المبادىء
الموجودة في الفاعل الحكيم ، فالمتّصف بكلّ الكمال ، والمبرّأ عن كلّ سوء ، لايصدر
منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره ، ويمتنع صدور غيره عنه ، وليس هذا الامتناع
امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته ، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات
غير محدودتين ، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح ،
لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال ، وغنىُّ عن فعل القبح ، يترك
القبيح ولا يفعله ، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل
القبيح ، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين ، والتعبير بالإيجاب بملاك
الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا
المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين ، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه
مبدأ ذلك الإيجاب ، والعقل كاشفه ، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.
4 ـ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين
كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ ، فإنّ
أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي ، وأمّا الكيفيّة
فلا يستقلّ العقل بشيء منها ( على فرض كون الثّواب بالاستحقاق ). نعم ما ذكره من
أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً ، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه ،
والتّعذيب حقُّ له ، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر
المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك.
4 ـ
التكليف بما لا يطاق غير جائز: ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال:
« والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة:
( أَنْبِؤُني بِأسْماءِ
هؤلاءِ ) ( البقرة / 31 ) يعني أسماء الخلق ، وهم لا
يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في
محلّها (1).
1 ـ
لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب: 185.
(32)
والماتريدي مخالف
صنوه الداعي ويقول: « ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط ،
واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في ( التبصرة ) وأبوحامد الاسفرائيني
كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور » (1).
هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة ،
وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه « التوحيد » بين مضيِّع القدرة فيجوز
تكليفه ، وبين غيره فلا يجوز. قال: « إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل ،
وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله ، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا
يكلّف إلاّ من يطيع » (2).
يلاحظ عليه: 1 ـ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل ، كون الامتناع
بالإختيار غير مناف للإختيار ، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه
اختياراً ، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار ، ولكنّه لمّا كان
الإلقاء ـ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل ـ في اختياره ، يعدّ القتل فعلاً
اختياريّاً لا اضطراريّاً.
2 ـ أنّ من فقد القدرة ، وعجز عن القيام
بالعمل ، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره ، لا يصحّ تكليفه به عن جدّ ، لأنّ
فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية ، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع
الذهن ، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع ، والتنديد ،
وغيرهما.
وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع
قدرته يُعذَّب ، لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولكن
لا يصحّ تكليفه بعد الضياع ، للغويّة الخطاب واستهجانه ، وبذلك يظهر وهن برهان
المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع ، لما
عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب
1 ـ
اشارات المرام: ص 54 في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية
والأشعرية. 2 ـ
التوحيد: ص 266.
(33)
بالتضييع ،
لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة ، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار ،
لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً ، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين
بامتناع التكليف بما لايطاق ، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة ، وجعل نفسه في
عداد العجزة ، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة ، ومن ضيّعها ، ولما ضرب الجميع
بسهم واحد.
5 ـ
أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات: ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة
بالأغراض ، وأنّه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح عليه شيء ، واستدلّوا على ذلك بما
يلي: 1 ـ لو كان فعله تعالى لغرض ، لكان ناقصاً
لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح
له من عدمه ، وهو معنى الكمال (1).
وقالت الماتريديّة: أفعاله تعالى معلّلة
بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد ، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح
واختاره صاحب المقاصد (2).
هل
الغاية ، غاية للفاعل أو للفعل؟ إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض
الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله
معلّلة بالأغراض ، والغايات ، والدواعي ، والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون
الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات ، وغنيّاً في الصِّفات ،
وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً
ولغواً ، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى
شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو ، يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على
مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام ، لا إلى وجوده وذاته ، كما لا يخفى.
1 ـ
المواقف: ص 331. 2 ـ
اشارات المرام: ص 54.
(34)
تفسير العلة الغائية: العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة ،
يراد منها في مصطلح الحكماء ، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل ، ومن الامكان
إلى الوجوب ، ويكون مقدّمة صورة وذهناً ، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً ، فهي السبب
لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلاً النجّار لا
يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه ، ولولا تصوّر تلك الغاية لما
خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة ، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل ، وعلى هذا فللعلّة
الغائيّة دور في تحقّق المعلول ، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة ، لأجل تحريك
الفاعل نحو الفعل ، وسوقه إلى العمل.
ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى
في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات ، والوصف ، والفعل ، فكما أنّه تامّ
في مقام الوجود ، تامّ في مقام الفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ،
وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان ، الذي لايقوم بالايجاد والخلق ،
إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه ، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة ، مستكملاً
بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.
هذا ما ذكره الحكماء ، وهو حقّ لا غبار
عليه ، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن
أيّة غاية وغرض ، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين ، يفعل ( العياذ باللّه )
بلا غاية ، ويعمل بلا غرض ، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته
الأشاعرة واضح البطلان ، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى ، لا يلازم أن
لا يترتّب على فعله مصالح وحكم ينتفع بها العباد ، وينتظم بها النظام ، وإن لم
تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ، والفاعل
الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما يضادّه
ويخالفه.
(35)
وبعبارة ثانية ، لا نعني من ذلك
أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية ،
فيقوم بهذا دون ذاك ، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين ، لا يختار منهما إلاّ
ما يوافق شأنه ، ويناسب حكمته ، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور ، فليس
يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور ، بل يعنى أنّه
تام القادريّة لكلا العملين ، لكن عدله ، وحكمته ، ورأفته ، ورحمته ، تقتضي أن يختار
هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.
هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا
تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة ، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم
من دون أن يكون هناك استكمال.
دليل ثان للأشاعرة: ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة
في المقام ، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل ، وأنّها غير
راجعة إلى الفاعل ، بل إلى العباد والنّظام ، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه
وإليك نصّ كلامهم:
1 ـ « فان قيل: لانسلّم الملازمة ، فإنّما
الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.
قيل له: نفع غيره والاحسان إليه إن كان
أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الالزام ، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك
النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح ، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً ، أو
مرجوحاً ، لم يصلح أن يكون غرضاً له » (1).
وقد جاء بنفس هذا البيان « الفضل بن
روزبهان » في ردّه على « نهج الحقّ » للعلاّمة الحلّي وقال:
« إنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو
أصلح له من عدمه ، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل ، أو كان
وجوده مرجوحاً بالقياس إليه ، لا يكون باعثاً
1 ـ
المواقف: ص 332.
(36)
على الفعل ،
وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة ، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح
للفاعل ، وأليق به من عدمه ، فهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده ،
ناقصاً بدونه » (1).
يلاحظ عليه: أنّ المراد من الأصلح
والأولى به ، ما يناسب شؤونه ، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه ، كما أنّ كلّ
فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه ، فتفسير الأصلح والأولى بما
يفيده ويكمِّله ، تفسير في غير موضعه.
ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح
والأولى ، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته ، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه
إيجاد الأصلح والأولى ، بل مقتضى كماله وحكمته ، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح
والأولى ، ويترك اللّغو والعبث ، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة
ومن أبرزها كونه حكيماً ، صار مقتضى ذلك الوصف ، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه ،
فأين هو من حديث الاستكمال ، والاستفادة ، والالزام ، والافراض ، كلّ ذلك يعرب عن
أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف
الآخر.
والحاصل ، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة
بالنسبة إلى كلا الفعلين: الفعل المقترن مع الحكمة ، والخالي عنها ، وذلك لعموم
قدرته سبحانه للحسن والقبيح ، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ
فعله بالأوّل ، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان: حسن وقبيح. مثلاً ، اللّه سبحانه
قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه ، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكلّ ، ولكن لا
يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح ، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص
الحسن دون القبيح ( على القول بهما ) كونه ناقصاً في الفاعليّة ، فهكذا القول
بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها ، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا
مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح ، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى
استكماله أو استفادته منه ، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات
الكماليّة ،
1 ـ
دلائل الصدق: ج 1 ص 233.
(37)
المنزهة عن
خلافها ، فجماله وكماله ، وترفّعه عن ارتكاب القبيح ، يطلب الفعل المناسب له ، وهو
المقارن للحكمة ، والتجنّب عن مخالفتها.
والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل
فهو كامل بلانهاية ، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة و أين هو من
الاستكمال.
دليل ثالث للأشاعرة: وهناك دليل ثالث لهم حاصله: أنّ غرض الفعل خارج عنه ،
يحصل تبعاً له وبتوسّطه ، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ، فلا يكون
شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له ، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به ، ليصلح
غرضاً لذلك الفعل ، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض (1).
وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة
ويقول: لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت
المطلوب ، أو لا فيتسلسل وهو محال.
يلاحظ عليه: ـ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره
إلى الكون ، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر ، فالغاية من
ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها ، وأمّا الغاية في خلق
العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه ، وكمال
بارئه.
إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى
هناك أوائل الأفعال ، وثوانيها ، وثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي ،
ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل
بالذات ، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في
وجوده.
هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر
التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر
1 ـ
المواقف: ص 322.
(38)
الجملي ، فالغاية
للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد
في الدليل ، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه
وأجزائه إلى الكمال الممكن ، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة
في نفس النظام ، ويعدّ صورة فعليّة له ، فالله سبحانه خلق النظام ، وأوجد فعله
المطلق ، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن
يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام ، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه
الغاية حتّى تتسلسل ، أو تصل إلى موجود لا غاية له.
وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله ، غاية
ذاتيّة ، لأنّه عمل جميل بالذات ، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا ، لأنّه
حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن ، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن
الأمر الجميل بالذات.
فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع
النظام ، لقلنا: بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله
الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن ،
لكان السؤال جزافياً ساقطاً ، لأنّ العمل الحسن بالذات ، يليق أن يفعل ، والغاية
نفس وجوده.
فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن ،
وإبلاغه إلى كماله فيض آخر ، يتمّ به الفيض الأوّل ، فالمجموع فيض من الفيّاض
تعالى إلى الفقير المحتاج ، ولا ينقص من خزائنه شيء ، فأيّ كمال أحسن وأبدع من
هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك ، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل
لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ الجواب ، مستتر في نفس السؤال وهو
أنّه فعله لأنّه حسن بالذات ، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية ، ولا يحتاج إلى
غاية اُخرى.
ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال:
إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له: لماذا تبذل الجهود في طريق
تحصيلك؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ما هي
الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في
(39)
إحدى المراكز
الصناعية ، أو العلميّة ، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ماهي
الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو
سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش ، لوجدنا السؤال
جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها ، غايات عرضية لهذه الغاية
المطلوبة بالذات ، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.
القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة:
والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص
الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / 115 ) وقال
عزّ من قائل: ( وما خَلَقْنَا
السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين )
( الدخان / 38 ).
وقال سبحانه: ( وَ مَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأرضَ وَ مَا
بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ( ص / 27 ) وقال سبحانه:
( وَ مَا خَلَقْتُ
الجِنَّ وَ الإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون )
( الذاريات / 56 ) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله ، وتصرّح
باقترانها بالحكمة والغرض.
وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين
اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله
سبحانه ولا مؤوّليها ، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية ، أو تأويلها ، وهم
يفرّون منه ، وينسبونه إلى مخالفيهم.
عطف
مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة: ومن الخطأ الواضح ، عطف مذهب الحكماء على مذهب
الأشاعرة ، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة
بالأغراض ، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول: « إنّ من
المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة ، مع أنّك قد
علمت أنّ للطّبيعة غايات » (1) وقال أيضاً:
1 ـ
الأسفار: ج 2 ، ص 59.
(40)
« إنّ الحكماء ما
نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً ، بل إنّما نفوا عن فعله المطلق
( إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة ) وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته
تعالى ، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة ، والمقيّدة ، فأثبتوا لكلّ منها
غاية مخصوصة. كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها كما يعلم
من مباحث الفلكيّات ، ومباحث الأمزجة ، والمركّبات ، وعلم التشريح ، وعلم الأدوية ،
وغيرها » (1).
وعلى ذلك فنظريّة الحكماء تتلخّص في
أمرين:
1 ـ إنّ أفعاله سبحانه غير متّصفة بالعبث
واللّغو ، وإنّ هنا مصالح وحِكَماً تترتّب على فعله ، يستفيد بها العباد ، ويقوم
بها النّظام.
2 ـ إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه
الإطلاق ، فليس لفعله غرض خارج عن ذاته ، لأنّ المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني
جملة واحدة ، والغرض الخارج عن الذّات لو كان أمراً موجوداً فهو داخل في الوجود
الإمكاني ، وليس شيء وراءه ، وعند ذاك فليس الغرض شيئاً خارجاً عن الذات وإنّما
الغرض نفس ذاته ، لئلاّ يكون ناقص الفاعليّة ، لأنّ الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته
في القيام بالفعل ، آية كونه ناقصاً في الفاعليّة ، والمفروض أنّه سبحانه تامّ في
فاعليّته ، غنيّ في ذاته وفعله عن كل شيء سوى ذاته.
ثمّ إنّ لهم بياناً فلسفيّاً ممزوجاً
بالدليل العرفاني ، يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه ، وبه فسّروا
قوله سبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) وقوله في الحديث
القدسي: « كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ ، فخلقت الخلقَ لكي أُعرف » والله
سبحانه هو غاية الغايات ، ومن أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى
أسفارهم (2).
1 ـ
الأسفار: ج 7 ، ص 84. 2 ـ
الأسفار: ج 2 ص 263.