بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 51 ـ 60
(51)
العامل الأوّل
الاتجاهات الحزبيةُ والتعصّبات القبلية
    إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضية الإمامة ، إذ ما سل سيف قطّ في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة ، وقد كان الشقاق بين المسلمين في تلك المسألة أوّل شقاق نجم بينهم وجعلهم فرقاً أو فرقتين. فمن جانب نرى علياً صلوات اللّه عليه ورجال البيت الهاشمي ركنوا إلى النص وقالوا : إنّ الإمامة شأنها شأنالنبوة لا تكون إلاّ بالنصّ. وإنّ هذا النصّ قد صدر عن النبي في مواطن شتى ، آخرها واقعة الغدير المشهورة بين كافّة الناس حينما قام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في محتشد عظيم وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ... ». (1)
    ومن جانب آخر نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة قبل تجهيز النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ومواراته ، يبحثون عن قضية الإمامة أو الخلافة ، فيرى سيدهم أنّ القيادة حقّ للأنصار رافعاً عقيرته بقوله : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب ، إنّ محمّداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وقلع الأنداد
1 ـ راجع في تواتره وكثرة رواته في جميع العصور الإسلامية من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ، ودلالته على الولاية الكبرى للإمام أمير المؤمنين ، كتاب الغدير : الجزء الأوّل ، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن نقل مصادره.

(52)
والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم اللّه الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدّ الناس على عدّوه منكم وأثقله على عدوه من غيركم ، حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً ـ إلى أن قال ـ : استبدوا بهذا الأمر دون الناس.
    فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر فإنّك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى. (1)
    هذا منطق الأنصار ورئيس جبهتهم ترى أنّه يجر النار إلى قرصه وحزبه بحجّة أنّهم آمنوا بمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ونصروه وآووه ، إلى غير ذلك من الحجج التي ذكرها سعد بن عبادة ، رئيس الخزرج في جبهة الأنصار.
    ومن جهة ثالثة نرى بعض المهاجرين الذين اطّلعوا على اجتماع الأنصار في السقيفة ، يتركون تجهيز النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ومواراته ويسرعون إلى السقيفة ويحضرون في جمعهم ويناشدونهم ويعارضون منطقهم بقولهم : إنّ المهاجرين أوّل من عبد اللّه في الأرض وآمن باللّه وبرسوله ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلاّظالم ـ إلى أن قال ـ : من ذا ينازعهم في سلطان محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وإمارته وهم أولياؤه وعشيرته ، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة. (2)
    وهذا منطق بعض المهاجرين لا يقصر في الصلابة أو الوهن عن منطق الأنصار ، والكلّ يدّعي أنّ الحقّ له ولحزبه ، من دون أن يتفكّروا في مصالح الإسلام والمسلمين ، ومن دون أن يتفكّروا في اللياقة والكفاءة في القائد ، ومن دون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنّة وإحراز المعايير التي يجب وجودها في القائد ، فيشبه منطق هؤلاء منطق المرشحين من سرد الثناء على أنفسهم وحزبهم لرئاسة الجمهورية أو عضوية المجلس الوطني.
1 ـ تاريخ الطبري : 2/456 ، حوادث سنة 11 هـ.
2 ـ تاريخ الطبري : 2/457 ، حوادث سنة 11 هـ.


(53)
وكلّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
    نعم كان هذاالتشاجر قائماً بينهم على قدم وساق إلى أن تغلب جناح هذا الصنف من المهاجرين على جبهة الأنصار بإعانة بعض الأنصار وهو « بشير بن سعد » و هو ابن عم « سعد بن عبادة » ، فبايع أبا بكر حتى يكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا أمرهم ، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ـ و فيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء ـ : واللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه وبايعوه. (1)
    وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين في تقييم احتجاج الأنصار والمهاجرين نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، قال :
    لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أنباء السقيفة ، بعد وفاة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، قال ( عليه السَّلام ) : « ما قالت الأنصار؟ » قالوا : قالت : منّا أمير ومنكم أمير.
    قال ( عليه السَّلام ) : « فهلا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم »!
    قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم؟ .
    فقال ( عليه السَّلام ) : « لو كانت الإمارة فيهم ، لم تكن الوصية بهم ».
    ثمّ قال ( عليه السَّلام ) : « فماذا قالت قريش؟ ».
    قالوا : احتجت بأنّها شجرة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    فقال ( عليه السَّلام ) : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ». (2)
1 ـ تاريخ الطبري : 2/458 ، حوادث سنة 11 هـ.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة64.


(54)
    وفي كلمة قصيرة عن الإمام ( عليه السَّلام ) ، قال : « واعجباه تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة ».
    قال الرضي ، وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :
    فإن كنت بالشورى ملكتأُمورهم فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ
    وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب (1)
    وبتلك المعايير و المبررات تمت البيعة للخليفة ، والكلّ أشبه بالمكافحات الحزبية أو القبلية التي لا تمت إلى الإسلام وأهله بصلة.
    فعند ذلك أخذ هؤلاء المهاجرون بزمام الحكم واحداً بعد واحد إلى أن تربّع ثالث القوم عثمان بن عفان على منصة الحكم فحدثت في زمانه حوادث مؤلمة وبدع كثيرة أدّت إلى الفتك به والإجهاز عليه.
    غير أنّ عليّاً صلوات اللّه عليه وبني هاشم وعدّة من المهاجرين والبدريين وعدّة من أكابر الأنصار تمسّكوا بالنصّ النبوي وبقوا على ما فارقهم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عليه ، كما أنّ رئيس الأنصار الخزرجيين وداعميه لم يبايعوا أبا بكر ولا عليّاً.
    هذا تحليل تكوّن أوّل تفرّق حدث في الإسلام; فجعل الأُمّة فرقتين : فرقة تشايع الخلفاء ، وفرقة تشايع عليّاً ( عليه السَّلام ) إلى اليوم الحاضر.
    والذين شايعوا عليّاً ( عليه السَّلام ) وتابعوه لم يكن ذلك منهم إلاّتمسكاً بالدين مذعنين بأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد نصّ عليه من دون أن يكون هناك اندفاع حزبي أو علاقة شخصية أو قبلية ، بل تسليماً لقوله سبحانه : ( وَما كانَ لِمُؤمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرهِمْ ). (2)
    وأمّا غيرهم فقد عرفت المعايير التي استندوا إليها في تقديمهم على غيرهم ، فالكلّ معايير قبلية أو شخصية.
1 ـ نهج البلاغة ، طبعة عبده ، قسم الحكم ، الرقم190. وفي المطبوع تحريف ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.
2 ـ الأحزاب : 36.


(55)
العامل الثاني
سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق
    إذا كانت الدعايات الحزبية أوّل عامل لتكوّن الفرق ، فهناك عامل ثان لتفريق المسلمين وتبديدهم إلى فرق متباعدة ، وهو سوء الفهم ـ عن تقصير ـ في تحديد العقائد الدينية من بعضهم ، وقلة العقل وخفّته في بعض آخر منهم ، وقد كان هذا عاملاً قويّاً لتكوّن الخوارج التي كانت من أخطر الفرق على الإسلام والمسلمين ، لولا أنّ الإمام عليّاً ( عليه السَّلام ) استأصلهم وبدد شملهم ، ومع ذلك بقيت منهم حشاشات تنجم تارة وتخفق أُخرى في الأجيال والقرون ، وإليك شرحه :
    لقد ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة التي ارتكبها عماله في هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب علي ( عليه السَّلام ) مكانه لما عرفت الأُمّة من علمه وفضله وسابقته وجهاده المنقطع النظير ، وقام علي ( عليه السَّلام ) بعزل الولاة والعمال الذين نصبهم عثمان على رقاب الناس ، وقد انتهت أعمالهم الإضرارية من جانب ، وإصرار الخليفة على إبقائهم من جانب آخر ، إلى قتله.
    قام علي ( عليه السَّلام ) بعزل الولاة آنذاك ، ونصب العمال الأتقياء الزهّاد الكفاة مكانهم ، وعند ذلك طمع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه في العراقين ، وطلبا منه أن يولي أحدهما على الكوفة والآخر على البصرة ، والمألوف من طريقة علي ( عليه السَّلام ) في تنصيب العمال اشتراط شروط ، تخالف ما كان عليه


(56)
الرجلان وقد قال في حقّهما كلمة : « وإنّي أخاف شرهما على الأُمّة وهما معي ، فكيف إذا فرقتهم في البلاد ». (1)
    فعند ذلك ثارا على الإمام علي ( عليه السَّلام ) وخرجا عليه واتّهماه ـ لتبرير موقفهما ـ بقتل عثمان أو إيواء قتلته ، وكانت نتيجة ذلك اشتعال نار الحرب بين الإمام والرجلين في نواحي البصرة « حرب الجمل » وقتل الرجلين بعد أن أُريقت دماء الأبرياء.
    ثمّ إنّ معاوية قد عرف موقف علي ( عليه السَّلام ) بالنسبة إلى عمال الخليفة « عثمان » ، و مع هذا طلب من الإمام إبقاءه والياً على الشام ، فرفض الإمام ذلك لما يعرف من نفسية معاوية وانحرافه ، ونشبت من ذلك « حرب صفين » ولما ظهرت بوادر الفتح المبين لعلي وجيشه ، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين ، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة علي ( عليه السَّلام ). فمن قائل : نستمر في الحرب وهذه خدعة ومكر ، ومن قائل : نجيبهم إلى ما دعونا إليه.
    وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب ، وقام بتبيين الخدعة ، غير أنّ الظروف الحاكمة السائدة على جيش الإمام ألجأته إلى قبول وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحكمين وإعلان الهدنة ، وكتب هناك كتاباً حول هذا.
    ومن العجيب أنّ الذين كانوا يصرون على إيقاف الحرب ندموا على ما فعلوا فجاءوا إلى الإمام يصرّون على نقض العهد ، والهجوم على جيش معاوية من جديد ، غير أنّ الإمام وقف في وجههم بصمود لما يتضمن من نقض العهد ( وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً ) . (2)
    وعند ذلك نجمت فرقة باسم الإسلام من جيش علي ( عليه السَّلام ) وطلع قرن الشيطان ، فعادت تلك الجماعة خارجة عن إطاعة إمامهم ، رافضة لحكومته ، ومبغضة إيّاه كما أبغضت عثمان وعماله ، وهذه الفرقة هي فرقة الخوارج وما زالوا
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/16.
2 ـ الأحزاب : 15.


(57)
مبدأ أحداث وعقائد في التاريخ. وكان الحافز القوي على تكوّن هذه الفرقة هو سوء الفهم واعوجاج السليقة ، وقد عرّفهم الإمام بقول هـ عندما شهروا سيوفهم عليه في النهروان ـ : « فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربّكم ولا سلطان مبين معكم ، قد طوّحت بكم الدار واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين ، حتى صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام ، سفهاء الأحلام ». (1)
    وللإمام كلمة أُخرى يشير فيها إلى السبب الذي فارقوا به عن الحقّ قال صلواتاللّه عليه : « لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » ( يعني معاوية وأصحابه ).
    قال الإمام عبده : والخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلّوا بسوء عقيدتهم فيه إلاّأنّ ضلّتهم لشبهة تمكّنت في نفوسهم ، فاعتقدوا أنّ الخروج عن طاعة الإمام ممّا يوجبه الدين عليهم ، فقد طلبوا حقّاً وأرادوا تقريره شرعاً ، فأخطأوا الصواب فيه. (2)
    وقد زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاّللّه ). (3)
    وسيوافيك مفاد الآية ومقالة المحتجين بها ـ عند البحث عن عقائد تلك الفرقة ـ كي يظهر مدى اعوجاج فهم القوم.
ظهور المرجئة
    قد كان لظهور الخوارج أثر بارز في حدوث الفتن وظهور الحوادث الأُخر في المجتمع الإسلامي ، وقد نجمت المرجئة من تلك الناحية حيث إنّ الإرجاء
1 ـ نهج البلاغة شرح محمد عبده : 1/82 ، الخطبة 35.
2 ـ نهج البلاغة شرح محمد عبده : 1/103 الخطبة 58.
3 ـ يوسف : 40.


(58)
بمعنى التأخير قال سبحانه : ( أَرْجه وَأَخاهُ وَأَرسل فِي المدَائنِ حاشِرين ) . (1)
    ولهذه الفرقة ( المرجئة ) آراء خاصة نشير إليها في محلّها ، غير أنّ اللبنة الأُولى لظهورها هي اختلافهم في أمر علي وعثمان ، فهؤلاء ( الخوارج ) كانوا يحترمون الخليفتين أبا بكر وعمر ويبغضون علياً وعثمان ، على خلاف أكثرية المسلمين ، ولكن المرجئة الأُولى لما لم يوفقوا لحلّ هذه المشكلة التجأوا إلى القول بالإرجاء فقالوا : نحن نقدّم أمر أبي بكر وعمر ، ونؤخّر أمر الآخرين إلى يوم القيامة ، فصارت المرجئة فرقة نابتة من خلاف الخوارج في أمر الخليفتين ، مع فوارق بينهم و بين المرجئة التي تأتي في محلّها ، والعامل لتكوّنها كأصلها ، هو سوء الفهم واعوجاج التفكير.
    هذا هو أصل الإرجاء ، ولبنته الأُولى ، ولكنّه قد نسي في الآونة الأخيرة; وأخذ الأصل الآخر مكانه ، و هو كون العمل داخلاً في الإيمان أو لا؟ وبعبارة أُخرى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو لا؟
    ذهبت الخوارج إلى دخول العمل في صميم الإيمان ، فصار مرتكب الكبيرة كافراً.
    واختارت المعتزلة كون مرتكب الكبيرة غير مؤمن ولكنّه ليس بكافر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين.
    وذهبت المرجئة الأُولى إلى خروج العمل من الإيمان ، وأنّ إيمان مرتكب الكبيرة ، كإيمان الملائكة والأنبياء بحجّة عدم دخالة العمل في الإيمان. فاشتهروا بالقول : « قدّموا الإيمان وأخّروا العمل » فصار هذا أصلاً وأساساً ثانوياً للمرجئة. فكلّما أطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلاّ هؤلاء.
    إنّ الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظية أو المعرفة القلبية ، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً ، وانّ النار للكافرين (2) واقتحام الكبائر لا يضر أبداً ،
1 ـ الأعراف : 111.
2 ـ شرح المقاصد للتفتازاني : 2/229 ، ولاحظ أيضاً ص 238.


(59)
فكرة خاطئة تسير بالمجتمع وخصوصاً الشباب فيه إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم.
    وعلى كلّ تقدير إنّ نظرية الإرجاء في كلا الموضعين نظرية باطلة نشأت من الاعوجاج في فهم المعارف والانحراف في تفسير الذكر الحكيم ، والحديث المأثور عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    ولما كان مذهب الإرجاء لصالح السلطة الأموية أخذت تروّجه وتسانده حتى لم يلبث أن فشا في الإرجاء ، ولم تبق كورة إلاّ وفيها مرجئي ، كما سيوافيك ذلك عند البحث عن عقائد هذه الفرقة.
    وليس ظهور الخوارج أو المرجئة وحدهما نتاج الإعوجاج الفكري ، بل هناك مذاهب أُخرى نجمت من هذا المنشأ. عصمنا اللّه جميعاً من الزلل في القول والعمل.
( ادعُ إِلى سَبيلِ رَبّكَ بِالحكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَن ) (1) .
1 ـ النحل : 125.

(60)
العامل الثالث
المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه
    إنّ هنا عاملاً ثالثاً لتكوّّن الفرق ونشوء الفوضى في العقائد والأُصول ، وهو المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدّث عنه بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى عهد المنصور العباسي.
    توضيحه : الحديث عبارة عمّا ينسب إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من قول أو فعل أو تقرير نازل منزلة التفسير لمعاني الكتاب الحكيم ، مبيّن لمجمله ، شارح لمعانيه ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ) . (1)
    أي لا لتقرأ فقط ، بل تبيّن وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.
    إذا كانت السنّة هي في الدرجة الثانية من الدين بعد القرآن الكريم في الحجية والاعتبار ، حتى إنّك لا تجد فيها شيئاً إلاّ وفي القرآن أُصوله وجذوره ، ولا إسهاباً إلاّ وفيه مجمله وعناوينه.
    وإذا كان الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يصدر في قوله وكلامه إلاّ بإيحاء من اللّه سبحانه كما يصرح بذلك قوله سبحانه : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى* وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ). (2)
1 ـ النحل : 44.
2 ـ النجم : 2 ـ 4.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس