بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 61 ـ 70
(61)

    فهل يصحّ للرسول أن يمنع عن تدوينه وكتابته أو مدارسته ومذاكرته؟!
    وإذا كان الرسول منع دراسة الحديث ونقله ونشره وتدوينه ، فما معنى قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في خطبته في منى عام حجّة الوداع : « نضر اللّه امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (1) ؟!
    وما معنى قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « نضّر اللّه امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما يسمع ، فرب مبلّغ أوعى من سامع » (2) ؟!
    أو قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « اللّهمّ ارحم خلفائي ، اللّهم ارحم خلفائي ، اللّهمّ ارحم خلفائي » قيل : يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال : « الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي » (3) ؟!
    كيف تصحّ نسبة المنع إلى الرسول الأعظم ، مع أنّ المستفيض منه خلافه؟! وإليك بعض ما ورد عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
أمر الرسول بكتابة حديثه
    1 ـ روى البخاري عن أبي هريرة أنّ خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأُخبر بذلك النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فركب راحلته فخطب ، فقال : « إنّ اللّه حبس عن مكة القتل أو الفيل ( شكّ أبو عبد اللّه ) وسلّط عليهم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والمؤمنين. ألا وإنّها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي ـ إلى أن قال ـ : فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول اللّه؟ فقال : « اكتبوا لأبي فلان ـ إلى أن قال ـ : كتب له هذه الخطبة ». (4)
    2 ـ وروي أنّ رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث
1 ـ سنن الترمذي : 5/34 ح 2657 ، 2658.
2 ـ سنن الترمذي : 5/34 ح2658.
3 ـ كنزالعمال : 10/221 ، رقم الحديث 29167 و بحارالأنوار : 2/145 ح 7.
4 ـ صحيح البخاري : 29 ـ 30 ، باب كتابة العلم ، الحديث 2.


(62)
فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « استعن بيمينك » وأومأ بيده للخط. (1)
    3 ـ وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قلت : يا رسول اللّه أكتب كلّ ما أسمع منك؟ قال : « نعم ». قلت : في الرضا والسخط؟ قال : « نعم فإنّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلاّحقاً ». (2)
    4 ـ وعن عبد اللّه بن عمرو قال : كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أُريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : تكتب كلّ شيء سمعته من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ورسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ ». (3)
    5 ـ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جدّه ، قال : قلت : يا رسول اللّه إنّا نسمع منك أحاديث لا نحفظها أفلا نكتبها؟ قال : « بلى فاكتبوها ». (4)
    أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم يحثّ المسلمين على كتابة ما يتداينون بينهم. قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْن إِلى أَجَل مُسمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُب وَلْيُمْلِلِ الَّذي عَلَيْهِ الحَقّ ... ) ثمّ يعود ويؤكد على المؤمنين أن لا يسأموا من الكتابة فقال سبحانه : ( وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجلهِ ... ). (5)
1 ـ سنن الترمذي : 5/39 ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الرخصة فيه ، ح 2666.
2 ـ مسند أحمد : 2/207.
3 ـ سنن الدارمي : 1/125 ، باب من رخّص في كتابة العلم; سنن أبي داود : 2/318 ، باب في كتابة العلم; مسندأحمد : 3/162.
4 ـ مسند أحمد : 2/215.
5 ـ البقرة : 282.


(63)
    فإذا كان المال الذي هو زينة الحياة الدنيا من الأهمية بهذه المنزلة ، فكيف بأقوال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجّية وبرهاناً؟
    وهناك كلمة قيّمة للخطيب البغدادي نأتي بها برمتها : وقد أدّب اللّه سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين ، فقال عزّ وجلّ : ( وَلا تَسأمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجَلهِ ذلِكُمْ أَقْسطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادةِ وَأَدنى أَلاّ تَرْتابُوا ) . (1)
    فلمّا أمر اللّه تعالى بكتابة الدين حفظاً له ، واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه ، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين ، أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشكّ فيه. بل كتابة العلم في هذا الزمان ، مع طول الاسناد ، واختلاف أسباب الرواية ، أحج من الحفظ ، ألا ترى أنّ اللّه عزّوجلّ جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم ، عوناً عند الجحود ، وتذكرة عند النسيان ، وجعل في عدمها عند المموّهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادّعوه فيها ، فمن ذلك أنّ المشركين لما ادّعوا بهتاً اتخاذ اللّه سبحانه بنات من الملائكة ، أمر اللّه نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يقول لهم : ( فأَتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . (2)
    ولمّا قالت اليهود : ( ما أنزلَ اللّهُ على بشر مِنْ شَيْء ) (3) ، وقد استفاض عنهم قبل ذلك للإيمان بالتوراة ، قال اللّه تعالى لنبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قل لهم : ( مَنْ أَنْزلَ الكتابَ الَّذي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهدىً لِلناسِ تَجْعَلُونهُ قَراطِيسَ تُبْدُونها وَتُخْفُونَ كَثيراً ) (4) ، فلم يأتوا على ذلك ببرهان ، فأطلع اللّه على عجزهم عن ذلك بقوله : ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوضِهِمْ يَلْعَبُون ) . (5)
1 ـ البقرة : 282.
2 ـ الصافات : 157.
3 ـ الأنعام : 91.
4 ـ الأنعام : 91.
5 ـ الأنعام : 91.


(64)
    وقال تعالى ـ رادّاً على متّخذي الأصنام آلهة من دون هـ : ( أَروني ماذا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرِكٌ فِي السَّماواتِ ائتُوني بِكتاب مِنْ قَبْلِ هذا أَو أَثارة مِنْ عِلْم إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) . (1) والأثارة والأثرة ، راجعان في المعنى إلى شيء واحد ، وهو ما أثر من كتب الأوّلين. وكذلك سبيل من ادّعى علماً أو حقاً من حقوق الأملاك ، أن يقيم دون الإقرار برهاناً ، إمّا شهادة ذوي عدل أو كتاباً غير مموّه ، وإلاّفلا سبيل إلى تصديقه.
    والكتاب شاهد عند التنازع ... إلى آخر ما ذكره. (2)
    نرى أنّه سبحانه قد شرح دساتير وحيه وآي قرآنه بالأمر بالقراءة مبيّناً أهمية القلم في التعليم والتعلّم حيث قال عزّمن قائل : ( اقرأ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَق* خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق* اقْرَأْ وَرَبّكَ الأَكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم ). (3)
    بل و عظّم سبحانه القلم والكتابة تعظيماً ، حتى جعلها بمرتبة استحقاق القسم بها فهو جلّ وعلا يقول : ( ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُون ) . (4)
    أفهل يعقل معه أن ينهى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن كتابة ما هو قرين القرآن وتاليه في الحجية ، أعني : السنة الشريفة؟! كلاّ.

أُسطورة المنع عن كتابة الحديث
    هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ما نسب إليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من النهي عن كتابة الحديث ، يخالف منطق الوحي والحديث والعقل ، وما هو إلاّوليد الأوهام والسياسات التي أخذت تمنع نشر حديث الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وتدوينه لغايات سياسية لا تخفى على ذي
1 ـ الأحقاف : 4.
2 ـ تقييد العلم : 70 ـ 71.
3 ـ العلق : 1 ـ 4.
4 ـ القلم : 1.


(65)
لب. فمثلاً روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « لا تكتبوا عنّي ، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه ». (1)
    وفي رواية : إنّهم استأذنوا النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم. (2)
    وفي مسند أحمد أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نهى أن نكتب شيئاً من حديثه (3) . وأيضاً ورد في مسند أحمد عن أبي هريرة أنّه قال : « كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي ، فخرج علينا فقال : « ما هذا تكتبون »؟ فقلنا : ما نسمع منك ، فقال : « أكتاب مع كتاب اللّه؟ » فقلنا : ما نسمع. فقال : « اكتبوا كتاب اللّه ، امحضوا كتاب اللّه ، أكتاب غير كتاب اللّه ، امحضوا أو خلصوه ». قال : فجعلنا ما كتبنا في صعيد واحد ثمّ أحرقناه بالنار ». (4)
    ثمّ إنّ القوم لم يكتفوا بما نسبوه إلى النبي في مجال كتابة الحديث ، بل ذكروا هناك أحاديث موقوفة على الصحابة والتابعين تنتهي إلى الشخصيات البارزة : كأبي سعيد الخدري ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد اللّه بن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعبيدة ، وإدريس بن أبي إدريس ، ومغيرة بن إبراهيم ، إلى غير ذلك. (5)
    وروى عروة بن الزبير أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً و قد عزم اللّه له ، فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه ، وإنّي واللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء
1 ـ سنن الدارمي : 1/119 مسند أحمد : 3/12.
2 ـ سنن الدارمي : 1/119.
3 ـ مسند أحمد : 5/182.
4 ـ مسند أحمد : 3/12.
5 ـ جمع الخطيب في « تقييد العلم » : 29 ـ 28 ، الروايات المنسوبة إلى النبي والموقوفة على الصحابة والتابعين.


(66)
أبداً. (1)
    وروى ابن جرير أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان كلّما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد ، يوصيه في جملة ما يوصيه : جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم. (2)
    وكان عمر قد شيع قرظة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى « صرار » على ثلاثة أميال من المدينة ، وأظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر ، وقال لهم ذلك القول.
    قال قرظة بن كعب الأنصاري : أردنا الكوفة ، فشيّعنا عمر إلى « صرار » فتوضأ فغسل مرتين ، وقال : تدرون لم شيعتكم؟ فقلنا : نعم ، نحن أصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فقال : إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم ، جرّدوا القرآن ، وأقلّوا الرواية عن رسول اللّه ، وامضوا وأنا شريككم. (3)
    وقد حفظ التاريخ أنّ الخليفة قال لأبي ذر ، وعبد اللّه بن مسعود ، وأبي الدرداء : ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد ؟!. (4)
    وذكر الخطيب في « تقييد العلم » عن القاسم بن محمد : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبها إلى اللّه ، أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي. قال فظنوا أنّه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ثمّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب . (5)
1 ـ تقييد العلم : 49.
2 ـ تاريخ الطبري : 3/273 ، طبعة الأعلمي بالأُفست.
3 ـ طبقات ابن سعد : 6/7 المستدرك للحاكم : 1/102.
4 ـ كنز العمال : 10/293 ح 29479.
5 ـ تقييد العلم : 52.


(67)
    وقد صار عمل الخليفتين سنّة ، فمشى عثمان مشيهما ، ولكن بصورة محدودة وقال على المنبر : لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر . (1)
    كما أنّ معاوية اتبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب وقال : يا ناس أقلّوا الرواية عن رسول اللّه وإن كنتم تتحدّثون فتحدّثوا بما كان يتحدّث به في عهد عمر. (2)
    حتى أنّ عبيد اللّه بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة ، نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدّث بأحاديث رسول اللّه . (3)
    وبذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية ، وعدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.
    هذه هي بعض الأقاويل التي رواها أصحاب الصحاح والسنن ، وفي نفس الوقت نقلوا أحاديث تناقضها وتأمر بكتابة الحديث والسنّة كما ستوافيك.

العقل والمنع عن كتابة الحديث
    كيف يسمح العقل والمنطق أن يحكم بصحّة الأحاديث الناهية عن الكتابة ، مع أنّ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمر في أُخريات حياته أن يحضروا له قلماً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً! وما كان المكتوب ( على فرض كتابته ) إلاّ حديثاً من أحاديثه ، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنّه قال : لمّا اشتدّ بالنبي وجعه قال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، قال عمر : إنّ النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط قال : « قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع » فخرج ابن عباس يقول : الرزية كلّ الرزية ماحال بين رسول اللّه وبين كتابه. (4)
1 ـ كنز العمال : 10/295 ، ح 29490.
2 ـ كنز العمال : 10/291 ، ح 29473.
3 ـ فرقة السلفية ، ص 14 ، نقلاً عن مسند الإمام أحمد.
4 ـ صحيح البخاري : 1/30 كتاب العلم ، باب كتابة العلم.


(68)
    أفهل يجتمع هذا الأمر مع النهي عن تدوينه؟!
    ثمّ إنّنا نرى أنّ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعث كتب إلى الملوك والساسة والأُمراء والسلاطين وشيوخ القبائل ورؤسائها ناهز عددها ثلاثمائة كتاب في طريق الدعوة والتبليغ أو حول العهود والمواثيق وقد حفظ التاريخ متون هذه الرسائل التي جمع بعضها نخبة مع المحقّقين في كتب خاصة. (1)
    والتاريخ يصرح بأنّ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يملي والكاتب يكتب ، فلما ازدادت الحاجة وكثرت العلاقات الاجتماعية أصبحت الحاجة إلى كتّاب يمارسون عملهم ، فأدّى ذلك إلى كثرة الكتّاب فجعل لكلّ عمل كاتباً ، ولكلّ كاتب راتباً معيناً. وقد كان أكثرهم كتابة ، علي بن أبي طالب صلوات وسلامه عليه ، فقد كان يكتب الوحي وغيره من العهود والمصالحات ، وقد أنهى المؤرخون كتّابه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى سبعة عشر كاتباً.
    فهل يجوز أن يكتب الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هذه المكاتبات والعهود والمصالحات إلى بطون القبائل ورؤساء العشائر وهو يعلم أنّهم يحتفظون بهذه المكاتبات بحجّة أنّها من أوثق الوثائق السياسية والدينية ، ثمّ ينهى عن تسطير كلامه وحديثه؟! فما هذان إلاّنقيضان لا يجتمعان.

الغايات السياسة والأهداف الدينية
    ومع ذلك كلّه فقد غلبت الغايات السياسية على الأهداف الدينية وقامت بكلّ قوة أمام حديث النبي ونشره وكتابته ، حتّى إنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمسمائة حديث كتبه عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ (2) .
    و لمّا قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الآفاق : أنّ من كتب حديثاً فليمحه. (3)
    ثمّ نهى عن التحدّث ، فتركت عدّة من الصحابة الحديث
1 ـ « كالوثائق السياسية » لمحمد حميد اللّه ، و « مكاتيب الرسول » للعلاّمة الأحمدي.
2 ـ كنز العمال : 10/237و 239.
3 ـ مسند أحمد : 3/12و 14.


(69)
عن رسولاللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ (1) فلم يكتب الحديث ولم يدوّن إلاّ في عهد المنصور عام 143 هـ كما سيوافيك بيانه.
    وقد بلغت جسارة قريش على ساحة النبي الأقدس أن منعوا عبد اللّه بن عمرو عن الاهتمام بحديث النبي وكتابته مدّعين بأنّه بشر يغضب (2) . أي واللّه إنّه بشر يرضى ويغضب ، ولكن لا يرضى ولا يغضب إلاّ من حقّ ولا يصدر إلاّ عنه.
    إنّ الرزية الكبرى هي أن يمنع التحدّث بحديث رسوله وكتابته وتدوينه ويحل محله التحدّث عن العهد القديم والجديد وعن الأحاديث الإسرائيلية والمسيحية والمجوسية (3) فتمتلئ الأذهان والصدور بالقصص الخرافية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا يصدقها العقل والمنطق كما سيمر عليك شرح تلك الفاجعة العظمى التي ألمت بالإسلام والمسلمين.
    فلو صحّ ما نقل عن أبي هريرة من جمع ما كتبه الصحابة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في مكان واحد وحرقه بالنار ، لوجب على المسلمين كافة أن يجمعوا كلّ مصادر أحاديث الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم وحرقها في مكان واحد وذلك اقتداء بالسلف الصالح!! ، وإذا صحّ فهل يبقى من الإسلام ما يرجع إليه في فهم القرآن الكريم وتمييز الحلال عن الحرام؟!
    والذي أظنّه ( وظن الألمعي صواب ) أنّ الذي منع من تدوين الحديث ونشره ومدارسته وكتابته بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، هو الذي منع كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ،
1 ـ مستدرك الحاكم : 1/102و 104.
2 ـ المصدر نفسه.
3 ـ وقد أذن عمر بن الخطاب لتميم الداري النصراني الذي استسلم عام 9 من الهجرة أن يقص كما في كنز العمال : 1/281 ، فالتحدّث بحديث رسول اللّه يكون ممنوعاً و « الداري » وأمثاله يكونون أحراراً في بث الأساطير والقصص المحرّفة؟!



(70)
فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبعدها واحدة لم تتغير ، وأمّا حقيقة تلك الغاية فتفصيلها موكول إلى آونة أُخرى ونأتي بمجملها :
    كان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) منذ أن صدع بالدعوة ، وأجهر بها ، ينص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتّى ، فقد عرّفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم ، بقوله : « إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».
    وفي يوم الأحزاب بقوله : « ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».
    وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك ، وقد ترك علياً خليفته على المدينة ، عرّفه بقوله : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ».
    إلى أن عرّفه في حجّة الوداع في غديرخم بقوله : « من كنت مولاه ، فهذا عليٌّ مولاه ». (1)
    وغير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة ، وقد سمعها كثير من الصحابة فوعوها.
    فكتابة حديث رسول اللّه بمعناها الحقيقي ، لا تنفك عن ضبط ما أثر عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في حقّ أوّل المؤمنين به ، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة ، وليس هذا شيئاً يلائم شؤون الخلافة التي تقلّدها المانع عن الكتابة.
    وهناك وجه آخر للمنع عنها ، هو أنّ عليّاً كان أحد المهتمين بكتابة حديث رسول اللّه وضبطه كما كان مولعاً بضبط الوحي وكتابته. وقد كتب من أحاديث رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ما أملى عليه فصار له أُذناً واعية ، وهو ( عليه السَّلام )
1 ـ سيوافيك مصادر هذه الأحاديث عند البحث عن عقيدة الشيعة ، و من أراد الوقوف فليرجع إلى كتب المناقب للإمام علي ( عليه السَّلام ).
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس