بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 301 ـ 310
(301)
    ولو توفّي الرجل عن أولاد صغار بلا وصي ولا تعيين قيّم لصغاره فعلى الحاكم الإسلامي تعيين القيّم عليهم لئلاّ تضيع أموالهم ، وعندئذ يسأل فهل الاعتقاد بالأصل الكلي من صميم الدين؟ وأنّه يجب على المسلم أن يعتقد بأنّ من مات عن أولاد صغار يجب على الحاكم نصب من يلي أُمورهم؟ وعلى فرض كونه بصورته الكلية من صميمه ، فهل الاعتقاد بأنّ زيداً ولي الصغار عند نصب الحاكم له ، من صميم الدين ، أو أنّ المطلوب في الفروع هو العمل عند الابتلاء. وأمّا الاعتقاد التفصيلي بالكبريات والصغريات فغير لازم؟

ج. مبدأ ظهور هذه العقيدة
    لم يكن في عصور الخلفاء الثلاث أي أثر من هذه العقيدة ولم يكن يخطر ببال أحد من المهاجرين والأنصار أنّه يجب الاعتقاد بخلافة هذا أو ذاك أو ذلك ، وأنّ من لم يكن معتقداً بخلافتهم يخرج عن صفوف المؤمنين ويلتحق بالمبدعين. وإنّما أوجدت تلك الفكرة يد السياسة بهدف الإزراء بعلي ( عليه السَّلام ) ، وتصحيح خروج معاوية عليه لأخذ ثأر الخليفة ، ولعلّ عمرو بن العاص هو أوّل من بذر تلك الفكرة.
    ويدلّ على ذلك ما ذكره المسعودي في كتابه : قال : اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل ، فجرى بينهما مناظرات و قد أحضر « عمرو » غلامه لكتابة ما يتفقان عليه ، فقال عمرو بن العاص ـ بعد الشهادة بتوحيده سبحانه نبوة نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عمل بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتّى قبضه اللّه إليه ، وقد أدّى الحقّ الذي عليه.
    قال أبو موسى : اكتب ثمّ قال في عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسى : اكتب ، ثمّ قال عمرو : واكتب : وأنّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ورضاً منهم ، وأنّه كان مؤمناً.
    فقال أبو موسى الأشعري : ليس هذا ممّا قعدنا له.
    قال عمرو : واللّه لابدّمن أن يكون مؤمناً أو كافراً.
    فقال أبو موسى : كان مؤمناً.


(302)
    قال عمرو : فمره يكتب.
    قال أبو موسى : اكتب.
    قال عمرو : فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟
    قال أبو موسى : بل قتل مظلوماً.
    قال عمرو : أو ليس قد جعل اللّه لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟
    قال أبو موسى : نعم.
    قال عمرو : فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟
    قال أبو موسى : لا.
    قال عمرو : أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه؟
    قال أبو موسى : بلى.
    قال عمرو للكاتب : اكتب ، وأمره أبو موسى فكتب.
    قال عمرو : فإنّا نقيم البيّنة على أنّ عليّاً قتل عثمان ... . (1)
    وهذا النصّ من حجّة التاريخ وغيره يعرب عن أنّ الاعتقاد بخلافة الخلفاء إنّما برز للوجود في جو مشحون بالعداء والبغضاء والمنافسة والمغالبة ، حتى جعل ذلك الداهية الماكر ، الاعتقاد بخلافة الشيخين وسيلة لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث من الخلفاء ، ولم يكن الانتزاع مقصوداً بالذات ، بل كان أخذه ذريعة لانتزاع الاعترافات الأُخرى من أنّه قتل مظلوماً وأنّه ليس له ولي يطلب بدمه أولى من معاوية وأنّ عليّاً هو القاتل ... إلى آخره.
    ثمّ إنّ الأجواء السياسية المخالفة لأمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أخذت تروّج تلك العقيدة من أجل الإطاحة به ( عليه السَّلام ) وإثبات صحّة قيام معاوية وصحّة أعماله وقيامه ونصبه فصار ذلك المستمسك السياسي بمرور الزمان ، عقيدة دينية ، سقته الأوضاع السياسية الأموية والعباسية ، إلى أن ذكرت في الكتب والمؤلفات وعدّت من صميم الدين.
    وقد استفحلت أهمية الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث منهم في عهد معاوية عندما كتب إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.
    فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً و يبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من فيها من شيعة علي ( عليه السَّلام ) ، فاستعمل معاوية عليهم زياد بن سمية وضم إليها البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم
1 ـ مروج الذهب : 2/396 ـ 397.

(303)
عارف ، لأنّه كان منهم أيّام علي ( عليه السَّلام ) فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم.
    وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله و مناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إلي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك ، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم و الموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّكتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً.
    ثمّ كتب إلى عماله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّوتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.
    فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، و أُلقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه. (1)
    كلّ ذلك يثبت أنّ الإيمان بخلافتهم ولا سيما الثالث منهم ، كان وليد
1 ـ الشرح الحديدي : 11/44 ـ 45 نقله عن كتاب الأحداث لأبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني.

(304)
سياسات غاشمة انطلقت من البيت الأموي وأشياعه ضد البيت العلوي وأتباعه. وبذلك يسهل تصديق ما ذكره الكاتب الكبير محمود أبو رية في كتابه القيم « أضواء على السنة المحمدية » : إنّ الأهواء الشخصية والأغراض المذهبية كان لها أثر بعيد في وضع الحديث على رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لكي يؤيد كلّ فريق رأيه ، ويحقّق م آربه بحقّ وبغير حقّ وبصدق وبغير صدق. (1)
    وفي الختام للقارئ الكريم أن يسأل : مَن جعل الاعتقاد بخلافة الخلفاء الأربع من صميم الدين دون سواهم؟! وأن يسأل عن وجه التفاضل والتمييز بينهم و بين سائر الخلفاء الذين تسلّموا دفة الخلافة عن طريق الوراثة ، أو تنصيص سابق منهم على اللاحق ، أو ببيعة عدّة من الشاميين وغيرهم.
    وهذا عمر بن عبد العزيز قد تسلّم دفّة الحكم بأحد هذه الطرق مع أنّهم لا يجعلون الإيمان بخلافته من صميم الإيمان ، مع أنّه من قريش وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا يزال هذا الأمر في قريش ، ما بقي منهم اثنان ».
    وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة ». (2)
    اللّهمّ إلاّأن يعتذروا عن هذا التخصيص بأنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ، ثمّ ملك بعد ذلك ». (3)
    لكن في سنده سعيد بن جمهان ، قال أبو حاتم الرازي : شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. (4)
    ثمّ إنّ هنا نكتتين نبّه عليهما العلاّمة الروحاني في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » : ( ص 24 ـ 25 ) نأتي بهما معاً :
1 ـ أضواء على السنّة المحمدية.
2 ـ جامع الأُصول : 4/437 ـ 438.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ الجرح والتعديل : 4/10.


(305)
    1 ـ الحقّ الذي يراه المتتبع في التاريخ هو أنّ عقيدة خلافة الخلفاء الثلاث وقداستهم البالغة ، قد أُقحمت في عقائد أهل السنّة إقحاماً ، وإنّما كان ذلك رد فعل ومحاكاة لعقيدة الشيعة في علي ( عليه السَّلام ) وأولاده الطاهرين ، ولذا صيغت هذه العقيدة أوّلاً عند أهل السنّة في قالب الرد والمعارضة لعقيدة الشيعة فقط ، ثمّ ألحقوا عليّاً ( عليه السَّلام ) بهم في عصر متأخر.
    وبتفصيل أكثر نقول : إن جعل خلافة الشيخين من العقائد ، لم يكن في القرن الأوّل. وغاية ما كان يقال فيهما هو أنّ خلافتهما كانت صحيحة.
    هذا فضلاً عن عقيدتهم في خلافة عثمان وعلي ، بل إنّ عثمان لم يكن بذلك المرضي عند الناس.
    ثمّ إنّ المرجئة كانت تشك في عدالة عثمان وعلي ، بل في إيمانهما. (1) ونحلة الإرجاء كانت شائعة في عامة الناس آنذاك قبل غلبة أهل الحديث ، بل لقد كان لهم القدح المعلّى حتى بعد وجود أهل الحديث والسنّة في كثير من البلاد. حتى قال الأمير نشوان الحميري : وليس كورة من كور الإسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل. (2)
    2 ـ تقرر الأمر في نحلة أهل الحديث على قبول خلافة علي ( عليه السَّلام ) بعد ما كانوا في الغالب من العثمانية ينكرون خلافة علي ، و يظهر أنّ قبول خلافة علي ( عليه السَّلام ) كان على يد الإمام أحمد بن حنبل ، فقد ذكر ابن أبي يعلى بالإسناد عن وديزة الحمصي قال : دخلت على أبي عبد اللّه أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي ـ رضي اللّه عن هـ فقلت له : يا أبا عبد اللّه إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير ، فقال : بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ، فقلت : أصلحك اللّه إنّما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ، فقال لي : وما يمنعني من ذلك ، قال : قلت : حديث ابن
1 ـ طبقات النساء : 6/154.
2 ـ الحور العين : 203.


(306)
عمر (1) ، فقال لي : عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قد سمّى نفسه أمير المؤمنين; فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير ، فانصرفت عنه. (2)
    وهذا يعرب عن أنّ مسألة التربيع كانت مسألة ثقيلة على هذا المحدّث ، وقد كان غير الكوفيّين على هذا المذاق.
    وممّا يؤيد عدم كون خلافة الخلفاء من صميم الدين : أنّ أحمد بن حنبل في رسالته المؤلّفة حول مذاهب أهل السنّة لم يذكرها في عداد العقائد الإسلامية ، بل بعدما أكمل بيان العقائد قال : ومن السنّة ذكر محاسن أصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والكف عمّا شجر بينهم ، فمن سبّ أصحاب رسول اللّه أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي ، حبهم سنّة ، والدعاء لهم قربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ ب آثارهم فضيلة ، وخير هذه الأُمّة ـ بعد نبيها ـ أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر عمر ، وخيرهم بعد عمر عثمان ، وخيرهم بعد عثمان علي ، رضوان اللّه عليهم خلفاء راشدون مهديون. (3)
    وأمّا البحث عن الدليل الدالّ على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم ، فسيوافيك الكلام فيه في الجزء السادس.
( ثُمَّ أَورَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبير ) (4) .
    ***
1 ـ الحديث المنسوب إلى ابن عمر هو « كنّا نعد ورسول اللّه حيّ وأصحابه متوافرون : أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت ».
2 ـ طبقات الحنابلة : 1/393.
3 ـ كتاب السنّة : 49.
4 ـ فاطر : 32.


(307)
خاتمة المطاف
    فيها أُمور :
الأوّل : المذهب الحنبلي في مجال العقائد والفقه
    إنّ للمذهب السنّي على الإطلاق دعامتين :
1 ـ المذهب الفقهي
    لم يكن لأهل السنّة والجماعة في القرون الأُولى إلى القرن السابع مذهب فقهي خاص يقتفون أثره ، بل كانت لهم مذاهب فقهية مختلفة متشتّتة غير أنّ يد السياسة حصرت المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة وهي : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وألغت سائر المذاهب ولم تعترف بها.
    قال المقريزي : استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ، ولم يول قاض ، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة ، بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم. (1)
1 ـ الخطط المقريزية : 2/333 و 334 و 344.

(308)
    وهذه الكلمة الأخيرة ، أعني قوله : وتحريم ما عداها تكشف عن رزية فادحة ألمت بالإسلام حيث إنّ المسلمين قد عاشوا قرابة سبعة قرون ، ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّخالقهم ولم يسمع أحد في القرنين الأوّلين اسم هذه المذاهب. ثمّ في ما بعدهما كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في غاية من السعة والحرية ، وكان العامي يقلّد من اعتمد من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالكتاب والسنّة ولم يعلم وجه لهذا الحصر وأنّه ليس لأحد من المقلّدين أو الفقيه المجتهد أن يخرج عن حدّتقليد الأئمّة الأربعة ، فبأي دليل شرعي صار اتّباع المذاهب الأربعة واجباً مخيراً والرجوع إلى غيرها حراماً باتاً مع أنّا نعلم أنّ هذه المذاهب نشرت في ما نشرت من المناطق بالقهر والغلبة من الحكومات الإسلامية ، فالحكومة التي كان يروقها الفقه الحنفي كانت تباشر نشره وتكبت غيره وتسد الطريق أمامه ، والحكومة التي كان يروقها غير الحنفي تعمل مثل عمل الحكومة الأُولى ، وقد أشعلت السياسات الخادعة نيران العداء بين أتباع المذاهب الأربعة طول القرون (1) ، وعاد وعاظ السلاطين ينحتون لكلّ إمام من الأئمّة الأربعة فضائل ومناقب صدرت عن النبي قبل ميلادهم وإمامتهم. (2)
    هذا حال الدعامة الأُولى ولا نطيل البحث فيها ، والذي يجب أن يستنتج ممّا ذكرناه هو أنّ من يحلم بخلود الدين وبقاء قوانينه ويرغب في غضاضة الدين وطراوته وصيانته عن الاندراس وغناء المسلمين عن موائد الأجانب ، يجب عليه
1 ـ لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلاّمة الطهراني : 140 والحوادث الجامعة لابن الفوطي : ص216 في حوادث سنة 645 واقرأ فيها ملحمة النزاع بين اتّباع الأئمّة الأربعة ، ولا تنس ما أنشده علي بن الجرجاني عن بعضهم :
مثل الشافعي في العلماء قل لمن قاسه بنعمان جهلاً مثل البدر في نجوم السماء أيقاس الضياء بالظلماء
تاريخ بغداد : 2/69.
2 ـ لاحظ تاريخ بغداد : 1/41 « مناقب أبي حنيفة » و ج 2/69 « مناقب الشافعي » و قد نقل أحاديث في مناقبهما ولم يكن من الإمامين أثر إلاّ في عالم الذر.


(309)
السعي في فتح باب الاجتهاد ، سواء أُوافق رأي الأئمّة الأربعة أم خالفها. (1)

2 ـ المذهب العقائدي
    ونعني به الأُصول التي يعتنقها أهل السنّة في هذا الجيل والأجيال المتقدّمة إلى زمن الإمام أحمد حول المبدأ والمعاد وأسمائه سبحانه وصفاته وما يرجع إلى الإنسان في عاجله وآجله.
    ولا شكّ أنّ هذه الأُصول قد دونت و رتبت في الكتب الكلامية للحنابلة بصورة بسيطة ، وفي كتب الأشاعرة بصورة علمية مبرهنة ، وقد قدّمنا إليك عصارات مدوّنة من عقائدهم.
    والذي نركز عليه هو أنّ هذه الأُصول على اختلاف في عددها وإن صارت عقيدة لأهل السنّة في هذه الأجيال ولكنّها أُصول اجتمعوا عليها منذ تصدّر أحمد ابن حنبل منصة الإمامة في العقائد والمعارف واستخرجها من السنّة ودوّنها في رسائله ، وذكر أنّها عقائد أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسكين بعروتها ، المعروفين بها ، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي إلى يومنا هذا من علماء الحجاز و الشام وغيرهم.
    ولكن الحقيقة غير ذلك بل كان المسلمون ، أعني : بهم أصحاب الحديث ، السنّة قبل تصدّر أحمد لمنصة الإمامة في مجال العقائد على فرق وشيع ولم تكن هذه الأُصول برمتها مقبولة عندهم ، وإنّما الإمام أحمد وحدهم على تلك الأُصول وقضى على سائر المذاهب الدارجة بين أهل الحديث أنفسهم ، فنسبة هذه الأُصول إلى إمام الحنابلة أقرب إلى الحقيقة من نسبتها إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. والغافل عن تاريخ حياة الإمام وتأثيره في نفوس المسلمين وما كسب بعد الإفراج من العطف والحنان يتخيل أنّ هذه الأُصول مذهب أهل السنّة مع أنّه لم يكن لهذه الأُصول بهذا النحو ، أثر قبله ، بل كان المحدّثون
1 ـ لاحظ مفاهيم القرآن : 3/290 ـ 305 تجد فيها بغيتك.

(310)
مختلفين في كثير من هذه الأُصول. فصار الإجماع والاتّفاق من جانب الإمام سبباً لتناسي ما كانوا عليه من العقائد.
    إنّ الإمام أحمد لمّا ظهر منه الصمود والثبات في طريق العقيدة ( عدم خلق القرآن وقدمه ) وتحمّل المحنة (1) إلى أن أُفرج عنه في أيّام المتوكّل و قرّبه الخليفة إلى بلاطه ، صار ذلك سبباً لشهرته وإمامته في مجال العقائد ، وقد جعلت المحنة من ذلك الرجل الصمود ، بطلاً سامياً تهوي إليه الأفئدة ، وتخضع له الأعناق ، أضف إليه أنّه جنّد بلاط الخليفة جهوده لترويج أفكاره و آرائه ، فعند ذلك صار أحمد إمام السنّة وناصرها ، فصارت السنة ما قاله أحمد ، والبدعة ما هجره أحمد ، وكأنّهم نسوا أو تناسوا ما كان عليه أسلافهم من الفرق المختلفة.
    وعلى ضوء هذا فليس المذهب الحنبلي العقائدي ، مذهباً لعامة أهل الحديث و أهل السنّة وإنّما هو مذهب الإمام أحمد ، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع أيّام المتوكل وبعده لصالحه ، ولولا أنّ المحنة استبطلت الرجل وخلقت منه رجلاً مثالياً شجاعاً في طريق العقيدة ، لكان المذهب السنّي في الناحية العقائدية غير مجمع على هذه الأُصول التي يتخيل أنّها أُصول اتّفق عليها أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان إلى زمن إمامة أحمد.
    وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا ـ أي اختلاف آراء أهل الحديث وتشتت مذاهبهم في مجال العقائد ـ فاستمع لما يقوله السيوطي ويذكره في هذا المجال ونحن نأتي بملخّص ما ذكره ذلك المحدّث الخبير وهو يكشف عن وجود المسالك المختلفة والأهواء المتضادة عند أهل الحديث ، وأنّهم لم يكونوا قط على وتيرة واحدة حسبما وحدهم إمام الحنابلة فهم كانوا بين :
    مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنّه لا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ، ونقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه ، نظراء :
1 ـ سيوافيك تفصيل ذلك في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس