بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 331 ـ 340
(331)
الانقياد لمواقف السلف ، وآرائهم ، وراء ابتعاد جماعات كبيرة من الشباب من أبناء المسلمين عن الإسلام السهل الحنيف ، وإساءة الظن به وبمؤسساته. وهذا هو ما حدا ببعض الغيارى والمتحررين من المفكّرين الإسلاميين إلى التصدّي لهذا الاتجاه الدخيل على الإسلام البعيد عن روحه النقية السمحة.
    وممن انبرى لإبطال هذا المذهب وإزالة الغبار عن وجه الحقيقة الأُستاذ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه « السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ».
    حيث عمد أوّلاً إلى تفنيد زعم السلفيين المعاصرين بأنّ على المسلم أن يجمد على ما ورد عن السلف وعلى منهجهم وكأنّه مذهب إسلامي مقدس لا يجوز أن تناله يد الجرح والتعديل ، ولا أن يخضع للنقاش والنقد ، بل لا يجوز أن يتخطى في مقام العمل والسلوك.
    حيث قال : إنّ اتّباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئية التي اتخذوها ، لأنّهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك. (1)
    ثمّ قال : إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة ( السلف ) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ألا وهو ( السلفية ) فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معينة من المسلمين تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده ، مفهوماً معيناً ، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك ، جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر ، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولها ، بل تختلف عنهم حتّى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقيّة كما هو الواقع اليوم فعلاً.
    بل إنّنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا : إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذا الأُمّة ، ولا الخلف الملتزم بنهجه. (2)
1 ـ السلفية مرحلة زمنية : 12.
2 ـ المصدر نفسه : 13.


(332)
    ويقول : إنّ السلف أنفسهم لم يكونوا ينظرون إلى ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال أو تصرفات ، هذه النظرة القدسية الجامدة التي تقتضيهم أن يسمِّروها بمسامير البقاء والخلود ، بل ساروا وراء ذلك مع ما تقتضيه علل الأحكام وسنة التطور في الحياة ، وعوامل التقدم العلمي ، ومنطق التجاوز المستمر من الصالح إلى الأصلح كما سايروا الأعراف المتطورة من عصر إلى آخر ، أو المتبدلة ما بين بلدة وأُخرى ما دام ذلك كلّه منتشراً وراء أسوار النصوص الحاكمة والمهيمنة. (1)
    ثمّ أشار إلى نماذج من مواقف السلف التي تطورت مع تطور الأحوال والأوضاع في شتى مجالات العلم والسلوك.
    ثمّ قال : إنّ السلف أنفسهم لم يجمدوا عند حرفية أقوال صدرت منهم ، كما لم يتشبّثوا بصور أعمال أو عادات ثبتوا عندها ثمّ لم يتحولوا عنها ، بل الذي رأيناه في هذه النماذج اليسيرة هو نقيض ذلك تماماً ، فكيف نقلّدهم في شيء لم يفعلوه ، بل ساروا في طريق معاكس له ... ؟ (2)
    ثمّ ينتهي إلى القول : إنّ كلّ ما ذكرنا هنا تلخيص إجمالي للبرهان على أنّ السلفية لا تعني على كلّ حال إلاّ مرحلة زمنية مرت ... فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها ، يتمسّك به من شاء ، ليصبح بذلك منتسباً إليها منضوياً تحت لوائها ، فتلك إذن إحدى البدع المستحدثة بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (3)
    ثمّ لإبطال حجّية مواقف السلف على من بعدهم ما لم يستند إلى برهان يشير إلى نماذج من خلافاتهم واختلافاتهم في المواقف والآراء (4) ثمّ يقول : فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجّة لذاتها ، لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها ، لأنّها هي برهان نفسها ، إذن لوجب أن تكون تلك
1 ـ نفس المصدر : 14 ـ 15.
2 ـ نفس المصدر : 18.
3 ـ نفس المصدر : 23.
4 ـ نفس المصدر : 23.


(333)
النظرات المتباعدة بل المتناقضة كلّها حقّاً وصواباً ، ولوجب المصير دون أي تردد إلى رأي المصوبة.
    وعن إمكانية طروء الخطأ على مواقف السلف يقول : إنّ اقتداءنا بالسلف لا يجوز أن يكون بواقعهم الذي عاشوه من حيث إنّهم أشخاص من البشر يجوز عليهم كلّ أنواع الخطأ والسهو والنسيان ، فإنّهم من هذا الجانب بشر مثلنا لا يمتازون عن سائر المسلمين بشيء. (1)
    من هنا يرى أنّ على الأُمّة إذا أرادت أن تصل إلى الحقيقة الإسلامية في مجال العقيدة والسلوك أن تتبع منهجاً في هذا المجال لا أن تكتفي بمجرّد اتباع السلف بشكل مطلق ، فيقول في هذا الصدد :
    إنّ الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً لابدّ أن يجتاز المراحل الثلاث التالية :
    أ. التأكّد من صحّة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً ، بحيث ينتهي إلى يقين بأنّها موصولة النسب إليه ، وليست متقوّلة عليه.
    ب. الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعينه تلك النصوص بحيث يطمئن إلى ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها.
    ج. عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها ، على موازين المنطق والعقل ( ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً ) لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها. (2)
    وعندما شرح البند الأوّل والعلّة الموجبة له يشير إلى ما تعرض له الحديث النبوي على يد الوضّاعين والزنادقة ، ويشير إلى أقسام الحديث من متواتر وصحيح وضعيف ، ممّا يجعلنا نتحفظ تجاه النصوص ، ولا نقدم على الأخذ بها
1 ـ السلفية مرحلة زمنية : 55 ـ 56.
2 ـ نفس المصدر : 63.


(334)
لمجرّد رواية السلف لها أو روايتها عن السلف ، بل نأخذ بها بعد التمحيص والتحقيق حسب الميزان المذكور.
    فيقول : فمن التزم بمقتضى هذا الميزان فهو متبع كتاب اللّه متقيد بسنة رسول اللّه ، سواء أكان يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم ، ومن لم يلتزم بمقتضاه فهو متنكب عن كتاب اللّه ، تائه عن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإن كان من الرعيل الأوّل ، ولم يكن يفارق مجلس رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (1)
    وبعد أن يسهب في شرح تفاصيل هذا المنهج يقول : ولم نعلم أنّ في أهل هذه القرون الغابرة كلّها من قد استبدل بهذا المنهج الذي كان ولا يزال فيصل ما بين أهل الهداية والضلال ، التمذهب بمذهب يسمّى السلفية بحيث يكون الانتماء إليه هو عنوان الدخول في ساحة أهل الهداية والرشاد. وعدم الانتماء إليه هو عنوان الجنوح إلى الزيغ والضلالة والابتداع.
    ولقد أصغينا طويلاً ونقبنا كثيراً فلم نسمع بهذا المذهب في أيّ عصر من عصور الإسلام الغابرة ، ولم يأت من يحدثنا بأنّ المسلمين في عصر ما قد انقسموا إلى فئة تسمّي نفسها السلفية وتحدد شخصيتها المذهبية هذه ب آراء محددة تنادي بها ، وأخلاقية معينة تصطبغ بها ، وإلى فئة أُخرى تسمى من وجهة نظر الأُولى بدعية أو ضلالية أو خلفية أو نحو ذلك ، كلّ الذي سمعناه وعرفناه أنّ ميزان استقامة المسلمين على الحقّ أو جنوحهم عنه إنّما مردّه إلى اتّباع المنهج المذكور.
    وهكذا ، فقد مرّ التاريخ الإسلامي بقرونه الأربعة عشر دون أن نسمع عن أي من علماء وأئمّة هذه القرون أنّ برهان استقامة المسلمين على الرشد يتمثل في انتسابهم إلى مذهب يسمّى بالسلفية فإن هم لم ينتموا إليه ويصطبغوا بمميزاته وضوابطه ، فأُولئك هم البدعيون الضالّون.
1 ـ السلفية مرحلة زمنية : 79.

(335)
    إذن فمتى ظهرت هذه المذهبية التي نراها بأُمّ أعيننا اليوم والتي تستثير الخصومات والجدل في كثير من أصقاع العالم الإسلامي ، بل تستثير التنافس والهرج في كثير من بقاع أوروبا حيث يقبل كثير من الأوروبيين على فهم الإسلام ويبدون رغبة في الانتساب إليه؟ (1)
    وبعد أن يشير إلى مبدأ ظهور هذه الكلمة ( السلفية ) وسبب ذلك ، و كيف أنّها استخدمت في ذلك الوقت للدعوة إلى السير على خطا المسلمين الأُول في الالتزام بأصل الإسلام في مواجهة الموجة المادية الغربية التي اجتاحت البلاد الإسلامية في أوائل القرن العشرين ، ولكنّها تحولت فيما بعد إلى لقب ، لقب به الوهابيون مذهبهم ، وهم يرون أنّهم دون غيرهم من المسلمين على حقّ ، وأنّهم دون غيرهم الأُمناء على عقيدة السلف ، والمعبرون عن منهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه ، وأمّا الآخرون فكفرة ضالّون.
    يقول بعد كلّ هذا تحت عنوان : « التمذهب بالسلفية بدعة لم يكن من قبل » :
    إذا عرف المسلم نفسه بأنّه ينتمي إلى ذلك المذهب الذي يسمّى اليوم بالسلفية ، فلا ريب أنّه مبتدع ...
    فالسلفي اليوم ، كلّ من تمسّك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ودافع عنها وسفّه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع ، سواء منها ما يتعلق بالأُمور الاعتقادية ، أو الأحكام الفقهية والسلوكية. (2)
    ثمّ أشار الأُستاذ البوطي إلى الآثار الضارة اللاحقة بالأُمّة الإسلامية من جرّاء هذه البدعة ، وما يلازمها من عصبية مقيتة ومواقف متصلّبة وعنيفة. وما أوجدت من مشاكل في الأوساط الإسلامية ... وأشار ـ فيما أشار ـ إلى تهجّم السلفيين على جماعة من المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه لا لشيء إلاّ لأنّ السلفيين لا يرتضون بعض أعمالهم المباحة شرعاً.
1 ـ السلفية مرحلة زمنية : 230 ـ 231.
2 ـ نفس المصدر : 236 ـ 237.


(336)
    حيث قال : وفي إحدى الأصقاع النائية (1) حيث تدافع أُمّة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتّهام بالشرك والابتداع ، لأنّهم قبوريون توسّليون (2) ثمّ تتبعها الفتاوى المؤكّدة بحرمة إغاثتهم بأيّ دعم معنوي أو عون مادي ، ويقف أحد علماء تلك الأُمّة المنكوبة المجاهدة ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات : يا عجباً لإخوة يرموننا بالشرك مع أنّنا نقف بين يدي اللّه كلّ يوم خمس مرات نقول : ( إِيّاك نعبدُ وإِيّاكَ نَسْتَعين ) (3) ... لكن النداء يضيع ، ويتبدّد في الجهات دون أيّ متدبر أو مجيب!! (4)
    ثمّ يقول : إنّ استنكار هذه الرعونات الشنيعة لا يكون إلاّ بمعالجتها ، ولا تكون معالجتها إلاّ بسد الباب الذي اقتحمت منه ، وإنّما الباب الذي اقتحمت منه هو الإقدام على اقتطاع جماعة من جسم الجماعة الإسلامية الواحدة ، واختراع اسم مبتدع لها ثمّ تغذية روحها العصبية وأنانيّتها الجماعية بمقوّمات معينة وأساليب وأخلاقيات متميزة تدافع بها عن كيانها الذاتي ، بل تتّخذ من هذا الاسم سلاحاً لمقاومة الآخرين وطعنهم دون هوادة إذا اقتضى الأمر. (5)
    ثمّ يشير الأُستاذ إلى استفادة أصحاب الفكر اليساري من هذه البدعة لصالح المادية الماركسية الجدلية حيث اعتبروا هذه البدعة دليلاً على صحّة نظريتهم التاريخية في مجال التناقض والصيرورة ، في غفلة من أصحاب هذه البدعة.
1 ـ والمراد هو إيران المسلمة وذلك عند دفاع أهلها عن وطنهم ومقدّساتهم في الحرب المفروضة عليهم من جانب الاستكبار العالمي وعملائه.
2 ـ نعم هذا هو ما كان يفعله السعوديون الذين يتسترون تحت غطاء السلفية فكانوا يساعدون النظام الإلحادي البعثي العراقي بالمال والسلاح والدعاية مجاهرين بذلك. وحبذا لو أنّ الأُستاذ الشهم كشف عن اسم هذه الفرقة المتجنّية على الإسلام والمسلمين ، التي لم تكتف بتكفير المسلمين في إيران بل كفرت كلّ المسلمين وضلّلتهم.
3 ـ الفاتحة : 5.
4 ـ السلفية مرحلة زمنية : 245.
5 ـ المصدر نفسه : 246.


(337)
السلفية وتدمير الآثار الإسلامية
    لقد قامت « الوهابية » المفروضة على الشعب المسلم في الجزيرة العربية باسم « السلفية » بتدمير الآثار الإسلامية وقد ركزت جهودها في هذه الأيّام على محو آثار الإسلام ومعالمه وطمس كلّ أثر ديني حتى المساجد ، مع أنّ مؤسس « الوهابية » ، أعني : « محمد بن عبد الوهاب » ، كان يركز جهوده على هدم القبور فقط لا على هدم كلّ أثر ديني للرسول الأعظم وصحابته المنتجبين ، لكنّ حلفاءه بدأوا في هذه الأيام بالقضاء على الآثار الدينية باسم تطوير البلدين : مكة والمدينة فترى كيف طمست حتى في هذه السنوات الأخيرة ( 1396 ـ 1408 هـ ق ) عشرات من الآثار الإسلامية ومحيت معالمها تحت غطاء توسعة المسجد النبوي ، أو تطوير المدينة وإعمارها ، وكأنّ التطوير يتوقف على التدمير ولا يجتمع مع حفظ تلك الآثار في مكانها ، ولا نشكّ نحن وكلّ متحرق على الحقّ والحقيقة أنّها مؤامرة شيطانية على الإسلام وأهله.
    والعجب أنّ « السعوديين » يقومون بهذا العمل باسم الاقتداء بالسلف مع أنّ السلف في القرون السابقة فرضوا على أنفسهم رعايتها ، فإنّ الحكام ـ الذين تعاقبوا على مسند الحكم في الحجاز عدا يزيد ـ فرضوا على أنفسهم حفظها ورعايتها غير أنّها في هذه الأيام ، كأنّها أصبحت ملكاً صرفاً لآل سعود ، وكأنّها ليست آثاراً إسلامية ولا تخص مليار مسلم فضلاً عن الأجيال اللاحقة ، ولو نظر المسلم في تاريخ الآثار الإسلامية قبل استيلاء « السعوديين » عليها لوجد جميع الآثار تتمتع بأفضل عناية ورعاية من جانب السلف. فما معنى هذه السلفية التي تتبعض في مفهومها فيؤخذ منها شيء ويترك منها شيء؟! يقولون : « نؤمن ببعض ونكفر ببعض ».
    وفي الوقت الذي تحرص فيه الدول المتحضّرة على إحياء أمجادها وتراثها ، وتتعهد بإنشاء كليات ومعاهد ومؤسسات ومتاحف لحفظ الآثار وصيانتها ـ في هذا الوقت نفس هـ تعمد السعودية إلى القضاء على أنفس الآثار الإسلامية وأعزها على كلّ مسلم.
    والعجب العجاب أنّ هؤلاء يدّمرون بيوت بني هاشم وبيت الإمام


(338)
الصادق ( عليه السَّلام ) ، وقبر والد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ومشهد ذي النفس الزكية ، وبيت أبي أيّوب الأنصاري مضيف النبي ، ولكنّهم يعتنون ب آثار اليهود في المدينة المنوّرة ، فترى فيها حصن « كعب بن الأشرف » رأس اليهود الذي اغتاله بعض الصحابة بأمر النبي الأعظم محفوظاً ، وقد وضعت أمامه لوحة تحمل مرسوماً ملكياً بحفظه تحت عنوان حفظ الآثار.
    وليس هذا التخطيط منحصراً بحفظ تراث ذلك اليهودي بل حصون خيبر بجميع شقوقها وفروعها سجلت في ديوان الآثار التي يجب حفظها عن الاندراس ، لأنّها شارة خاصة لأسلاف الحافظين لها « فاعتبروا يا أُولي الأَبصار ».
    فأين المسلمون الغيارى ، أعني : الذين افتقدوا يوماً شعرة من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكانوا يحتفظون بها في مسجد من مساجد الهند فانتابتهم رجّة عظيمة ، وثارت ثائرتهم حتى اضطرت الدولة العلمانية الهندية إلى بذل الجهود للعثور على تلك الشعرة ، حتّى عثر عليها وأعيدت إلى مكانها.
    فأين أُولئك الغيارى حتّى يروا بأُم أعينهم أنّ الآثار النبوية تدمّر ، الواحد تلو الآخر وفي كلّ شهر ويوم على أيدي السلطات السعودية.
    ولن تنتهي الجريمة إلى هذا الحدّ ، بل ربما تتعدى إلى ما لا سمح اللّه به لهم.
    ومن الملفت للنظر أنّ المفكّرين من علماء الإسلام عندما قام الوهابيون بهدم قبور أئمّة أهل البيت في البقيع (1) أعلنوا للعالم الإسلامي بأنّ الجريمة لن تتوقف عند هذا الحد ، بل إنّ هدم البقيع مقدمة لهدم ومحو جميع آثار الرسالة ، وفي ذلك يقول المرجع الديني الراحل (2) السيد صدر الدين العاملي :
1 ـ عام 1344 هـ.
2 ـ لبى دعوة ربّه عام 1373 هـ.


(339)
لعمري إنّ فاجعة البقيع وسوف تكون فاتحة الرزايا أما من مسلم للّه يرعى يشيب لهولها فود الرضيع إذا لم نصح من هذا الهجوع حقوق نبيّه الهادي الشفيع
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُونَ )
.
الرابع : نصيحة لأعلام الحنابلة وقادتهم
    اتّفق المسلمون تبعاً للذكر الحكيم على أنّ الرسالة المحمّدية رسالة عالمية أوّلاً ، وخاتمية ثانياً ، قال سبحانه : ( قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَميعاً ) (1) ، وقد حملت الأُمّة الإسلامية رسالة إبلاغ الإسلام على عواتقها بعد التحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى فنشروها في مشارق الأرض ومغاربها حسبما توفر لديهم من الإمكانيات ، وقد وصلت النوبة في هذا العصر إلى قادة المسلمين وأئمّتهم ، فيجب عليهم بث الإسلام وتعاليمه بين الناس ـ شرقيّهم وغربيّهم ـ في حدود الإمكانيات والوسائل الموجودة في سبيل بسط الدعوة ونشرها حتّى ينقذوا العالم من مخالب المادية ومن الحروب التي تهدد كيان الإنسانية.
    وممّا لا شكّ فيه أنّ للتأثير في النفوس وجذب القلوب ، عللاً وأسباباً مختلفة ، أهمها كون الداعي مجهزاً بقوة المنطق والاستدلال القاطع الذي تخضع له العقول السليمة ، فعند حسن الدعوة وأسلوبها ، وقوّة المادة ورصانتها ، ترى القلوب تهوي إليها من كلّ صوب وجانب ، والناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً ، وأمّا إذا كانت الدعوة غير منسجمة مع الفطرة السليمة ، فنفور الناس هو النتيجة الحتمية وتكون من قبيل « مايفسده أكثر ممّا يصلحه ».
    وفي ظل هذا العامل سيطرت الدعوة المحمدية ـ آن ظهورها ـ على قلوب العالم واكتسحت العراقيل الموجودة أمامها ، وما ذاك إلاّ لكون الدعوة حائزة للشرائط موافقة للطباع ، وإلى هذا الانسجام يشير قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّين حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ
1 ـ الأعراف : 158.

(340)
الدِّينُ القَيِّمْ وَلكَّنْ أَكْثََرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون ) . (1)
    فالدعوة إلى التوحيد ورفض الأصنام ، وبسط العدل والقسط بين الناس ، والدعوة إلى الاعتدال في ما يرجع إلى أُمور الدنيا والآخرة ، وتأمين سبل الحياة ، والحفاظ على الروابط العائلية و ... كلّها أُصول إسلامية مطابقة للفطرة الإنسانية.
    فإذا كان هذا هو الأساس لنشر الإسلام في العالم وجذب النفوس إليه ، فيجب على قادة المسلمين على الإطلاق والحنابلة وأهل الحديث بالخصوص ، تجريد الدعوة عن الأُمور التي تعارض الفطرة ومن التي تناطح العقل السليم ، ثمّ عرض الإسلام بشكل يتجاوب مع العقول السليمة كما كانت عليه الدعوة المحمدية آن ظهورها وبعدها ، وهذه الغاية المتوخاة لا تتحقّق ـ بلا مجاملة ـ إلاّبدراسة الأُصول والعقائد التي نسجت على طبق الأحاديث الموجودة في الصحاح والمسانيد من رأس والعودة إليها من جديد حتى تصفو الدعوة من الأُمور التي يشمئز منها شعور الإنسان الحر صاحب الفطرة السليمة التي بني عليها دين اللّه في عامة الشرائع السماوية.
    هلمّ معي نلاحظ نماذج من الأُصول التي قامت عليها الدعوة الحنبلية المتسمّية في هذه العصور بالدعوة السلفية ، ثمّ نعرضها على محك الصحة ومقياسها « الفطرة الإنسانية » ، فهل هي تتجاوب معها؟ ونحن لا نطيل الكلام بعرض عامة الأُصول بل نأخذ ـ كما قلنا ـ نماذج ونجعلها على مرأى ومسمع من القارئ.
    أفهل يمكن دعوة شعوب العالم إلى الإسلام مع القول بأنّ اللّه سبحانه كإنسان له من الأعضاء ما للإنسان عدا اللحية والفرج ، وأنّ له عينين ناظرتين وذراعين وصدراً ونفساً ورجلاً وحقواً ونزولاً وصعوداً إلى غير ذلك ممّا ملأ كتب الحنابلة وقليلاً من كتب الأشاعرة؟ وأقصى ما عندهم أنّ له سبحانه هذه
1 ـ الروم : 30.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس