بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 341 ـ 350
(341)
الأعضاء ولكن بلا كيفية ، و قد عرفت حال التدرّع به وأنّه ممّا لا يسمن ولا يغني من جوع.
    أفيصحّ لنا دعوة أساتذة العلوم الإنسانية والطبيعية من المخترعين والمكتشفين في عالمنا الراهن إلى الإله الذي استقرّ على عرشه فوق السماوات ينظر منه إلى العالم كلّه الذي هو تحت قدميه ، والعرش يئط تحته أطيط الرحل تحت الراكب؟!
    باللّه عليك إذا كانت رسالتنا في العالم نشر ما جاء في قول هذا الشاعر الحنبلي :
للّه وجه لا يحد بصورة وله يدان كما يقول إلهنا ولربنا عينان ناظرتان ويمينه جلّت عن الأيمان
    فهل يتصور لنا النجاح في ميدان الدعوة؟! أو يكون التراجع والفشل نتيجة حتمية للدعوة ، وإنّنا سوف نقابل بالقول بأنّ المادية والإلحاد أولى وأرجح من الاعتقاد بهذا الإله الذي جلس على سرير كجلوس الملوك ينظر إلى ملكه بعيونه ويفعل بيده ويكتب ببنانه.
    أو ليس القول بالجبر وسلب الاختيار هي النتيجة الطبيعية للروايات الواردة في الصحاح والمسانيد حول القضاء والقدر ، و قد مضى حديث مسلم : « فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ... ». (1) ؟!
    أو ليس هذا تطويحاً بالوحي كلّه وتزييفاً للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة وتكذيباً للّه والمرسلين قاطبة. قال سبحانه : ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) (2) . و قال سبحانه : ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَفَلْيُؤْمِنْوَمَنْ شاءَفَلْيَكْفُر ) . (3)
1 ـ راجع ص 264 من هذا الجزء.
2 ـ الأنعام : 104.
3 ـ الكهف : 29.


(342)
    وهناك أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى وتعرف الإنسان بأنّه مسلوب المشيئة ، وأنّه مقهور بكتاب سابق ، وأنّ سعيه باطل ، لأنّه لا يغير شيئاً ممّا خط عليه في الأزل مع أنّه سبحانه يقول : ( وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسان إِلاّما سعى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرى* ثُمَّ يُجزاهُ الجَزاءَ الأَوفى ) . (1)
    فهذه أحاديث واهية خلّفت تعاليم باطلة في أوساط المسلمين يجب تجريد الدعوة الإسلامية منها ، فهي تعاكس منطق الفطرة أوّلاً ، والعقل السليم ثانياً ، ومنطق العقلاء ثالثاً ، ومنطق الشرائع عامة رابعاً ، فليس لهذه الروايات أن تطيح على المحفوظ من كتاب اللّه وسنّة رسوله ، أو تنافح ما اجتمع عليه عقول العالمين ، ولو صحت هذه الروايات ، لكانت الحياة عملاً مسرحياً ، والدعوة الإلهية دعوة خادعة ، والناس محكومون بما جف عليه القلم وليس لهم التخطّي عنه قدر أنملة.
    هذه بعض الأُصول (2) التي تناقض الفطرة ، وهي أكثر ممّا حررناه هنا ، فليكن منها شعار الحنابلة وبعدهم الأشاعرة بأنّه :
    يجوز التكليف بما لا يستطاع ولا يطاق. (3)
    يجوز تعذيب أطفال المشركين يوم القيامة. (4)
    يعذب الميت ببكاء أهله عليه. (5)
    ليس للعقل الحكم بحسن شيء أو قبحه ، و عليه : يصحّ له سبحانه إدخال المؤمن الجحيم ، والعاصي الجنّة.
    إنّ الإطاحة بحاكمية العقل في مجال التحسين والتقبيح إماتة للمنطق وإحياء للخرافات ، وفي الوقت نفسه ردّ لصميم الدعوة المحمدية المبنية على التدبّر
1 ـ النجم : 39 ـ 41.
2 ـ قد تعرفت على مصادر هذه الأُصول في الفصل الخامس من هذا الجزء : ص 138 ـ 175.
3 ـ اللمع : 116.
4 ـ اللمع : 116.
5 ـ صحيح البخاري : كتاب الجنائز ، الباب 5.


(343)
والتعقّل والاحتكام إلى العقل في مجال الطاعة والمعصية ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِين* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ) . (1)
    و أُقسم بالّله صادقاً أنَّ الدعوة الإسلامية لا تكون ناجحة في أقطار الغرب والشرق إذا كانت هذه الأُصول هي اللحمة والسدى لها.
    إنّ ملحمة الكنائس ومغادرة المثقفين من المسيحيّين عن دينهم هي العبرة لقادة الحنابلة ومن يقتفي أثرهم ، ولم يكن للهوّة السحيقة بين أصحاب الكنائس والمثقفين سبب ، سوى وجود الخرافات في تعاليم الكنائس ، فلم تزل تدعو إلى التثليث أوّلاً ، وإلى التجسيم ثانياً ، وصلب المسيح لأجل إنقاذ البشرية ثالثاً ، وبيع أوراق المغفرة رابعاً ، ونوع خاص من الجبر وسلب الاختيار خامساً ، هذا وذاك صار سبباً لانسحاب الشباب والعلماء عن ساحة الكنائس والبيع واختصاص الأماكن المقدّسة بالسذج من الناس الذين لا يعرفون من العلم والحياة سوى شيء طفيف.
    هذه نصيحتي لقادة الحنابلة ، وفي الأخير نضيف إليها كلمة وهي أنّ الحنابلة وأهل الحديث عمدوا إلى احتكار اسم « أهل السنّة » لأنفسهم ولا يصفون سائر الطوائف الإسلامية به ، حتّى إنّ ابن تيمية محيي الدعوة السلفية في القرن الثامن لا يبيح تسمية الأشاعرة باسم أهل السنّة فضلاً عن المعتزلة والشيعة وغيرهم ، ولكن في هذا الاحتكار بل في هذه التسمية نكتة لافتة :
    إنّ توصيف طائفة من المسلمين باسم أهل السنّة من العناوين الطارئة الحديثة التي ظهرت في آخر القرن الأوّل أو في أوّليات القرن الثاني ، فإنّك لا ترى أثراً من هذا الاسم ولا التوصيف به في زبر الأوّلين إلاّ في رسالة عمر بن عبد العزيز في القدر التي مرت بنصها في ما سبق (2) ، وقد عرفت أنّ كتابة الحديث وتدوينه والتحدّث به وإفشاءه كان من الأُمور المنكرة ، وهذا هو عمر بن الخطاب قال لأبي ذر و عبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء : ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد؟ (3)
    وكان يقول أيضاً : جرّّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن
1 ـ القلم : 35 و 36.
2 ـ قد مرّت الرسالة في ص 292 من هذا الجزء.
3 ـ كنز العمّال : 10/293 ، الحديث 29479.


(344)
رسول اللّه وامضوا وأنا شريككم. (1)
    وقد خلّف هذا المنع في نفوس المسلمين أثراً خاصاً فعاد التحدّث وكتابة الحديث وتدوينه أمراً منكراً لديهم وتركه أمراً مرغوباً فيه ، حتّى إنّه بعد ما أصدر الخليفة عمر بن عبد العزيز الأمر الأكيد بضرورة تدوين الحديث ، كانت رواسب الحظر تحول دون القيام بما أمر به الخليفة فلم يكتب شيء من أحاديث النبي إلاّ صحائف غير منظمة ولا مرتبة إلى أن جاء عصر أبي جعفر المنصور فقام المحدثون بتدوينه سنة مائة وثلاثة وأربعين.
    فإذا كان التحدّث بسنّة الرسول أمراً منكراً في القرن الأوّل وأوّليات القرن الثاني ، فكيف يحتمل أن يعرف أُناس ينكرون نقل الحديث وإفشاءه باسم « أهل السنّة » وعلى ذلك فلا نحتمل وجود هذه التسمية في تلك العصور ، و إنّما حدثت تسمية أهل الحديث وتوصيفهم بأهل السنّة بعدما شاع التحدّث به وقام ثلة جليلة من المسلمين بجبر ما انكسر.
    فعلى ضوء ذلك ، لا يصحّ احتكار هذا اللقب وتسمية طائفة خاصة به ، بل كلّ من يحترم حديث رسول اللّه وسنّته ويعمل بها فهو من أهل السنّة فالمسلمون سنّيهم وشيعيّهم ، أشعريّهم ومعتزليّهم ، من غير استثناء طائفة واحدة كلّهم أهل السنّة ، أي مقتفون سنّة رسول اللّه وأثره من قوله وفعله وتقريره.
    والشيعة أولى بهذا الوصف من غيرهم ، فإنّهم لم يزالوا يحترمون سنّة رسول اللّه منذ حياته إلى يومنا هذا ، فقد قام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) بتدوين أحاديثه كما قامت ثلّة جليلة من خيار صحابة الإمام بتدوين الحديث إلى أن وصلت حلقات التأليف من عصر الإمام إلى عصر الأئمّة الاثني عشر وبعدهم إلى أعصارنا هذه ، فدوّنوا سنّة رسول اللّه المروية عن طرق أهل البيت و أئمّتهم وما صحّ لديهم من طرق غيرهم. أفهل يصحّ بعد هذا احتكار الحنابلة لهذا اللقب وعدم السماح بإطلاقه على غيرهم والتقوّل ب ـ : نحن السنّيون؟!
1 ـ طبقات ابن سعد : 6/7; والمستدرك : 1/102.

(345)
موقف تاريخي لشيخ الأزهر من عقائد الحنابلة
    إذا كبر على أعلام الحنابلة ما قدّمت إليهم من النصيحة الخالصة ، فعليهم ـ على الأقل ـ الأخذ بما قاله الشيخ « سليم البشري » شيخ الجامع الأزهر الأسبق ، فقد رفع إليه الشيخ « أحمد » شيخ معهد بلصفورة سؤالاً ما هذا حاصله :
    ما قولكم دام فضلكم في رجل من أهل العلم هنا تظاهر باعتقاد جهة فوقية للّه سبحانه وتعالى ، ويدّعي أنّ ذلك مذهب السلف وتبعه على ذلك البعض القليل من الناس ، وجمهور أهل العلم ينكرون عليه ، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد ـ كما عرض علي هو بنفسه ذلك ـ عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه ، وليكن معلوماً أنّه يعتقد الفوقية الذاتية له جلّ ذكره ، يعني أنّ ذاته فوق العرش بمعنى ما قابل التحت مع التنزيه ، ويخطِّئ أبا البركات الدرديري ، في قوله في خريدته :
منزّه عن الحلول والجهة والاتصال والانفصال و السفة
يخطّئه في موضعين من البيت :
    قوله : « والجهة » وقوله : « والانفصال » ، و يخطِّئ الشيخ « اللقاني » في قوله :
ويستحيل ضد ذي الصفات في حقّه كالكون في الجهات
    وبالجملة فهو مخطِّئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدر هـ إلى أن قال ـ : إنّ قول فضيلتكم لا سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل.
    فوافاه الجواب بالنحو التالي :
    إلى حضرت الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة :
    قد أرسلتم بتاريخ 22محرم سنة 1325 هـ مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى ، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية


(346)
لمن اتّبع الحقّ وأنصف ، جزاكم اللّه عن المسلمين خيراً :
    اعلم أيّدك اللّه بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه ، أنّ مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنّيون : أنّ اللّه تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث ، مخالف لها في جميع سمات الحدوث ، ومن ذلك تنزّهه عن الجهة والمكان ، كما دلّت على ذلك البراهين القطعية ، فإنّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم ، وهو ما سوى اللّه تعالى ، و قد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى اللّه تعالى بإجماع من أثبت الجهة و من نفاها ، ولأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما باطل ، ولأنّه لو تحيز لكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً ، ولو كان جوهراً فإمّا أن ينقسم وإمّا أن لا ينقسم ، وكلاهما باطل ، فإنّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. والمنقسم جسم وهو مركّب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة ، وقد ثبت بالبرهان أنّه تعالى واجب الوجود لذاته ، غني عن كلّ ما سواه ، مفتقر إليه كلّ ما عداه ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ... .
    هذا وقد خذل اللّه أقواماً أغواهم الشيطان وأزلّهم ، اتّبعوا أهواءهم وتمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ، واتّفقوا على أنّها جهة فوق ، إلاّ أنّهم افترقوا ، فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش ، وبه قال الكرامية واليهود ، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم; ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه ، وأنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام ، وهؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم ، وإطلاقهم على اللّه ما لم يأذن به الشارع ، ولا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به.
    وممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين ، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن ، في ضمن أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه ، وشنّع عليه معاصروه ، بل


(347)
البعض منهم كفروه ، ولقي من الذل والهوان ما لقي ، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته ممّا نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها ، وأبان غلط الناس في فهم مراده ، واستشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه ، وأنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع ، وذلك هو المظنون بالرجل لجلال قدره ورسوخ قدمه.
    وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية ، لا تصلح أدلّة عقلية ولا نقلية ، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه ، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى : ( الرّحمنُ عَلى الْعَرشِ اسْتَوى ) (1) وقوله : ( إِليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّب ) (2) وقوله : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إليهِ ) (3) وقوله : ( أأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أن يَخْسَِفَ بِكُمُ الأرض ) (4) وقوله : ( وَهُوَ القاهِرُ فوقَ عِبادِهِ ) (5) وكحديث إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة ، وفي رواية : في كلّ ليلة جمعة ، فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وكقوله للجارية الخرساء : أين اللّه؟ فأشارت إلى السماء ، حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء ، بل قال إنّها مؤمنة.
    ومثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ، كقولهم : « إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء » كما في قول القائل :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
    وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به ، لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده وقوله : « من في السماء » أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب ، وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله : ( فوق عباده ) أي بالقدرة والغلبة ، فإنّ كلّ من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة ، كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان ، أي إنّه أقدر منه وأغلب. ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته
1 ـ طه : 5.
2 ـ فاطر : 10.
3 ـ المعارج : 4.
4 ـ الملك : 16.
5 ـ الأنعام : 18.


(348)
وعدم المعاملة بما يستدعيه علو رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل ، وخصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة والخضوع وحضور القلب. وسؤاله للجارية « بأين » استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون ، فلمّا أشارت إلى السماء ، فهم أنّها أرادت خالق السماء فاستبان أنّها ليس وثنية ، وحكم بإيمانها.
    وقد بسط العلماء في مطوّلاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك ، عملاً بالقطعي وحملاً للظنّي عليه ، فجزاهم اللّه عن الدين وأهله خير الجزاء.
    ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمّتهم ويتمشدق بترّهات المبتدعين وضلالتهم. أما سمع قول اللّه تعالى ( و [ من ] يَتَّبِع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّه ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيراً ) (1) فليتب إلى اللّه تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه ، فإنّ الرجوع إلى الصواب عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب ( مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِل فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرشِداً ) . (2)
    نسأل اللّه تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى اللّه تعالى وسلم على سيّدنا محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أملاه الفقير إليه سبحانه « سليم البشري » خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفا عنه آمين آمين. (3)
    هذه هي قصة أهل الحديث والدعوة السلفية بأدوارها المختلفة.
1 ـ النساء : 115.
2 ـ الكهف : 17.
3 ـ الفرقان للعلاّمة القضاعي المصري : 72 ـ 76 ، و قد طبع مع كتاب « الأسماء والصفات » للبيهقي ، وتوفي المجيب عام 1335 هـ وهو الذي قد جرت بينه و بين السيد شرف الدين مكاتبات طبعت باسم « المراجعات ».


(349)
( قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصيرة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين ). (1)
بل ـ غ الكلام إلى هنا في اليوم الثالث
من شعبان المعظّم ميلاد الإمام
الطاهر سيد الشهداء ( عليه السَّلام )
من شهور عام 1408 هـ .ق
قم المشرّفة

1 ـ يوسف : 108.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس