|
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 1 ـ 10 |
|
بُحُوثٌ
في الملل والنحل
دِرَاسَة مَوضُوعيّةُ مُقارِنة للمذَاهِب الاسلاميّة
الجُز الثالث
ويتناول تاريخ و عَقائد
الما تريديّة والمرجعئة ، والجهميّة ، والكراميّة
والظاهريّة ، والمعتزلة.
تأليف
جعفر السبحاني
(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد ، فهذا هو الجزء الثّالث
من كتابنا « بحوث في الملل والنحل » نقدّمه للقرّاء الكرام ونبحث فيه عن
المدرستين المعروفتين « الماتريديّة » و « المعتزلة » ، والمدرسة الاُولى مشتقّة من
منهج أهل الحديث من الحشويّة والحنابلة ، كاشتقاق المنهج الأشعريّ منه ، والفرعان
يشتركان في كثير من الاُصول ويختلفان في بعضها الآخر ، وستوافيك الفوارق
الموجودة بينهما.
وأمّا المدرسة الثّانية ـ أعني مدرسة
الاعتزال ـ فهي منهج عقليّ لا يمتّ لمنهج أهل الحديث بصلة ، والمدرستان تتحرّكان
على محورين متخالفين ، ونرجو منه سبحانه أن يوفّقنا لتحرير عقائد الطائفتين
متحرّرين من كلّ نزعة ، وتعصّب ، ورأي مسبّق لا دليل عليه ، ولنقدّم تحرير منهج
الطائفة « الماتريديّة » على « المعتزلة » للصّلة التامّة بينه وبين المنهج الأشعري
الذي سبق عنه البحث مفصّلاً في الجزء الثّاني.
ولقد نجمت في القرنين الأوّلين مناهج
كلاميّة لها صلة بالمدرستين ، فلإكمال الفائدة نبحث قبل تبيين منهج الإعتزال عن
الفرق التالية:
المرجئة ، القدريّة ، الجهميّة ، الكرّاميّة
والظاهريّة. فالمرجوّ منه سبحانه ، التّوفيق لبيان الحقّ والحقيقة والقضاء ،
بعيداً عن التعصّب والانحياز الممقوت. إنّه وليّ التوفيق.
(6)
(7)
قد تعرّفت على جذور الاختلاف في عصر الرّسالة وبعدها ،
كما تعرّفت على حوافز الاختلاف ودوافعه في عصر الخلفاء ، وخرجنا بالنّتيجة
التالية وهي: أنّ أهل البحث والنّقاش من المسلمين قد تفرّقوا على فرقتين
مختلفتين في كثير من المبادئ والاُصول وإن اشتركتا في كثير منها أيضاً:
1 ـ فرقة أهل الحديث الّتي يعبّر عنها
بالحشويّة تارة ، والحنابلة اُخرى ، والسلفيّة ثالثة وكانوا يتّسمون بسمة
الاقتفاء لكتاب الله ، وسنّة رسوله ، ولا يقيمون للعقل والبرهان وزناً ، كما لا
يتفحّصون عن مصادر الحديث تفحّصاً يكشف عن صحته ، بل ويقبلون كلّ حديث وصل إليهم
عن كل من هبّ ودبّ ، ويجعلون في حزمتهم كلّ رطب ويابس ، ولأجل هذا التّساهل ظهرت
فيهم آراء وعقائد تشبه آراء أهل الكتاب ، كالتشبيه ، والتجسيم ، والجبر ، وسيادة
القضاء والقدر على الإنسان كإله حاكم ، لا يُغيّر ولا يُبدّل ، ولا يقدر الإنسان
على تغيير مصيره إلى غير ذلك من البدع ولا يقصر عمّا ذكرناه القول بالرؤية
تبعاً للعهدين ، وكون القرآن قديماً غير مخلوق ، مضاهياً لقول اليهود بقدم
التّوراة ، أو النّصارى بقدم المسيح ، وقد أوضحنا الحال في هذه المباحث في
الجزأين الماضيين.
2 ـ فرقة المعتزلة التي تعتمد على العقل
أكثر مما يستحقّه ، وتزعم أنّ ظواهر بعض
(8)
النّصوص الواردة
في الكتاب والسنّة ، مخالفة لما يوحي إليهم عقلهم وفكرتهم ، فيبادرون إلى تأويلها
تأويلاً واهياً يسلب عن الكلام بلاغته ، فينحطّ من ذروته إلى الحضيض ، وهؤلاء هم
المعروفون بالمعتزلة ، وفي ألسن خصومهم بالقدريّة ).
وقد كان الجدال بين الطّائفتين قائماً
على قدم وساق بغلبة الاُولى على الثّانية تارة ، وانتصار الثانية على الاُولى
اُخرى ، وقد كان لأصحاب السّياسة والبلاط دور واضح في إشعال نار الإختلاف بإعلاء
إحداهما ، وحطّ الاُخرى ، حسب مصالحهم الوقتية ، والغايات المنشودة لهم.
الداعيان إلى منهج أهل الحديث
متعاصران
كان النزاع
يعلو تارة ، وينخفض اُخرى ، إلى أن دخل القرن الرابع الهجري ، فأعلن الشيخ أبو
الحسن الأشعري ، في أوائل ذلك القرن ، رجوعه عن الاعتزال الذي عاش عليه أربعين
سنة ، وجنح إلى أهل الحديث ، وفي مقدّمتهم منهج إمام الحنابلة « أحمد بن حنبل » ،
لكن لا بمعنى اقتفاء منهجه حرفيّاً بلا تصرّف ولا تعديل فيه ، بل قبوله لكن
بتعديل فيه على وجه يجعله مقبولاً لكلّ من يريد الجمع بين النّقل والعقل ،
والحديث والبرهان ، وقد أسّس في ضوء هذا منهجاً معتدلاً بين المنهجين وتصرّف في
المذهب الاُمّ ، تصرّفاً جوهرياً وقد أسعفه حسن الحظّ ونصره رجال في الأجيال
المتأخرة ، حيث نضّجوا منهجه ، حتى صار مذهباً عامّاً لأهل السنّة في الاُصول ،
كما صارت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية في الفروع.
وفي الوقت الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابع
الفرعية لمذهب أهل الحديث ، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة
وأهلها ، وإقصاء المعتزلة عن السّاحة الإسلاميّة.
كلّ ذلك بالتصرف في المذهب وتعديله ، وذلك
المذهب الآخر هو مذهب
(9)
الماتريديّة
للامام محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي السمرقندي ( المتوفّى عام 333 هـ ) أي
بعد ثلاثة أو تسعة (1) أعوام من وفاة الإمام الأشعري.
والداعيان كانا في عصر واحد ، ويعملان على
صعيد واحد ، ولم تكن بينهما أيّة صلة ، فهذا يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في
العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه ، وذاك يناضل المعتزلة في شرق المحيط
الإسلامي ( ما وراءالنّهر ) ، متقلّداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه ، وكانت
المناظرات والتيّارات الكلامية رائجة في كلا القطرين. فكانت البصرة ـ يوم ذاك ـ
بندر الأهواء والعقائد ، ومعقلها ، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم ،
وكانت منبتَ الكرّامية وغيرهم أيضاً ، نعم كانت المعتزلة بعيدة عن شرق المحيط
الإسلامي ، ولكن وصلت أمواج منهجهم الى تلك الديار عن طريق اختلاف العلماء بين
العراق وخراسان.
ولأجل انتماء الداعيين إلى المذهبين
المختلفين نرى اهتمام الشافعية بترجمة الأشعري في طبقاتهم ، واهتمام علماء
الأحناف ـ أعني المتكلّمين منهم ـ بالماتريدي وإن قصروا في ترجمته في طبقاتهم ،
ولم يؤدّوا حقّه في كتبهم.
نعم انتماء الماتريدي للإمام أبي حنيفة
في الفقهين ( الأكبر والأصغر ) (2) أمر واضح ، فإنّه حنفيّ ، كلاماً وفقهاً ، وأكثر من نصره ، بل جميعهم ، من الأحناف ، مثل فخر الاسلام أبي اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي
( المتوفّى عام 493 هـ ) والإمام النّسفي ( المتوفّى عام 573 هـ ) وسعد الدّين
التّفتازاني ( المتوفّى عام 791 هـ ) وغيرهم كإبن الهمام والبياضي كما سيوافيك في
تراجمهم ، بخلاف انتماء الأشعري للامام الشافعي فإنّه ليس بهذا الحدّ من
الوضوح.
1 ـ
على اختلاف في تاريخ وفاته بين كونه في 330 أو 324.
2 ـ
سمّى أبو حنيفة الكلام بالفقه الأكبر ، وعلم الشريعة بالفقه الأصغر ، وقد سمّى
بعض رسائله بهذين الاسمين كما سيوافيك.
(10)
منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة
المنهج الذي اختاره الماتريدي ، وأرسى قواعده ، وأوضح
براهينه ، هو المنهج الموروث من أبي حنيفة ( م 150 هـ ) في العقائد ، والكلام ،
والفقه ومبادئه ، والتاريخ يحدّثنا عن كون أبي حنيفة صاحب حلقة في الكلام قبل
تفرّغه لعلم الفقه ، وقبل اتّصاله بحماد بن أبي سليمان الذي أخذ عنه
الفقه.
وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر ،
بل معاصره أبو جعفر الطّحاوي صاحب « العقيدة الطحاوية » ( م 321 هـ ) مقتف أثر أبي
حنيفة حتّى عنون وصدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطّحاوية بقوله « بيان عقيدة
فقهاء الملّة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدبن الحسن » (1).
ويذكر عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب
« الفَرْق بين الفِرَقِ » في كتابه الآخر « اُصول الدين » أنّ أبا حنيفة له كتاب في
الرد على القدرية سمّاه « الفقه الأكبر » ، وله رسالة أملاها في نصرة قول أهل
السنّة: أنّ الاستطاعة مع الفعل... وعلى هذا قوم من أصحابنا (2) ،
والرسائل الموروثة من أبي حنيفة أكثر ممّا ذكره البغدادي (3).
ولمّا كانت المسائل الكلامية في ثنايا
هذه الرسائل ، غير مرتّبة قام أحد الماتريديّة في القرن الحادي عشر ، أعني به
كمال الدين أحمد البياضي الحنفي ، باخراج المسائل الكلامية عن هذه الرسائل من
غير تصرّف في عبارات أبي حنيفة وأسماه « إشارات المرام من عبارات الامام » ويقول
فيه: « جمعتها من نصوص كتبه التي أملاها على أصحابه من الفقه الأكبر ، والرسالة ،
والفقه الأبسط ، وكتاب العالم والمتعلّم ، والوصيّة ، برواية من الإمام حمّاد بن
أبي حنيفة ، وأبي يوسف الأنصاري ، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله
1 ـ
شرح العقيدة الطحاوية: ص 25 ، والشرح للشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي ( المتوفى
سنة 1298 هـ ).
2 ـ
اُصول الدين: ص 308.
3 ـ
وسيوافيك فهرس الرسائل الموروثة من أبي حنيفة ، وقد طبع قسم كبير منها.
|
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس |
|