بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 321 ـ 330
(321)
للوعظ والتذكير في المدرسة النظامية المعمورة والرباط ، وأطنب في توحيد االلّه عزّوجلّ والثناء عليه بما يستوجبه من صفات الكمال وتنزيهه عن النقائص و نفي التشبيه عنه واستوفى في الاعتقاد ما هو معتقد أهل السنّة بأوضح الحجج وأقوى البراهين ، فوقع في النفوس كلامه ، ومال إليه الخلق الكثير من العامة ، ورجع جماعة كثيرة من اعتقاد التجسيم والتشبيه واعترفت بأنّها الآن بان لها الحقّ ، فحسده المبتدعة المجسمة وغيرهم فحملهم ذلك على بسط اللسان فيه غيظاً منه و سبّ الشافعي رحمة اللّه عليه وأئمّة أصحابه ومن ينصرهم ، وتظاهروا من ذلك بما لا يمكن الصبر معه ، ويتعيّن على من جعل اللّه إليه أمر الرعية أن يتقدّم في ذلك بما يحسم مادة الفساد ، لأنّ سبب ذلك فرط غيظهم من اجتماع شمل العصابة الشافعية في الاشتغال بالعلم بعمارة المدرسة الميمونة ، وتوفّرهم على الدعاء لأيّام من به عزّهم ولا عذر للتفريط في ذلك. وكتب محمد بن أحمد الشاشي.
    5 ـ الأمر على ما ذكر فيه. وكتب سعد اللّه بن محمد الخاطب.
    6 ـ الأمر على المشروح في هذا الصدر من حال الشيخ الإمام الأوحد أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري أكثر اللّه في أئمّة أهل العلم مثله من عقد المجالس ونشر العلم ووصف اللّه تعالى بما وصف به نفسه من توحيده وصفاته ونفي التشبيه عنه وقمع أهل البدع من المجسمة والقدرية وغيرهم ، ولم أسمع منه عدولاً عن مذاهب أهل الحقّ والسنّة والدين القويم والمنهج المستقيم الذي به يدان اللّه تعالى و يعبد ويعتقد ، فاهتدى بهديه خلق من المخالفين وصار إلى قوله ومعتقده جمع كثير إلاّ من شقي به من الحاسدين ، فأخلدوا إلى ذمّه وسبه وسب أئمّة الشافعيين ، وقدحوا في الشافعي وأصحابه ، وصرّحوا بالطعن فيهم في الأسواق وعلى رؤوس الأشهاد ، وهذه غمّة و ردّة لا يرجى لكشفها بعد اللّه تعالى إلاّ المجلس السامي الأجلي النظامي القوامي العادلي الرضوي ، أمتع اللّه الدنيا والدين ببقائه وحرس على الإسلام والمسلمين ظليل ظله ونعمائه ، ويفعل اللّه ذلك بقدرته وطوله ومشيئته. وكتب الحسين بن أحمد البغدادي.
    7 ـ حضرت المدرسة النظامية المنصورة المعمورة أدام اللّه سلطان إعزازها والرباط المقدس للصوفية أجاب اللّه صالح أدعيتهم في المسلمين مجالس هذا


(322)
الشيخ الأجل الإمام ناصر الدين محيي الإسلام أبي نصر عبد الرحيم بن الأُستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري أحسن اللّه عن الشريعة جزاءه ، فلم أسمع منه قط إلاّ ما يجب على كلّ مكلّف علمه وتصحيح العقيدة به من علم الأُصول وتنزيه الحقّ سبحانه وتعالى ونفي التشبيه عنه ، وإقماع الأباطيل والأضاليل وإظهار الحقّ والصدق ، حتى أسلم على يديه ببركة التوحيد والتنزيه من أنواع أهل الذمّة عشرات ، ورجع إلى الحقّ وعلم الصدق من المبتدعة مئات ، وتبعه خلق غير محصور بحيث لم يستطع أحد ممّن تقدّم أو علماء العصر أن يشقّوا غباره في مثل ذلك فخامرهم الحسد وعداوة الجهل وحملهم على الطعن فيه عدواناً وبهتاناً ، ثمّ تمادى بهم الجهل إلى اللعن الظاهر للإمام الشافعي ـ قدس اللّه روح هـ وسائر أصحابه عجماً وعرباً.
    وقائلوا ذلك شرذمة من ناشية أغبياء المجسمة ، وطائفة من أرذال الحشوية ، استغنوا من الإسلام بالاسم ، ومن العلم بالرسم ، وتبعهم سوقة لا نسب لهم ولا حسب ، وتظاهرت هذه اللعنة منهم في الأسواق ، ولم يستحسن أحد من أصحابه ـ كثرهم اللّ هـ دفع السفاهة بالسفاهة والسيئة بالسيّئة ، ويجب على الناظر في أُمور المسلمين من الذي قد انتشر في المشارق والمغارب علمه وعدله وأمره ونهيه ، الذي لطاعته نبأت صدور الأولياء والأعداء رغبة ورهبة ، نصرته ، ومدّ ضبعيه والشد على يديه وتقديم كلمته العليا وتدحيض كلمة أعدائه السفلى ، فالصبر في الصدمة الأُولى وهذه الصدمة التي كانت قلوب أصحاب الشافعي كثّرهم اللّه وغرة وغلة شغله بها منذ سنين ، فانقشع ذلك وانكشف في هذه الأيام المؤيدة المنصورة المؤبدة النظامية القوامية العالمية العادلية نصرها اللّه وأعلاها ، وقد وقف تمامه على الأمر الماضي المنصور منه فإنّ في شعبة من شعب عنايته ونصرته وكلمته للدين الذي مد أطراره كفاية وبلاغاً وعلى الغارس تعهد غراسه فضلاً وتعصباً في كلّ وقت. وكتب عزيزي بن عبد الملك في التاريخ حامداً للّه ومصلياً على محمّد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصحبه وسلم وشرف وكرم. (1)
1 ـ تبيين كذب المفتري : 310 ـ 318.

(323)
    وأصحاب الخطوط في هذا المحضر هم كبار أئمّة المذهب الشافعي ببغداد في ذلك العهد ، فقد ترجمهم محقّق كتاب « تبيين كذب المفترى » في تعليقته على الكتاب ، ثمّ أضاف :
    ولما طفح كيل فتن الحشوية الذين لا يكادون يفقهون حديثاً ، اضطر أكابر العلماء المعروفون بكمال الهدوء والتؤدة والأناة إلى قمع فتنتهم بالسعي لدى ولي الأمر سعياً حثيثاً ، ورفع الإمام أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه هذا المحضر إلى نظام الملك منتصرين للشيخ أبي نصر ابن القشيري ، فعاد جواب نظام الملك إلى فخر الدولة و إلى الإمام أبي إسحاق بإنكار ما وقع ، والتشديد على خصوم ابن القشيري وذلك سنة تسع وستين وأربعمائة ، فسكن الحال ثمّ أخذ الشريف أبو جعفر بن أبي موسى ـ و هو شيخ الحنابلة إذ ذاك ـ و جماعته يتكلّمون في الشيخ أبي إسحاق ويبلغونه الأذى بألسنتهم ، فأمر الخليفة بجمعهم والصلح بينهم بعد ما ثارت بينهم فتنة هائلة ذهب فيها نحو من عشرين قتيلاً ، فلمّا وقع الصلح وسكن الأمر أخذ الحنابلة يشيعون أنّ الشيخ أبا إسحاق تبرأ من مذهب الأشعري ، فغضب الشيخ لذلك غضباً لم يصل أحد إلى تسكينه حتى كتب إلى نظام الملك يشكو أهل الفتن ، فعاد الجواب في سنة سبعين وأربعمائة إلى الشيخ باستجلاب خاطره وتعظيمه ، والأمر بتأديب الذين أثاروا الفتنة وبأن يسجن الشريف أبو جعفر ، فهدأ الحال وسكن جأش الشيخ وانقمعت الحشوية ، وتنفّس أهل السنّة الصعداء وإلى اللّه عاقبة الأُمور.

الثالث : تطور الدعوة السلفية ومراحلها
    قد تعرّفت في البحوث السابقة على أنّه كان لمنع تدوين الحديث في العصور الأُولى الإسلامية تأثير خاص في تسرب عقائد اليهود والنصارى إلى أوساط المسلمين ولا سيما أهل الحديث منهم. ففي ظل ذلك المنع ، ظهرت الفرق الباطلة من المجسّمة والمشبّهة ودعاة القول بالجهة للّه سبحانه وجلوسه على العرش ناظراً إلى ما دونه ممّا يتحاشى عنه أهل التنزيه.
    ولم يكن ظهور تلك العقائد أمراً غير مترقب ، بل كان نتيجة حتمية للعوامل السائدة على تلك البيئة ، إذ في الظروف التي يصلب فيها العقل


(324)
ويعدم ، ويعاب فيها التفكير في العقائد والمعارف ، ويكتفى عن التدبر في الذكر الحكيم ، بالبحث عن القراءات السبع أو العشر ، ويعرف الاستدلال والإمعان في الكتاب العزيز بأنّه تأويل باطل ، بل كفر و زندقة ، ويفسح المجال للمتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان ليقوموا بنشر قصص الأوّلين وأساطير الآخرين ـ ففي تلك الظروف ـ لا تظهر على مسرح العقائد ، إلاّ عقائد الطوائف المنحرفة ، ولا غرو حينئذ في أن يصوّر إله العالم بصورة موجود مادي ذي جهات وأبعاض وأيد وأرجل ، له تكلم وضحك وما يضاهي هذه النظريات.
    وقد جاء بعض الخلف محاولاً تصحيح هذه المأثورات ، بإضافة « بلا كيف » عقيب هذه الصفات ، ولكن المحاولة فاشلة جدّاً ، فإنّ مرجعها إلى أنّه سبحانه جسم بلا كيف ، ولا يختلف التعبيران إلاّ في الصراحة والكناية.
    ومن العقائد الغريبة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني ، كون كلامه سبحانه قديماً غير مخلوق ، وقد تلقّاه أهل الحديث أمراً مسلماً ، وكان اللائق بمنهجهم هو السكوت ، لاعترافهم بعدم ورود نصّ من رسول اللّه فيها ، ولكنّهم اعتنقوا هذه العقيدة اعتناقاً وثيقاً لم ير مثله في سائر المسائل ، حتّى استعدوا في طريقه لتقديم التضحيات الثمينة ، من شتى أنواع الضرب والحبس والتقيد ، وذلك عندما عزم المأمون على ردعهم عن القول بقدم القرآن ، فاستتاب أهل الحديث منه ، فاستجاب بعضهم دون بعض وممّن أظهر الصمود والثبات على تلك العقيدة إمام الحنابلة أحمد بن حنبل. وقد ضرب في عصر الخليفة المعتصم فلم يرتدع ، فصار ذلك سبباً لاشتهار الرجل بينهم ، وبلوغه قمة الإمامة في العقائد والسنّة ، واكتسابه مكانة مرموقة بين الناس. فصارت السنّة ما أمضاه الإمام والبدعة ما هجره ، فراجت رسائله وكتبه التي ألّفت باسم عقيدة أهل السنّة ، وكانت الرئاسة في باب العقائد منحصرة به إلى أن ظهر الإمام الأشعري تائباً عن الاعتزال ، معلناً التحاقه في العقائد بالإمام أحمد ، و عدّ نفسه مدافعاً عن عقائد أهل السنّة تارة بالنصوص والأحاديث ، وأُخرى بالاستدلال والبرهنة : فألّف في بداية الالتحاق كتاب « الإبانة » وهو تصوير خاص لرسائل إمام مذهبه ، كما ألّف في الفترة الأُخرى كتاب « اللمع » وهو


(325)
تصوير لما يملكه من الفكر الذي ورثه عن المعتزلة حينما كان منتهجاً مناهجهم.
    وبما أنّ الإمام الأشعري قد قضى شطراً كبيراً من عمره بين أهل الفكر والتعقّل ، فلذا أخذ بالتعديل والتهذيب في عقائد المذهب الأُم ـ أهل الحديث ـ وما قام به من العملية العقلية وإن أغضبت ثلة من الحنابلة وأهل الحديث ، حتى إنّ كبير الحنابلة ( البربهاري ) في ذلك الوقت لم يقبل دفاع الشيخ الأشعري عن عقائد أهل السنّة بالبرهنة والاستدلال ، ولكن النفوس المستعدة المتنورة تأثّرت بمنهج الإمام الأشعري ، وزاد الإقبال عليه وتوفر الثناء على فكرته.
    وعلى ضوء منهجه ألّف الإمام البيهقي (1) صاحب السنن الكبرى كتاب « الأسماء والصفات » وعالج فيه كثيراً من روايات التشبيه والتجسيم ، كما قام ابن فورك (2) بتأليف كتاب « مشكل الحديث وبيانه » ، كلّ ذلك على الخط الذي رسمه الأشعري في تنزيهه سبحانه.
1 ـ هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ( المتوفّي عام 458 هـ ) وطبع كتاب « الأسماء والصفات » في مصر بتصحيح الشيخ محمد زاهد الكوثري. ومن المأسوف عليه أنّ يد الخيانة أسقطت مقدمة الأُستاذ الشيخ سلامة العزامي الشافعي عند إعادة الطبع بالأفست ، وما هذا إلاّ لأنّ المقدمة كانت على ضد السلفية والوهابية.
2 ـ هو أبو بكر محمد بن حسن بن فورك ( المتوفّى عام 406 هـ ) له ترجمة في تبيين ابن عساكر : 232 ـ 233.
يقول المقريزي في خططه ( ج 2 ، ص 358 ) في بيان حقيقة المذهب الأشعري : إنّه سلك طريقاً بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال ( نفي الصفات الخبرية كاليد والوجه ) ، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه ، منهم : القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي ، و أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفرائيني ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ، والشيخ أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي وغيرهم ممن يطول ذكره ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلّوا له في مصنّفات لا تكاد تحصر ، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام ، إلى آخر ما ذكره.


(326)
إبعاد أحمد عن الإمامة في العقائد
    قد كان لانتشار مذهب الأشعري تأثير خاص في إبعاد الإمام أحمد عن ساحة العقائد ، وأُفول إمامته في الأُصول ، وانزوائه في كثير من البلدان وإقامة الأشعري مقامه. فصار الفرع الذي اشتق من الأصل المذهب الرسمي لأهل السنّة. وبلغت إمامة الفرع إلى الحدّ الذي كلّما أطلق مذهب أهل السنّة لا يتبادر منه إلاّ ذلك المذهب أو ما يشابهه كالماتريدية.
    يقول المقريزي بعد الإشارة إلى أُصول عقيدة الإمام الأشعري : هذه جملة من أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أريق دمه. (1)
    نعم ، بلغ الإمام الأشعري قمة الإمامة في العقائد من دون أن يمس إمامة أحمد في الفروع ومرجعيته في الفتيا ، كيف وهو أحد المذاهب الأربعة الرسمية بين أهل السنّة إلى الآن في العواصم الإسلامية ، لكن لا في نطاق واسع بل في درجة محدودة تتلو إمامة أبي حنيفة والشافعي ومالك.

تجديد الدعوة السلفية في القرن الثامن
    لقد اهتم بعض الحنابلة ـ أعني : أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي ( المتوفّى عام 728 هـ ) ـ بإحياء مذهب السلفية على المفهوم الذي كان رائجاً في عصر الإمام أحمد وقبله وبعده إلى ظهور الأشعري ، فأصرّ على إبقاء أحاديث التشبيه والجهة بحالها من دون توجيه وتصرف ، وهاجم التأويلات التي ذكرها بعض الأشاعرة في كتبهم حول تلك الأحاديث. ولكنّه لم يكتف بمجرّد الإحياء ، بل أدخل في عقائد السلف أُموراً لا ترى منها أثراً في كتبهم ، فعد السفر لزيارة الرسول الأعظم بدعة وشركاً ، كما عدّ التبرّك ب آثارهم والتوسّل بهم شيئاً يضاد التوحيد في العبادة. وقد ضم إلى ذينك الأمرين شيئاً ثالثاً وهو إنكار كثير من الفضائل الواردة في آل البيت ، المروية في الصحاح و المسانيد حتى في مسند
1 ـ الخطط المقريزية : 2/390.

(327)
إمامه أحمد. وبذلك جدد الفكرة السلفية الخاصة المتبلورة في الفكرة العثمانية التي تعتمد على التنقيص من شأن علي وإشاعة بغضه وعناده.
    وبذلك نقض قواعد ما أرساه إمامه أحمد من مسألة التربيع وجعل علي ( عليه السَّلام ) رابع الخلفاء الراشدين ، وأنّ عليّاً كان أولى وأحقّ من خصومه.
    ومن حسن الحظ إنّه لم يتأثر بدعوته إلاّ القليل من تلامذته كابن القيم ( المتوفّى عام 751 هـ ) كيف وقد عصفت الرياح المدمرة على هذه البراعم التي أظهرها ، حيث قابل منهجه المحقّقون بالطعن والردّ الشديدين ، فأفرد بعضهم في الوقيعة به ت آليف حافلة ، وجاء البعض الآخر يزيف آراءه و معتقداته في طي كتبه ، وقام ثالث يترجمه ويعرفه للملأ ببدعه وضلالاته.
    وكفى في ذلك ما كتبه بعض معاصريه كالذهبي ، فإنّه كتب رسالة مبسوطة إليه ينصحه ويعرفه بأنّه ممّن يرى القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينيه ، وأنّه لم تسلم أحاديث الصحيحين من جانبه ثمّ خاطبه بقوله : أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟. (1)
    وهناك كلام للمقريزي يقول بعد الإشارة إلى اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام : إنّه نسي غيره من المذاهب وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه. إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ابن حنبل ـ رضي اللّه عن هـ فإنّهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات ، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة ، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ، وتصدّى للانتصار لمذهب السلف ، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة ، وصدع بالنكيرة عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية ، فافترق الناس فيه فريقان فريق يقتدي به
1 ـ تكملة السيف الصقيل : 190 ، ونقل قسماً من هذه الرسالة العزامي في الفرقان الذي طبع في مقدّمة الأسماء والصفات للبيهقي ونقله العلاّمة الأميني في غديره : 5/87 ـ 89.

(328)
ويعول على أقواله ويعمل برأيه ويرى أنّه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملّة الإسلامية ، وفريق يبدعه ويضلّله ويزري عليه بإثباته الصفات وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف ومنها ما زعموا أنّه خرق فيه الإجماع ولم يكن له فيه سلف ، وكانت له ولهم خطوب كثيرة وحسابه وحسابهم على اللّه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام وقليل بمصر. (1)

الدعوة السلفية في القرن الثاني عشر
    لم يتعظ الرجل من قوة ناصحه المشفق حتى أدركته المنية في سجن دمشق ، ولكن كانت بذرة الضلال مدفونة في الكتب وزوايا المكتبات إلى أن ألقى الشر بجرانه ، وجاء الدهر بمحمّد بن عبد الوهاب النجدي في القرن الثاني عشر ( 1115 ـ 1206 هـ ) فحذا حذو ابن تيمية ، وأخذ وتيرته واتبع طريقته ، فأحيا ما دثره الدهر ، ودعا إلى السلفية من جديد ، غير أنّه اتّخذ ما أضافه ابن تيمية إلى عقائد السلف ممّا لا يرتبط بمسألة التوحيد والشرك ، كالسفر إلى زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والتبرك ب آثاره ، والتوسل به ، وبناء القبة على قبره ، قاعدة أساسية لدعوته ، ولم يهتم في ت آليفه بمسألة التشبيه وإثبات الجهة والفوق.
    نعم ، لمّا استفحلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد وقام أُمراء المنطقة ( آل سعود ) بترويج منهجه واستغلوه للسيطرة على الجزيرة العربية ، اهتمت الوهابية بنشر ما ألّفه السلف حول البدع السابقة الموروثة من اليهود والنصارى ، فصار إثبات الصفات الخبرية كاليد والوجه والاستواء بمفهومها اللغوي مذهباً رسمياً لدعاة الوهابية ، لا يجترئ عالم على مخالفته في أوساطهم. (2)
1 ـ الخطط المقريزية : 2/358 ـ 359.
2 ـ وقد ألّف رضا بن نعسان معطي في مكة المكرمة كتاباً حول الصفات الخبرية سماه « علاقة الإثبات والتفويض بصفات ربّ العالمين » وقدم عليه عبد العزيز بن باز رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وأصر فيه على أنّ عقيدة السلف في هذه الصفات إبقاؤها على مفاهيمها اللغوية بلا تغيير وتصرف. وغير خفي على النبيه أنّه لا ينتج إلاّ التجسيم وإن كان الكاتب والمقرظ لا يعترفان به ، ولكنّه لا ينفك عن تلك النتيجة.


(329)
    وبذلك وردت الدعوة السلفية في مراحلها التاريخية المرحلة الثالثة بعد الاندراس و لمّا تمّت معاملة الدول الكبرى على الخلافة العثمانية المسيطرة على أكثر ربوع الإسلام ـ يوم ذاك ـ و أُقصيت من ساحة البلاد العربية ، حلّت سيطرة آل سعود المتبنين للعقيدة الوهابية من لدن ميلادها ، محلها في أرض الحجاز عموماً ، والحرمين الشريفين خصوصاً. ومن جراء ذلك أخذت الدعوة الوهابية تنتشر في الأراضي المقدسة بالطابع السلفي ، فصارت السلفية والوهابية وجهين لعملة واحدة ، وقد استعانت السلطة السعودية بكلّ ما تملك من قوّة وقدرة إرهابية ، ودراهم ودنانير ترغيبية ، لنشر المنهج الوهابي ، ولكلّ من ذينك الأمرين أهله ومحله. فاستعملت الأوّل في الأُميّين والرعاع من الناس ، واشترت بالثاني أصحاب القلم وأرباب الجرائد والمجلات وسائر وسائل الإعلام. فصارت السلفية في هذه الأماكن رمز الإسلام الأصيل ، وآية الدين الصحيح ، المجرّد عن البدع اللصيقة به بعد لحوق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالرفيق الأعلى.
    وقد استعانت هذه السلطة في تسريع الحركة الوهابية في هذا الزمان بما ظهر في المناطق الشرقية من الجزيرة من الذهب الأسود ، فاستولت على زبرج الدنيا وزينتها وتمادت في غيّها وساقت كثيراً من الناس إلى معاسيف السبل ومعاميها ، حتّى تأثر بتلك الحركة بعض الشبان وغيرهم خارج الجزيرة العربية.
    إنّ الدعايات الخادعة ، أثرت في تفكير كثير من الناس إلى حدّ تخيل لهم أنّ تجديد مجد الإسلام وبلوغ المسلمين إلى ذروة السنام لا يتم إلاّ بإحياء ما كان عليه السلف في الأُصول والفروع ، ويريدون منه عهود الخلافة الراشدة والأمويين والعباسيين ، فكأنّ حياتهم في تلك العصور كانت باقات زهور تفتحت في تلك القرون ، فعم ريحها وريحانها أجواء الأقطار الإسلامية ،


(330)
فلأجل ذلك يتطلّعون إلى تلك العهود تطلع الصائم إلى الهلال ، والظامئ إلى الماء.
    لكن الدعايات الخاطئة عاقتهم عن التعرف على ما في تلك العصور من النقاش والخلاف بين المسلمين وسفك الدماء وقتل الأولياء وحكومة الإرهاب والإرعاب ، إلى غير ذلك من المصائب والطامات الكبرى.
    ولو درسوا تاريخ السلف ـ منذ فارق النبي الأعظم المسلمين وتسنم الأمويون منصة الخلافة إلى أن انتكث فتلهم ، وأجهز عليهم عملهم ، وورثهم العباسيون ولم يكونوا في العمل والسيرة بأحسن حال منهم ـ لوقفوا على أنّ حياة السلف لم تكن حياة مثالية راقية ، بل كانت تسودها المجازر الطاحنة الدامية ، والجنايات الفظيعة التي ارتكبتها الطغمة الأموية والعباسية في حقّ الأبرياء الأولياء والعلويين من العترة الطاهرة. فلو صحّ ما في التواريخ المتواترة ، لدلّ قبل كلّ شيء على أنّ السلف لم يكن بأفضل من الخلف ، وأنّ الخلف لم يكن بأسوأ من السلف ، ففي كلتا الفئتين رجال صالحون مثاليون كما فيهما رجال دجّالون وأُناس طالحون.

المفكّرون الإسلاميون المعاصرون والسلفية
    ومن المؤسف أنّ السلفية اتخذت لنفسها في الآونة الأخيرة طابعاً حاداً وسلوكاً في غاية الجمود و التحجّر ، وفي منتهى التقشف والتزمت حتى ذهب من ينحو هذا المنحى إلى تحريم كلّ ما يتصل بالحضارة ومعطياتها المباحة شرعاً ، فإذا بهم يحرمون حتى التصوير الفوتوغرافي ويهاجمون الراديو و التلفزيون (1) عتواً وجهلاً.
    وقد كان هذا الموقف الجامد المتحجّر ، وهذا التزمت والجفاف الذي ما أنزل اللّه به من سلطان ، والذي أسند ـ و للأسف ـ إلى الإسلام ، وما رافقه من قوة على الآخرين ورميهم بالبدعة ، والخروج على الدين بحجة عدم
1 ـ راجع مجلة الفرقان العدد الخامس من السنّة الأُولى وتصدرها جماعة من السلفيّين المتشدّدين.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس