بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 291 ـ 300
(291)
لَهُمْ كُونُوا قِرَدةً خاسِئِينَ ) (1) ، فهذا صنيعه بأهل طاعته ، وما قدّمناه صنيعه بأهل معاصيه عاجلاً ، فإذا هم اتّبعوا أهواءهم ، عاقبهم بما يستحقون.
    وقال في الرسالة : ولا يصحّ الجبر إلاّ بمعونة اللّه ، ولذلك قال لمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتّ تَرَُْْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئاً قَليلاً ) (2) ، وقال يوسف ( عليه السَّلام ) : ( وإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ ) (3) فقد بيّن وأمر ونهى ، وجعل للعبد السبيل على عبادته ، وأعانه بكلّ وجه ولو كان عمل العبد يقع قسراً لم يصحّ ذلك.
    هذا نصّ الرسالة نقلناها برمتها عن « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » للقاضي عبد الجبار ص 216 ـ 223.
    قال المعلّق على كتاب القاضي : رسالة الحسن إلى عبد الملك بن مروان مطبوعة في مجلة « دار الإسلام » طبعها رويتر عدد 21 سنة 1933 م ـ وأضاف ـ منها نسخة من مكتبة أيا صوفيا استنبول برقم 3998.
    وهذه الرسالة تعترف بعلمه السابق ولكن تنكر كونه موجباً للجبر بمحكم آياته.
    ومن لطيف كلامه في الرسالة قوله : « والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ».

كلام مؤلّف كتاب المعتزلة
    إنّ عامة المسلمين في صدر الإسلام كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره من اللّه تعالى وأنّ الإنسان في هذه الدنيا مسيّر لا مخيّر وأنّ القلم قد جفّ على علم اللّه ، وقد قال أحد رجاز ذلك الزمان معبراً عن تلك العقيدة :
1 ـ الأعراف : 166.
2 ـ الإسراء : 74.
3 ـ يوسف : 33.


(292)
يا أيّها المضمر همّاً لاتهم ولو علوت شاهقاً من العلم إنّك إن تقدر لك الحمى تحم كيف توقيك وقد جف القلم (1)
    يلاحظ عليه : أنّ نسبة كون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً إلى عامّة المسلمين خطأ جداً ، وإنّما هي عقيدة تسربت إلى المسلمين من بلاط الأمويين ، وهم أخذوه من الأحبار والرهبان ، وإلاّ فالطبقة المثلى من المسلمين كانوا يعتقدون بالاختيار في مقابل التسيير.
    و هذه خطب علي ( عليه السَّلام ) وأبناء بيته الرفيع جاهرة بالاختيار ونفي كون التقدير سالباً للحرية ، وهذا هو الحسن البصري يسأل « الحسن بن علي » عن مكانة القدر في التشريع الإسلامي ، وهو ( عليه السَّلام ) يجيب بما عرفته. (2)
    كيف وإنّ التكليف والوعد والوعيد يقوم على أساس الحرية ولا يجتمع مع الجبر كما أنّ إرسال الرسل لا يتم إلاّ بالقول بأنّ الإنسان مخيّر في اتّباع الرسول ومخالفته مضافاً إلى أنّ تعذيب الإنسان المسيّر ظلم قبيح منفيّ عنه سبحانه عقلاً ونقلاً. وهذه الوجوه كافية في إثبات أنّ الرأي العام للمسلمين ـ لولا الضغط من البلاط الأموي ـ هو الاختيار. وما تقدم من رسالة عادل بني أُمية! لأصدق شاهد على أنّ مذهب الجبر أذيع من قبل الحكام الأمويين.
1 ـ كتاب المعتزلة : 91 نقلاً عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : 25.
2 ـ لاحظ ص : 292.


(293)
(4)
هل الإيمان بخلافة الخلفاء من صميم الدين؟
    إذا كان الخلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأُمّة حسب نظر الشهرستاني إذ قال : « ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان ».
    فيجب على دعاة الوحدة الذين يبذلون سعيهم لتوحيد الصفوف معالجة هذه المسألة من وجهة علمية وفي جو هادئ. فإن حل هذه المسألة ونظائرها يوجب تقارب الخطى ، بل يوحّد الصفوف. فإنّ الوحدة بشكلها السلبي الذي يدعو إلى تناسي الماضي ، والتغافل عنه من أساسه ، وإسدال الستار على كلّ ما فيه من مفارقات ، على ما يتبنّاه بعض دعاتها ، لا تؤثر ولا تحقّق أُمنيّتهم ، وإنّما تحقّق تلك الأمنية لو أثبتت بصورة علمية أنّ جملة كبيرة من صور الخلاف لا تستند على أساس ، وإنّما هي وليدة دعايات خلقتها بعض الظروف وغذّاها قسم من السلطات في عهود خاصة ، ولأجل ذلك نطرح هذه المسألة على طاولة البحث حتى تتقارب الأفكار المتباعدة فإنّ الصراع العلمي والجدال بالحقّ ، مهما كان بصورة علمية ، يكون من أفضل عوامل التقريب ورفع التباعد ، فنقول :
    من راجع الكتب الكلامية لأصحاب الحديث ، وبعدهم الأشاعرة وجد أنّهم يعدّون الإيمان بخلافة الخلفاء الأربع وحتى تفاضلهم حسب زمن إمامتهم من صميم الإيمان ، ولابدّ أن نأتي ببعض النصوص للقدامى منهم :


(294)
    1 ـ قال إمام الحنابلة ( المتوفّى عام 241 هـ ) في كتاب السنّة : خير هذه الأُمّة بعد نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر ، عمر; وخيرهم بعد عمر ، عثمان; وخيرهم بعد عثمان ، علي ، رضوان اللّه عليهم خلفاء راشدون مهديّون. (1)
    2 ـ وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب ـ « بيان السنة والجماعة » : ونثبت الخلافة بعد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب ثمّ لعثمان بن عفان ثمّ لعلي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ). (2)
    3 ـ وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( المتوفّى عام 324 هـ ) عند بيان عقيدة أهل الحديث وأهل السنّة : ويقرّون بأنّهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلّهم بعد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (3)
    وقال أيضاً بعد ما استعرض خلافة الأئمّة الأربعة قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ، ثمّ ملك بعد ذلك ». (4)
    4 ـ وقال عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة : وقالوا بإمامة أبي بكر الصديق بعد النبي خلاف من أثبتها لعلي وحده من
1 ـ كتاب « السنّة » المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد الفقي ، وهذا الكتاب ألّفه لبيان مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة ووصف من خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها ، أو عاب قائلها بأنّه مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحقّ.
2 ـ « شرح العقيدة الطحاوية » للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي : 471 ـ 478.و قد توفّي الطحاوي عام 321 هـ.
3 ـ مقالات الإسلاميين : 323.
4 ـ « الإبانة عن أُصول الديانة » الباب السادس عشر : ص 190 وما ذكره من الحديث رواه أحمد في مسنده : 5/220 ولاحظ العقائد النسفية : 177 ، ولمع الأدلة للإمام الأشعري : 114.


(295)
الرافضة ، وخلاف قول الراوندية الذين أثبتوا إمامة العباس وحده. (1)
    أقول : هذه هي عقيدة هؤلاء الأعلام وغيرهم ممّن كتب في موضوع الإمامة عن أهل السنّة ، ولرفع الستار عن وجه الحقيقة ، نبحث في نواح خاصة لها صلة وثيقة بالموضوع وهذه النواحي عبارة عن :
    1 ـ هل الإمامة والخلافة من أُصول الدين أو من فروعه؟
    2 ـ هل هناك نصّ في القرآن أو السنّة في مسألة الإمامة أو لا؟
    3 ـ مبدأ ظهور هذه العقيدة؟
    4 ـ هل هناك نصّ على أفضلية بعضهم على بعض وفق تسلسل زمانهم؟
    فإذا تبيّن الحال في هذه المواضع يتبيّن الحال في المسألة التي بيّناها آنفاً.

أ. هل الإمامة من الأُصول أو من الفروع؟
    الشيعة الإمامية على بكرة أبيهم اتّفقوا على كون الإمامة أصلاً من أُصول الدين ، و قد برهنوا على ذلك في كتبهم ، ولأجل ذلك يعد الاعتقاد بإمامة الأئمّة من لوازم الإيمان الصحيح عندهم ، وأمّا أهل السنّة فقد صرّحوا في كتبهم الكلامية أنّها ليست من الأُصول ، وإليك بعض نصوصهم :
    1 ـ قال الغزالي ( المتوفّى عام 505 هـ ) : اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فن المعقولات بل من الفقهيات ، ثمّ إنّها مثار للتعصّبات ، والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها ، وإن أصاب فكيف إذا أخطأ؟! ولكن إذ جرى الرسم باختتام المعتقدات بها ، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد ، فإنّ فطام القلوب عن المنهج المخالف للمألوف ، شديد النفار. ولكنّا نوجز القول فيه. (2)
1 ـ الفرق بين الفرق : 350.
2 ـ الاقتصاد في الاعتقاد : 234 ، وفي العبارة صعوبة والظاهر زيادة كلمة « المخالف » وصحيحها « المنهج المألوف ».



(296)
    2 ـ قال الآمدي ( 551 ـ 631 هـ ) : واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ولا من الأُمور اللابديات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها ، والجهل بها بل لعمري ، إنّ المعرض عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها ، فإنّها قلّما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء ، والرجم بالغيب في حقّ الأئمّة والسلف بالإزراء ، وهذا مع كون الخائض فيها سالكاً سبيل التحقيق ، فكيف إذا كان خارجاً عن سواء الطريق. لكن لما جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلّمين والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنّفات الأُصوليّين لم نر من الصواب خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب. (1)
    3 ـ قال السيّد الشريف ( المتوفّى 816 هـ ) في شرح المواقف : المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها وليست من أُصول الديانات والعقائد خلافاً للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين إذ نصب الإمامة عندنا واجب على الأُمّة سمعاً ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا ، إذ قد جرت العادة من المتكلّمين بذكرها في أواخر كتبهم. (2)
    4 ـ قال الرازي : اتّفقت الأُمّة ، إلاّ شذاذاً منهم ، على وجوب الإمامة والقائلون بوجوبها ، منهم من أوجبها عقلاً ، ومنهم من أوجبها سمعاً ، أمّا الموجبون عقلاً ، فمنهم من أوجبها على اللّه تعالى ، ومنهم من أوجبها على الخلق. (3)
    وعلى كلّ تقدير فقد اعتبر أهل السنّة هذا الوجوب حكماً شرعياً فرعياً كسائر الأحكام الفرعية الواردة في الكتاب والسنّة والكتب الفقهية ، وإذا تبيّن هذا المطلب فلنبحث عن الموضوع الثاني.

ب. هل هناك نصّ على الإمامة أم لا؟
    اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ المذاهب الحقّ في باب الإمامة هو القول
1 ـ غاية المرام في علم الكلام : 363.
2 ـ شرح المواقف : 8/344.
3 ـ المحصل للرازي : 406 ، ط ايران.


(297)
بالتنصيص وأنّ النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نصّ في أيام حياته على الخليفة من بعده ، وذلك في موارد ضبطها التاريخ أشهرها قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في يوم الغدير ، أي الثامن عشر من ذي الحجة الحرام في عام حجّة الوداع في منصرفه من مكة عند بلوغه غدير خم رافعاً يد علي ( عليه السَّلام ) في محتشد كبير ، وهو يقول : « ألست أولى بكم من أنفسكم »؟ قال الناس : نعم ، فقال : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». وقد قامت ثلّة كبيرة من علماء الفريقين بضبط طرق هذا الحديث وأسناده ، فأّلفوا في ذلك مختصرات ومفصّلات ، أجمعها وأعمّها كتاب الغدير لآية اللّه الحجّة الأميني ـ رضوان اللّه عليه ـ.
    هذا ما عند الشيعة ، وأمّا عند السنّة ، فالرأي السائد هو عدم التنصيص على أحد والزعم بأنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مات ولم يستخلف.
    فهذا هو إمام الحرمين يقول : وما نص النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على إمامة أحد بعده وتوليته ، إذ لو نص على ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وسائر ولاته ، وكما اشتهر كلّ أمر خطير. (1)
    وقال الأشعري : وممّا يبطل قول من قال بالنصّ على أبي بكر :
    أنّ أبا بكر قال لعمر : « ابسط يدك أُبايعك » يوم السقيفة ، فلو كان رسولاللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نصّ على إمامته لم يجز أن يقول أبسط يدك أُبايعك ». (2)
    وقد عقد ابن كثير الحنبلي في كتابه « البداية والنهاية » باباً مستقلاً في أنّ رسول اللّه لم يستخلف وتبعه السيوطي في « تاريخ الخلفاء ». (3)
    والمسألة ـ أي عدم وجود النصّ على المتقمّصين بالخلافة بعد النبي ـ من
1 ـ لمع الأدلة : 114.
2 ـ اللمع : 136.
3 ـ لاحظ البداية : 5/250; تاريخ الخلفاء : 7 ، ط مصر.


(298)
الوضوح بمكان بحيث لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها ، كيف و هذه قصة السقيفة لم نر أحداً فيها من الذين رشّحوا أنفسهم للخلافة ، كسعد بن عبادة من الأنصار ، وأبي بكر من المهاجرين ، استدلّ على صحّة خلافته بنصّ النبي عليه.
    فهذا هو سعد بن عبادة يقول بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إنّ محمّداً لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ... إلى أن قال : حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ، وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم اللّه الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ... إلى أن قال : وتوفّاه اللّه وهو عنكم راض وبكم قرير عين ، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس.
    هذا منطق مرشّح الأنصار لا ترى فيه تلميحاً إلى وجود النصّ عليه وليس يقصر عنه منطق أبي بكر في هذا الموقف حين قال : فهم ـ أي المهاجرين ـ أوّل من عبد اللّه في الأرض ، و آمن باللّه وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلاّ ظالم ... إلى أن قال : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّمدل بباطل أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة. (1)
    فهذان المنطقان من سعد بن عبادة وأبي بكر يعربان عن عدم وجود النصّ على واحد منهما ، وأمّاالخليفتان الآخران فحدث عنهما ولا حرج ، فقد رقى عمر بن الخطاب منصّة الخلافة بأمر من أبي بكر عندما دعا عثمان بن عفان في حال مرضه فقال له : اكتب : بسم اللّه الرّحمن الرحيم ... هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين : أمّا بعد ، ثمّ أُغمي عليه ، فكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم يكن خيراً منه ، ثمّ أفاق وقال : اقرأ عليَّ ، فقرأ عليه
1 ـ تاريخ الطبري : 2/456 ، حوادث السنّة 11.

(299)
فكبّر أبو بكر ... إلى أن قال لعثمان : جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله ، وأمّره أبو بكر من هذا الموضع. (1)
    وأمّا عثمان فقد انتخب عن طريق الشورى التي عيّن أعضاءها عمر بن الخطاب عندما طعنه أبو لؤلؤة ـ غلام المغيرة بن شعبة ـ و كان أعضاء الشورى ستة أشخاص وهم : علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبد اللّه ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام. (2)
    وقد ذكر التاريخ كيفية استلام عثمان للخلافة ، فهذا هو التاريخ المسلّم به ، يعرب بوضوح عن عدم وجود نصّ على واحد من الخلفاء الثلاث جميعاً ، وإلاّ لم يحتج إلى تعيين أوّل الخلفاء لثانيهم وإلى تعيين الشورى وانتخاب الخليفة عن طريقها.
    وقد قام المحدّثون القدامى منهم والمتأخّرون ، بجمع ما ورد من الأحاديث حول الخلافة والإمارة ، منهم الإمام أبو السعادات الجزري في كتابه « جامع الأُصول من أحاديث الرسول » فقد جمعها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، ومنهم العلاّمة علاء الدين علي المتقي الهندي ( المتوفّى 975 هـ ) فقد جمعها في كتابه « كنز العمال » الجزء الخامس ، ولا يوجد فيه نصّ صريح على واحد من الخلفاء الثلاث.
    نعم في المقام روايات تشير إلى أنّ الخلافة من حقّ قريش ، و هي أحاديث مشهورة موجودة في الكتاب الآنف ذكره.
    إذا وقفت على هذين الأمرين ، تقف على أنّ ما ادّعيناه من عدم كون الاعتقاد بخلافة الخلفاء من صميم الدين نتيجة ذينك الأمرين ، وذلك لأنّه إذا كان أصل الإمامة والخلافة من الفروع لا من الأُصول ، من جانب ، وثبت حسب نصوص القوم أنّ النبي لم ينص على خلافة واحد منهم من جانب آخر ، غاية ما في الباب أنّ الأُمّة في صدر الإسلام قاموا بواجبهم الشرعي أو العقلي حيث كان
1 ـ الإمامة والسياسة : 18 وص 25 ، ط مصر; الشرح الحديدي : 1/165.
2 ـ تاريخ الطبري : 3/293.


(300)
نصب الإمام واجباً بأحد الوجهين ، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال : إنّ خلافة هؤلاء كانت أمراً صحيحاً غير مخالف للأُصول والقواعد ، ولكن يجب أن يعلم أنّه ليس كلّ قضية صحيحة جزءاً من الدين; وعلى فرض كونها من الدين ، فليس كلّ ما هو من الدين يجب أن يعد من العقائد; وعلى فرض كونها من العقائد ، فليس كلّ ما هو يعد من العقائد مائزاً بين الإيمان والكفر أو بين السنّة والبدعة. وهذه مراحل ثلاث يجب أن يركز عليها النظر فنقول :
    إنّ غاية جهد الباحث حسب أُصول أهل السنّة هي إثبات كون خلافتهم أمراً صحيحاً ، لأنّ نصب الإمام واجب على الأُمّة عقلاً أو شرعاً ، فلأجل ذلك قاموا بواجبهم فنصبوا هذا وذاك للإمامة ، ونتيجة ذلك أنّ عملهم كان أمراً مشروعاً ولكن ليس كلّ أمر مشروع يعد جزءاً من الدين.
    فلو قام القاضي بفصل الخصومة بين المترافعين في ضوء الكتاب والسنّة فحكم بأنّ هذا المال لزيد دون عمرو وكان قضاؤه صحيحاً لا يعد خصوص هذا القضاء ( لا أصل القضاء بالصورة الكلية ) من الدين ، إذ ليس كلّ أمر صحيح جزءاً من الدين ، ولا يصحّ أن يقال إنّه يجب أن نعتقد أنّ هذا المال لزيد دون عمرو ، ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا إنّه من الدين ، ولكن ليس كلّ ما هو من الدين يعد من العقائد فكون الماء طاهراً ومطهّراً حكم شرعي ، ولكن ليس من العقائد ، فأيّ فرق بينه و بين خلافة الخلفاء مع اشتراك الجميع في كونه حكماً فرعياً لا أصلاً من الأُصول.
    ولو تنزّلنا مرّة ثانية وقلنا إنّه من العقائد ، ولكن ليس كلّ ما يجب الاعتقاد به مائزاً بين الإيمان والكفر ، أو بين السنّة والبدعة ، إذ للمسائل العقائدية درجات ومراتب ، فالشهادة بتوحيده سبحانه ونبوة نبيّه وإحياء الناس يوم الدين ، تعد مائزاً بين الكفر والإيمان ، وليس كذلك الاعتقاد بعذاب القبر ، أو سؤال منكر ونكير ، أو كون مرتكب الكبيرة مؤمناً.
    و على هذا الأساس يجب على إخواننا أهل السنّة تجديد النظر في هذا الأصل الذي ذهبوا إليه ، وهو جعلهم الاعتقاد بخلافة الخلفاء المشار إليهم ، آية السنّة ، ومخالفته آية البدعة.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس