : فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال : ما أجد لك إلا ما قال ابن أبي طالب. أخرجه ابن حزم في ( المحلى ) 7 : 76 مسندا معنعنا. وذكره.
    أبو عمر وابن السمان في الموافقة كما في الرياض النضرة 2 ص 195 ، وذخائر العقبى ص 79 ، ذكره محب الدين الطبري في ( اختصاص أمير المؤمنين بإحالة جمع من الصحابة عند سؤالهم عليه ) وعد منهم معاوية وعائشة وعمر فأخرج من طريق أحمد
1 ـ قال ابن حزم في المحلى : هكذا في الحديث نفسه.

(250)
في حديث : كان عمر إذا أشكل عليه شئ أخذه منه ، ثم ذكر جملة من مراجعات عمر إليه سلام الله عليه ، فأين أعلمية عمر المزعومة لموسى الوشيعة أو لغيره من أعلام القوم ؟
77
رأي الخليفة في المناسك
    أخرج مالك ـ إمام المالكية ـ عن عبد الله بن عمر : إن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف في البيت وفي حديثه الآخر : أن عمر بن الخطاب قال : من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديا إن كان معه فقد حل له ما حرم إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت.
    وفي لفظ أبي عمر : عن سالم بن عمر عن أبيه قال عمر : إذا رميتم الجمرة سبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ إلا الطيب والنساء.
    قال سالم : وقالت عائشة : أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت.
    قال سالم : فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (1).
    قال صاحب ( إزالة الخفاء ) بعد ذكر الحديثين الأولين : قلت ترك الفقهاء قوله ( والطيب ) لما صح عندهم من حديث عائشة وغيرها : أن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل طواف الافاضة.
    قال الأميني : واها لأمة يعلمهم المناسك من لا يعلم ما به يحل للمحرم ما حرم عليه ، ومرحبا بخليفة ترك الفقهاء قوله مهما وجدوه خلاف السنة النبوية ، وقد ثبتت بحديث عايشة وغيرها أخرجه أئمة الصحاح والمسانيد كالبخاري في صحيحه 4 ص 58 ، ومسلم في صحيحه 1 ص 330 ، والترمذي في صحيحه 1 ص 173 ، وأبو داود في سننه 1 ص 275 ، والدارمي في سننه 2 ص 32 ، وابن ماجة في سننه 2 ص 217 ، والنسائي في سننه 5 ص 137 ، والبيهقي في سننه 5 ص 205 أضف إليها جل جوامع الحديث و الكتب الفقهية لولا كلها.
1 ـ موطأ مالك 1 ص 285 ، صحيح الترمذي 1 ص 173 ، سنن البيهقي 5 ص 204 ، جامع بيان العلم 2 ص 197 ، وفي مختصره ص 226 ، الاجابة للزركشي ص 88.
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس