بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 1 ـ 10
(3)
بُحُوثٌ
في الملل والنحل

دِرَاسَة مَوضُوعيّةُ مُقارِنة للمذَاهِب الاسلاميّة
الجُزء الأول

ويتناول تاريخ عَقائد أهل الحَديث والحنابلة وَالسَلفية
تأليف
جعفر السبحاني


(4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين

(5)
مقدّمة الطبعة الأُولى
دراسة العقائد للأخذ بالموقف الحقّ
إنّ الوقوف على آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها ، ومعرفة أدلّتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق ، فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب ، والموقف الأحقّ بالأخذ والاتّباع ، وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتّجاهات الفكرية المضادة وقد حثّ عليه إذ قال تعالى : ( قُلْ هاتُوا بُرْهانكُمْ ) (1) أو قال : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ). (2)
    وقد كان المسلمون هم السبّاقين إلى هذا المنهج وهذا الأسلوب من الدراسة والتحقيق ، ولهذا نرى في المكتبات والدراسات الإسلامية كتباً في الفقه المقارن ، والعقائد المقارنة ، وغير ذلك من حقول المعرفة والثقافة.
    ونظراً لأهمية هذا الأسلوب في عصرنا الحاضر طلبت مني « لجنة إدارة الحوزة العلمية » في قم المقدسة ، إلقاء سلسلة محاضرات في آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الإسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وذلك في إطار من التحليل ، والمقارنة والدراسة والتقييم ، فلبّيت هذا الطلب وتم بتوفيق اللّه تعالى إلقاء مجموعة من المحاضرات في هذا المجال ، ليكون مقدّمة للمرحلة التخصّصية.
    ثمّ حبذت لجنة الإدارة طبع ونشر هذه المحاضرات حتى يستفيد منه عامة
1 ـ البقرة : 111.
2 ـ الزّمر : 18.


(6)
طلاّب الدراسات الإسلامية ، فأخرجتها في عدة أجزاء ، وهذا هو الجزء الأوّل الذي يقدّم للقرّاء.
    فشكراً لهذه اللجنة على اهتمامها بهذه العلوم ، ووفّقها اللّه للمزيد من تقديم الخدمات الثقافية المفيدة إنّه سميع مجيب الدعاء.
    هذا ، والرجاء من القرّاء الكرام تزويدنا بنقدهم البنّاء حتى تكتمل هذه المباحث بإذنه تعالى.

قم ـ الحوزة العلمية
جعفر السبحاني
يوم ميلاد فاطمة الزهراء ( عليها السَّلام )
20 جمادى الأُولى / 1408 هـ


(7)
مقدّمة الطبعة الثانية
مؤرّخ العقائد ومسؤوليته الخطيرة
    التاريخ من العلوم الإنسانية التي اهتم بها البشر منذ فجر الحضارة ، وقد قام إنسان كلّ عصر وجيل بضبط الحوادث التي عاصرها وعايشها أو تقدّمت عليه ، بمختلف الوسائل من أبسطها إلى أعقدها حيث كان يسجل الحوادث ، يوماً بالنقش على الأحجار والجدران ، ويوماً بالكتابة على الجلود والعظام وجريد النخل ، ويوماً بالتحرير على القراطيس والأوراق حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحاضر من وسائل الإعلام والنشر.
    وقد قدّم بعمله هذا إلى الأجيال المتأخّرة كنزاً ثميناً ، ورصيداً فكرياً غالياً وغنياً وتجارب ملؤها العبر والدروس ، والمواعظ والنصائح التي لا يوجد نظيرها في أيّ مختبر من مختبرات العالم سوى في هذا المختبر ( التاريخ ). ( لَقَدْ كانَ في قصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولي الأَلْباب ). (1)
    وربما يتصوّر متصوّر أنّ تسجيل التاريخ وضبط الحوادث أمر سهل لا يستدعي سوى الشعور بالوقائع ، ومعرفة اللغة والكتابة ، ولكنّني أعتقد ـ ككثير ممّن لهم إلمام بالمسائل التاريخية ـ أنّ كتابة التاريخ الحقيقي الصحيح الذي يمكن أن يكون مساقط العبر والاعتبار ، ومهابط الوعظ والنصح ، أمر مشكل جداً ، لأنّ الهدف من تسجيل الحوادث ، هو : إراءتها للأجيال المتأخّرة على ما هي عليه سواء أكانت الحوادث بعامّة خصوصياتها موافقة مع ميوله
1 ـ يوسف : 111.

(8)
ونزعاته أم لا ، وسواء أكانت لصالح المؤرّخ وقومه أم لا; ومن المعلوم أنّ القيام بذلك ، يتوقّف على كون المؤرّخ رجلاً موضوعياً متبنّياً للحقيقة ، ومحباً لها أكثر من حبه لنفسه ونفيسه و مصالحه ، و لكن هذا النمط نادر بين المؤرّخين و لا يقوم به منهم إلاّ الأمثل فالأمثل ولا يأتي بمثله الزمان إلاّ في الفينة بعد الأُخرى; ولأجل ذلك قلّ المؤرّخون الموضوعيون المنصفون ، فإنّ أكثرهم يركّزون على ما يروقهم وما يلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقونه ، ويتركون ما سوى ذلك ، وليس هذا شيئاً محتاجاً إلى البرهنة والاستدلال ، بل يتّضح بالرجوع إلى ما أُلّف من التواريخ أيّام الدولتين : الأموية والعباسية ، فكلّ يخدم الحكومة التي كانت تعاصره وتدر عليه الرزق ، ومن ثمّ صارت التواريخ علبة المتناقضات ، وما ذاك إلاّ لأنّ الكاتب لم يراع واجبه الأخلاقي والاجتماعي وقبل كلّ شيء مسؤوليته الدينية.
تاريخ العقائد وتسجيل الفرق
    هذا فيما يرجع إلى مطلق التاريخ والوقائع التي يواجهها المؤرّخ في كلّ عصر ومصر سواء أكانت راجعة إلى الملوك والساسة ، أو السوقة والشعوب ، وأمّا تبيين عقائد الأُمم ومذاهبها التي كانت تدين أو تتمذهب بها على ما هي عليه ، فذاك أمر صعب مستصعب ، وأشكل من القيام بالرسالة المتقدّمة في مجال تسجيل الحوادث وضبط الوقائع ، وما هذا إلاّ لأنّ المؤلّف في هاتيك المجالات ـ إلاّ ما شذّ ـ مشدود إلى نزعات دينية وعقائد قومية ترسّخت في ذهنه ونفسه وروحه ، والفكرة الدينية صحيحة كانت أو باطلة من أحبّ الأشياء عند الإنسان وربما يضحّي في سبيلها بأثمن الأشياء وأغلاها.
    هذا من جهة ومن جهة أُخرى : إنّ القيام بهذه المهمة في مجال تاريخ العقائد يتوقّف على تحلّي المؤرّخ بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكّن بهما من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه ، والقيام بهذا الواجب عند فقدان هذين العاملين مشكل جدّاً ، ومن ثمّ يتحمّل مؤرّخ العقائد مسؤولية جسيمة أمام اللّه أوّلاً ، وأمام وجدانه ثانياً ، وأمام الأجيال القادمة والتاريخ ثالثاً.


(9)
    ومن المؤسف أنّ أكثر من قام بتدوين عقائد الملل لم يتجرّد عن أهوائه وميوله ومصالحه الشخصية وغلبت نزعاته وعواطفه الدينية وتعصّباته الباطلة على تبنّي الواقع وإراءة الحقيقة ، فترى أنّ أكثرهم يكتب عقيدة نحلته بشكل مرغوب منمّق ويحاول أن يصحّح ما لا يصحّ ولو بتحريف التاريخ وإنكار المسلّمات ، وأمّا إذا أراد الكتابة عن عقائد الآخرين فلا يستطيع أن يكن عداءه لها ، ولهذا يحاول أن يعرضها بصورة مشوّهة ، فيأتي في غضون كلامه بنسب مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمّة نزولاً على حكم العاطفة الدينية الكاذبة ، أو اعتماداً على الكتب التي لا يصحّ الاعتماد عليها ، أو تساهلاً في ضبط العقائد والمذاهب ، إلى غير ذلك من العوامل التي صارت سبباً لحيرة الأجيال المتأخّرة في مجال التعرّف على عقائد الأقوام والملل ، وضلالها وإساءة الظن فيها.
    وأخصّ من بين تلك العوامل ، الاكتفاء في تبيين عقائد قوم بالرجوع إلى كتب خصومهم وأعدائهم ، وهذا داء عمّ أكثر مؤرّخي العقائد والنحل ، نظير من ألّف من الأشاعرة في ضبط عقائد المعتزلة ، فهم يكتبون عن المعتزلة في ضوء ما وجدوه في كتاب إمام الحنابلة ( أحمد بن حنبل ) أو إمامهم ( أبو الحسن الأشعري ) فينسبون إليهم أُموراً لا تجد لها أثراً في كتبهم ، بل تجد نقيضه فيها ، ولأجل ذلك صارت المعتزلة مهضومة الحق.
    وليست المعتزلة هي الفرقة الوحيدة التي تعرّضت لمثل هذا الهضم ، بل قد تحمّلت الشيعة الإمامية القسط الأوفر من الاضطهاد والهضم ، وكأنّ أصحاب المقالات والفرق اتّفقت كلمتهم على الكتابة عنهم من دون مراجعة ـ ولو عابرة ـ إلى مصادرهم ومؤلّفاتهم ، وكأنّ عرض الشيعة حلال ينهبه كلّ من استولى عليه بقلمه وبيانه ، والقوم يكتبون عن الشيعة كلّ شيء وليس عندهم من الشيعة شيء سوى كتب أعدائهم وخصمائهم ومن لا يحتج به في باب القضاء والحجاج.
    وها نحن نقدّم نموذجاً في هذا الباب ونشير إلى كتابين أحدهما لبعض المتقدمين والآخر لبعض المعاصرين ، فنرى كيف أنّهما تساهلا في عرض عقائد الشيعة ونزلا على حكم العاطفة ، ورمياها بكلّ فرية ، وكأنّ الصدور مملوءة بالحقد والعداء ، وإليك البيان :


(10)
الشهرستاني وكتابه « الملل والنحل »
    إنّ كتاب « الملل والنحل » للمتكلّم الأشعري « أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني » ( المتوفّى سنة 548 هـ ) من الكتب المشهورة في هذا الباب وأكثرها تداولاً بين أترابه ، ولعلّ كثيراً من أهل العلم لا يعرفون كتاباً في هذا الموضوع سواه.
    ومع هذه الشهرة ترى في طيّات الكتاب نسباً مفتعلة وآراء مختلقة عندما يعرّف الشيعة ، ممّا يندى له الجبين ، ويخجل القلم من تحريره وتسطيره ، وإليك بعض ما نسبه إليهم :
    1. من خصائص الشيعة القول بالتناسخ والحلول والتشبيه. (1)
    2. إنّ الإمام الهادي ( عليه السَّلام ) ـ عاشر الأئمّة الاثني عشر ـ توفّي بقم ومشهده هناك. (2)
    3. إنّ هشام بن الحكم كان يقول : إنّ للّه جسماً ذا أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة. (3)
    4. إنّ علياً إله واجب الطاعة (4) !!
    إلى غير ذلك من النسب الكاذبة التي نسبها إلى متكلّم الشيعة ربيب بيت الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) « هشام بن الحكم » وإلى نظرائه كهشام بن سالم وزرارة ابن أعين ومحمد بن النعمان ويونس بن عبدالرحمن.
    هذا مع العلم بأنّ هؤلاء ـ أعاظم الشيعة ـ كانوا يقتفون أثر أئمتهم ولم يكونوا يعتنقون مبدأ إلاّ بعد عرضه عليهم ، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت
1 ـ الملل و النحل : 1/166.
2 ـ نفس المصدر.
3 ـ الملل والنحل : 1/184 ، وهو في هذا الافتعال تبع عبد القاهر البغدادي في « الفَرْق بين الفِرَق » ص 65 ، والشيخ الأشعري في « مقالات الإسلاميين » : 1/102 و ... والأخير هو الأساس لأكثر من كتب في الملل والنحل.
4 ـ الملل والنحل : 1/185.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس