بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 11 ـ 20
(11)
     البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن مسلم السمرقندي.
    وروى عن هؤلاء ، إسماعيل بن حمّاد ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، ومحمد بن سماعة التميمي ، ونصير بن يحيى البلخي ، وشداد بن الحكيم البلخي ، وغيرهم.
    ثمّ قال: إنّ الامام أبا منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي روى عن الطّبقة الثانية ، أعني نصير بن يحيى ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، وحقّق تلك الاُصول في كتبه بقواطع الأدلّة ، وأتقن التّفاريع بلوامع البراهين اليقينيّة » (1).
    هذه جذور منهجه واُسس مدرسته الكلامية.

لمحة عن حياة الماتريدي
    من المؤسف جدّاً إهمال كثير من المؤرخين ، وكتب التراجم ، ذكر الامام الماتريدي ، وتبيين خصوصيات حياته ، بل ربّما أهملوا الإشارة إليه عندما يجب ذكره أو الإشارة إليه ، فإنّ الرجل من أئمة المتكلّمين ، وأقطاب التفسير في عصره فكان الإلمام بحياته عند ذكر طبقات المتكلّمين والمفسرين لازماً ، وهذا خلاف ما نجده من العناية المؤكّدة بذكر الأشعري ، وتبيين حياته ، والإشارة إلى خصوصياتها ، حتّى رُؤاه ، وأحلامه ، وغلّة ضيعته ، ولعلّ إحدى الدوافع إلى هذا ، هي أنّ الأشعري استوطن في مركز العالم الاسلامي ( العراق ) ، وشهر سيف بيانه وقلمه على الاعتزال في مركز قدرتهم ، وموضع سلطتهم ، فصار ذلك سبباً لأن تمدّ إليه الأعين ، وتشرئب (2) نحوه الأعناق ، فيذكره الصديق والعدو في كتبهم بمناسبات شتّى ، وأمّا عديله وقرينه فكان بعيداً عنه ، مستوطناً في نقطة يغلب فيها أهل الحديث وفكرتهم ، وكانت السلطة في مجالي العلم والعمل لهم ، فجهل قدره ، ولم تعلم قيمة نضاله مع خصومهم ، فقلّت العناية به ،
    1 ـ إشارات المرام من عبارات الامام للبياضي: ص 21 ـ 22 ، وهذا الكتاب من المصادر الموثقة في تبيين المنهج الماتريدى بعد كتابيه « التوحيد » و « التفسير ». ومثله كتاب « أصول الدين » للامام البزدوي.
    2 ـ إشْرَأبّ إليه وله: مدّ عنقه أو ارتفع لينظر إليه.


(12)
     وبعلومه ، وأفكاره ، والإشارة إليه.
    ولأجل ذلك نرى ابن النديم ( م 389 ) لم يترجمه في فهرسته ، وفي الوقت نفسه ترجم الشيخَ الأشعري ( م 33هـ ) ، والامام الطحاوي شيخ الأحناف في مصر ( م 321 هـ ) مؤلّف « عقائد الطحاوي » المسمى ببيان السنّة والجماعة الذي اعتنى به عدّة من الأعلام بالشرح والتعليق.
    هذا وقد أهمله جمع من المتأخّرين ، فلم يترجمه أحمد بن محمد بن خلكان ( م 681 هـ ) في « وفيات الأعيان » مع أنّه ترجم للطحاوي ، ولا صلاح الدين الصفدي ( م 764 هـ ) في « الوافي بالوفيات » ، ولا محمد بن شاكر الكتبي ( م 764هـ ) في « فوات الوفيات » ، ولا تقي الدين محمد بن رافع السّلامي ( م 774 هـ ) في « الوفيات » ، ولم يذكره ابن خلدون ( م 808 ) في مقدمته في الفصل الذي خصّه بعلم الكلام ، ولا جلال الدين السيوطي ( م 911 هـ ) في « طبقات المفسرين » مع كونه أحد المفسرين في أوائل القرن الرابع ، إلى غير ذلك من المعنيّين بتراجم الأعيان والشخصيات ، ولم تصل أيديهم إليه ، وإلى كتبه ، ونشاطاته العلمية ، ونضالاته مع خصوم أهل السنّة.
    حتى إنّ من ذكره وعنونه ، لم يذكر سوى عدة كليات في حقه ، لا تلقي ضوءاً على حياته ، ولا تبيّن شيئاً من خصوصياته ، هذا والمعلومات التي وصلت إلينا بعد الفحص عن مظانّها عبارة عن الاُمور التالية:
1 ـ ميلاده:
    اتّفق المترجمون له على أنّه توفّي عام ( م 333هـ ) ، ولم يعيّنوا ميلاده ، ولكن نتمكّن من تعيينه على وجه التقريب من جانب مشايخه الّذين تخرّج عليهم في الحديث ، والفقه ، والكلام ، فإنّ أحد مشايخه كما سيوافيك ، هو نصير بن يحيى البلخي ( المتوفّى عام 268هـ ) فلو تلقّى عنه العلم وهو ابن عشرين يكون هو من مواليد عام ( 248هـ ) ، أو ما يقاربه ، فيكون أكبر سنّاً من الأشعري بسنين تزيد على عشر.


(13)
2 ـ موطنه:
    قد اشتهر الامام ، بالماتريدي ( بضم التاء ) و « ماتريد » قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النّهر ( جيحون ) (1).
    ويوصف بالماتريدي تارة ، والسمرقندي اُخرى ، ويلقب ب ـ « علم الهدى » لكونه في خطّ الدفاع عن السنّة.
3 ـ نسبه
    ينتهي نسبه إلى أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، مضيف النّبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في دار الهجرة ، وقد وصفه بذلك البياضي في « إشارات المرام » (2).
4 ـ مشايخه وأساتذته:
    قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ هم:
    1 ـ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.
    2 ـ أبو نصر أحمد بن العياضي.
    3 ـ نصير بن يحيى ، تلميذ حفص بن سالم ( أبي مقاتل ).
    4 ـ محمد بن مقاتل الرازي (3).
    قال الزبيدي: تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي.. ومن شيوخه الامام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق ، والتمييز.. ومن مشايخه محمّد ابن مقاتل الرازي قاضي الريّ.
    1 ـ أحد الأنهار الكبيرة المعروفة كالنيل ودجلة والفرات.
    2 ـ اشارات المرام: ص 23.
    3 ـ المصدر نفسه.


(14)
    والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ، وهو من تلاميذ أبي يوسف ، ومحمّد بن الحسن الشيباني.
    وأمّا شيخه الرابع أعني محمّد بن مقاتل ، فقد تخرّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة ، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط ، واُخرى بواسطتين. فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث ، وعن طريق الثالث ( بن مقاتل ) بواسطتين (1).
5 ـ ثقافته:
    إنّ ثقافته و آراءه في الفقهين ، الأكبر والأصغر ، ينتهي إلى إمام مذهبه « أبي حنيفة ». فإنّ مشايخه الّذين أخذ عنهم العلم ، عكفوا على رواية الكتب المنسوبة إليه ودراستها ، وقد نقل الشيخ الكوثري أسانيد الكتب المرويّة عن أبي حنيفة عن النسخ الخطّيّة الموجودة في دار الكتب المصرية وغيرها ، وفيها مشايخ الماتريدي. قال:
     « ومن الكتب المتوارثة عن أبي حنيفة ، كتاب الفقه الأكبر رواية عليّ بن أحمد الفارسي ، عن نصير بن يحيى ، عن أبي مقاتل ( حفص بن سالم ) ، وعن عصام بن يوسف ، عن حمّاد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، وتمام السند في النسخة المحفوظة ضمن المجموعة الرقم ( 226 ) بمكتبة شيخ الاسلام بالمدينة المنوّرة.
    ونصير بن يحيى أحد مشايخ الماتريدي كما عرفت.
    ومن هذه الكتب « الفقه الأبسط » رواية أبي زكريا يحيى بن مطرف بطريق « نصير بن يحيى » عن أبي مطيع ، عن أبي حنيفة ، وتمام السند في المجموعتين ( 24 و 215 م ) بدار الكتب المصريّة.
    ومن هذه الكتب « العالم والمتعلّم » رواية أبي الفضل أحمد بن علي البيكندي الحافظ ، عن حاتم بن عقيل ، عن الفتح بن أبي علوان ، ومحمّد بن يزيد ، عن الحسن بن
    1 ـ لاحظ: اتحاف السادة المتقين ، ج 2 ص 5.

(15)
     صالح ، عن أبي مقاتل حفص بن سالم السمرقندي ، عن أبي حنيفة ، ويرويه أبو منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن محمد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفّق والتّأنيب ( 73 و 85 ).
    ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي ، رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفق والتّأنيب ( 73 و 85 ).
    ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن سماعة ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، وبهذا السند رواية الوصيّة أيضاً ، وتمام الأسانيد في نسخ دار الكتب المصرية ـ إلى أن قال: فبنور تلك الرسائل سعى أصحاب أبي حنيفة وأصحاب أصحابه في إبانة الحقّ في المعتقد.. إلى أن جاء إمام السنّة في ماوراء النهر ، أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريدي المعروف ب ـ ( امام الهدى ) فتفرّغ لتحقيق مسائلها ، وتدقيق دلائلها ، فأرضى بمؤلّفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد » ، ثمّ ذكر مؤلفاته (1).
    ترى أنّ أسناد هذه الكتب والرسائل تنتهي إلى أحد مشايخ الماتريدي وقد طبع منها: « الفقه الأكبر ، الرسالة ، العالم والمتعلّم ، والوصيّة » في مطبعة حيدرآباد عام ( 1321هـ ).
    وهذه المؤلّفات لا تتجاوز عن كونها بياناً للعقيدة وما يصحّ الإعتقاد به ، من دون أن تقترن بالدليل والبرهان ، ولكنّها تحوّلت من عقيدة إلى علم ، على يد ( الماتريدي ) فهو قد حقّق الاُصول في كتبه ، فكان هو متكلّم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنّة في بلاد ماوراء النّهر ، ولذلك سمّيت المدرسة باسمه ، وأصبح المتكلّمون على مذهب الإمام أبي حنيفة في بلاد ماوراء النّهر ، يسمّون بالماتريديّين ، واقتصر إطلاق اسم أبي حنيفة على
    1 ـ مقدمة اشارات المرام: ص 5 ـ 6.

(16)
    الأحناف المتخصّصين في مذهبه الفقهي (1).
    وفي ( مفتاح السعادة ) : « إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفيّ ، والآخر شافعي ، أمّا الحنفي: فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي ، وأمّا الآخر الشافعي: فهو شيخ السنّة أبوالحسن الأشعري البصري » (2).
    وفي حاشية الكستلي (3) على شرح العقائد النسفية (4) للتفتازاني: « المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار ، هم الأشاعرة ، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي ، تلميذ أبي بكر الجرجاني ، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة » (5).
    ويقول الزبيدي: « إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة ، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية » (6).
6 ـ المتخرّجون عليه:
    تخرّج عليه عدّة من العلماء منهم:
    أ ـ أبو القاسم إسحاق بن محمّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي ( ت 340 هـ )
    1 ـ مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 5 بقلم الدكتور فتح اللّه خليفة ـ ط 1392 هـ ـ ، وهو المراد من « التوحيد » كلما اطلق في هذا الفصل.
    2 ـ مفتاح السعادة ومصباح السيادة: ج 2 ص 22 ـ 23 طبعة حيدر آباد على ما في مقدمة محقق كتاب التوحيد للماتريدي.
    3 ـ هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني ( م 902 ).
    4 ـ وهذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر وغيره ، وما زال كذلك إلى يومنا هذا ، وهو بمنزلة « شرح الباب الحادي عشر » عند الامامية ، يعرض عقائد أهل السنة على مذهب الامام « الماتريدي » بشكل واضح.
    5 ـ بهامش شرح العقائد النسفية: ص 17.
    6 ـ اتحاف السادة المتقين بشرح أسرار احياء علوم الدين:تأليف محمد بن محمد بن الحسيني ، طبع القاهرة ج 2 ص 8.


(17)
    ب ـ الإمام أبواللّيث البخاري.
    ج ـ الامام أبومحمّد عبد الكريم بن موسى البزدوي ، جدّ محمّد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف ( اُصول الدين ).
    يقول حفيده: « ووجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة ، وكان من رؤساء أهل السنّة. حكى لي الشيخ الامام والدي ـ رحمه الله ـ عن جده الشيخ الامام الزاهد « عبد الكريم بن موسى » ـ رحمه الله ـ كراماته. فإنّ جدّنا كان أخذ معاني كتب أصحابنا ، وكتاب التوحيد ، وكتاب التأويلات من خلق (1) عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي ـ رحمه الله ـ إلا أنّ في كتاب التوحيد الذي صنّفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق و تطويل ، و في ترتيبه نوع تعسير لولا ذلك لاكتفينا به (2).
7 ـ أنصار مذهبه في الأجيال اللاحقة:
    إنّ للمنهج الكلاميّ الموروث من أبي منصور الماتريدي ، أنصاراً وأعواناً قاموا بإنضاج المذهب ونصرته ، ونشره وإشاعته ، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه مذهب الأشعري من الانتشار وكثرة الإقتفاء ، وإليك ذكر بعض أنصاره:
    1 ـ القاضي الإمام أبو اليسر محمّد بن محمّد بن الحسين عبد الكريم البزدوي ( المولود عام 421 هـ ، والمتوفّى في « بخارى » عام 478 هـ ) وقد عرفت كلامه في حقّ الماتريدي ، وسيوافيك بعض كلامه عند البحث عن فوارق المنهجين ، وقد ألّف كتاب اُصول الدين على غرار هذا المنهج ، وسيوافيك الإيعاز إليه.
    2 ـ أبوالمعين النسفي ( م 502 هـ ) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب فهو
    1 ـ ( كذا في النسخة ).
    2 ـ اُصول الدين للبزدوي: ص 3 و 155 ـ 158.


(18)
    عند الماتريديّة كالباقلاّني بين الأشاعرة ، مؤلّف كتاب « تبصرة الأدلّة » الذي مازال مخطوطاً حتّى الآن ، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب « التوحيد » للماتريدية الّذين جاءوا بعده (1).
    3 ـ الشيخ نجم الدّين أبو حفص عمر بن محمّد ( م 537 هـ ) مؤلف « عقائد النّسفي » ويقال إنّه بمنزلة الفهرس لكتاب « تبصرة الأدلّة » ومع ذلك ما زال هذا الكتاب محور الدّراسة في الأزهر ، وغيره ، إلى يومنا هذا ، كما تقدّم.
    4 ـ الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة ، والمنطق ، والكلام ، وهو شارح « عقائد النسفي » الّذي أُلّف على منهاج الإمام الماتريدي ، ولكن لم يتحقّق لي كونه ماتريديّاً ، بل الظاهر من شرح مقاصده كونه أشعريّاً. خصوصاً في مسألة خلق الأعمال ، وكونه سبحانه خالقاً ، والعبد كاسباً.
    5 ـ الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى عام 861 هـ ) صاحب كتاب « المسايرة » في علم الكلام. نشره وشرحه محمّد محيي الدين عبد الحميد وطبع بالقاهرة.
    6 ـ العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب « إشارات المرام من عبارات الإمام » أحد العلماء في القرن الحادي عشر وكتابه هذا أحد المصادر للماتريديّة.
    7 ـ وأخيراً الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة ، أحد الخبراء في الحديث ، والتاريخ ، والملل ، والنحل. له خدمات صادقة في نشر الثقافة الإسلاميّة ومكافحة الحشوية والوهابيّة ، ولكنّ الحنابلة يبغضونه وما هذا إلاّ لأنّ عقليّته لا تخضع لقبول كلّ ما ينقل باسم الحديث ولا سيّما فيما يرجع إلى الصفات الخبرية لله سبحانه الذي لا يفترق عن القول بالتشبيه والتجسيم قدر شعرة.
    1 ـ مقدمة التوحيد: ص 5.

(19)
8 ـ مؤلّفاته و آثاره العلميّة:
    سجّل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والامعان والتّحقيق ، غير أنّ الحوادث لعبت بها ، ولم يبق منها إلاّ ثلاثة ، وقد طبع منها اثنان:
    1 ـ « كتاب التوحيد » وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريدية وشيوخها الّذين جاءوا بعد الماتريدي ، واعتنقوا مذهبه ، وهو يستمدّ في دعم آرائه من الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل ، وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح اللّه خليف ( عام 1970 م ، 1390 هـ ) وطبع الكتاب في مطابع بيروت مع فهارسه في ( 412 ) صفحة وقد عرفت من البزدوي مؤلف « اُصول الدين » أنّ الكتاب لا يخلو من انغلاق في التّعبير ، وهو لائح منه لمن سبره.
    2 ـ « تأويلات أهل السنّة » في تفسير القرآن الكريم ، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنيّة ، وقد مزجه بآرائه الفقهية والاُصولية وآراء اُستاذه الإمام أبي حنيفة ، فصار بذلك تفسيراً عقيدياً فقهيّاً ، وهو تفسير عامّ لجميع السور ، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين ، إلى آخر القرآن ، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية ( 114 ) من سورة البقرة. حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين والسيد عوضين ، وطبع في القاهرة عام ( 390 هـ ) ، والمقارنة بين الكتابين تعرب عن وحدتهما في المنبع ، والتعبير ، والتركيب ، فمثلاً ما ذكره في تفسير قوله: ( رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) من الاستدلال على جواز الرؤية ، هو نفس ما ذكره في كتاب التوحيد ، إلى غير ذلك من المواضيع المشتركة بين الكتابين ، ولكنّ التفسير أسهل تناولاً ، وأوضح تعبيراً.
    وأمّا كتبه الاُخر فإليك بيانها:
    3 ـ المقالات: حكى محقّق كتاب ( التوحيد ) وجود نسخة مخطوطة منه في المكتبات الغربيّة.
    4 ـ مأخذ الشرايع ، 5 ـ الجدل في اُصول الفقه ، 6 ـ بيان وهم المعتزلة ، 7 ـ ردّ كتاب


(20)
     الاُصول الخمسة للباهلي ، 8 ـ كتاب ردّ الإمامة لبعض الروافض ، 9 ـ الردّ على اُصول القرامطة ، 10 ـ كتاب ردّ تهذيب الجدل للكعبي ، 11 ـ رد وعيد الفسّاق للكعبي أيضاً ، 12 ـ رد أوائل الأدلّة له أيضاً.
9 ـ الفرق بين المنهجين: الأشعرية والماتريدية:
    لا شكّ أنّ الإمامين ، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة ، والوقوف في وجه المعتزلة و ـ مع ذلك ـ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية ، فضلاً عن التّفاريع ، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد ، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر ، وقلّة العناية بالعقل والبرهان ، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله ، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع ، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.
    وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة ، ويعلو على ذلك المنهج ، الطّابع العقلي والإستدلال ، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي ، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات ، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول ، فضلاً عن الفروع ، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات ، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين ، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها:
    1 ـ قال أحمد أمين المصري: « لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية ، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات ، بعضها يشرح مذهب الماتريدي ك ـ ( العقائد النسفية ) لنجم الدين النسفي ، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري ك ـ ( السنوسية ) و ( الجوهرة ) ، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري ، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة ـ ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس