بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 31 ـ 40
(31)
     المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم ، فالمتّصف بكلّ الكمال ، والمبرّأ عن كلّ سوء ، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره ، ويمتنع صدور غيره عنه ، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته ، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين ، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح ، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال ، وغنىُّ عن فعل القبح ، يترك القبيح ولا يفعله ، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين ، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين ، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب ، والعقل كاشفه ، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.
    4 ـ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي ، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها ( على فرض كون الثّواب بالاستحقاق ). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً ، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه ، والتّعذيب حقُّ له ، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك.

4 ـ التكليف بما لا يطاق غير جائز:
    ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال: « والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة: ( أَنْبِؤُني بِأسْماءِ هؤلاءِ ) ( البقرة / 31 ) يعني أسماء الخلق ، وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في محلّها (1).
    1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب: 185.

(32)
    والماتريدي مخالف صنوه الداعي ويقول: « ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في ( التبصرة ) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور » (1).
    هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة ، وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه « التوحيد » بين مضيِّع القدرة فيجوز تكليفه ، وبين غيره فلا يجوز. قال: « إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل ، وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله ، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلاّ من يطيع » (2).
يلاحظ عليه:
    1 ـ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل ، كون الامتناع بالإختيار غير مناف للإختيار ، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه اختياراً ، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار ، ولكنّه لمّا كان الإلقاء ـ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل ـ في اختياره ، يعدّ القتل فعلاً اختياريّاً لا اضطراريّاً.
    2 ـ أنّ من فقد القدرة ، وعجز عن القيام بالعمل ، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره ، لا يصحّ تكليفه به عن جدّ ، لأنّ فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية ، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع الذهن ، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع ، والتنديد ، وغيرهما.
    وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع قدرته يُعذَّب ، لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولكن لا يصحّ تكليفه بعد الضياع ، للغويّة الخطاب واستهجانه ، وبذلك يظهر وهن برهان المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع ، لما عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب
    1 ـ اشارات المرام: ص 54 في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية.
    2 ـ التوحيد: ص 266.


(33)
     بالتضييع ، لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة ، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار ، لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً ، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين بامتناع التكليف بما لايطاق ، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة ، وجعل نفسه في عداد العجزة ، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة ، ومن ضيّعها ، ولما ضرب الجميع بسهم واحد.

5 ـ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:
    ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض ، وأنّه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح عليه شيء ، واستدلّوا على ذلك بما يلي:
    1 ـ لو كان فعله تعالى لغرض ، لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الكمال (1).
    وقالت الماتريديّة: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد ، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد (2).
هل الغاية ، غاية للفاعل أو للفعل؟
    إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض ، والغايات ، والدواعي ، والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات ، وغنيّاً في الصِّفات ، وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً ، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو ، يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام ، لا إلى وجوده وذاته ، كما لا يخفى.
    1 ـ المواقف: ص 331.
    2 ـ اشارات المرام: ص 54.


(34)
تفسير العلة الغائية:
    العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة ، يراد منها في مصطلح الحكماء ، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل ، ومن الامكان إلى الوجوب ، ويكون مقدّمة صورة وذهناً ، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلاً النجّار لا يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه ، ولولا تصوّر تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة ، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل ، وعلى هذا فللعلّة الغائيّة دور في تحقّق المعلول ، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة ، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل ، وسوقه إلى العمل.
    ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات ، والوصف ، والفعل ، فكما أنّه تامّ في مقام الوجود ، تامّ في مقام الفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ، وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان ، الذي لايقوم بالايجاد والخلق ، إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه ، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة ، مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.
    هذا ما ذكره الحكماء ، وهو حقّ لا غبار عليه ، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن أيّة غاية وغرض ، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين ، يفعل ( العياذ باللّه ) بلا غاية ، ويعمل بلا غرض ، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته الأشاعرة واضح البطلان ، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى ، لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح وحكم ينتفع بها العباد ، وينتظم بها النظام ، وإن لم تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه.


(35)
    وبعبارة ثانية ، لا نعني من ذلك أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية ، فيقوم بهذا دون ذاك ، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين ، لا يختار منهما إلاّ ما يوافق شأنه ، ويناسب حكمته ، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور ، فليس يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور ، بل يعنى أنّه تام القادريّة لكلا العملين ، لكن عدله ، وحكمته ، ورأفته ، ورحمته ، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.
    هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة ، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم من دون أن يكون هناك استكمال.
دليل ثان للأشاعرة:
    ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة في المقام ، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل ، وأنّها غير راجعة إلى الفاعل ، بل إلى العباد والنّظام ، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه وإليك نصّ كلامهم:
    1 ـ « فان قيل: لانسلّم الملازمة ، فإنّما الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.
    قيل له: نفع غيره والاحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الالزام ، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح ، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً ، أو مرجوحاً ، لم يصلح أن يكون غرضاً له » (1).
    وقد جاء بنفس هذا البيان « الفضل بن روزبهان » في ردّه على « نهج الحقّ » للعلاّمة الحلّي وقال:
     « إنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه ، لا يكون باعثاً
    1 ـ المواقف: ص 332.

(36)
     على الفعل ، وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة ، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل ، وأليق به من عدمه ، فهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده ، ناقصاً بدونه » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ المراد من الأصلح والأولى به ، ما يناسب شؤونه ، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه ، كما أنّ كلّ فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه ، فتفسير الأصلح والأولى بما يفيده ويكمِّله ، تفسير في غير موضعه.
    ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى ، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته ، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه إيجاد الأصلح والأولى ، بل مقتضى كماله وحكمته ، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح والأولى ، ويترك اللّغو والعبث ، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة ومن أبرزها كونه حكيماً ، صار مقتضى ذلك الوصف ، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه ، فأين هو من حديث الاستكمال ، والاستفادة ، والالزام ، والافراض ، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف الآخر.
    والحاصل ، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة بالنسبة إلى كلا الفعلين: الفعل المقترن مع الحكمة ، والخالي عنها ، وذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن والقبيح ، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ فعله بالأوّل ، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان: حسن وقبيح. مثلاً ، اللّه سبحانه قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه ، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكلّ ، ولكن لا يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح ، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح ( على القول بهما ) كونه ناقصاً في الفاعليّة ، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها ، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح ، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه ، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكماليّة ،
    1 ـ دلائل الصدق: ج 1 ص 233.

(37)
     المنزهة عن خلافها ، فجماله وكماله ، وترفّعه عن ارتكاب القبيح ، يطلب الفعل المناسب له ، وهو المقارن للحكمة ، والتجنّب عن مخالفتها.
    والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل فهو كامل بلانهاية ، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة و أين هو من الاستكمال.
دليل ثالث للأشاعرة:
    وهناك دليل ثالث لهم حاصله: أنّ غرض الفعل خارج عنه ، يحصل تبعاً له وبتوسّطه ، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له ، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به ، ليصلح غرضاً لذلك الفعل ، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض (1).
    وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة ويقول: لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت المطلوب ، أو لا فيتسلسل وهو محال.
    يلاحظ عليه: ـ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره إلى الكون ، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر ، فالغاية من ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها ، وأمّا الغاية في خلق العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه ، وكمال بارئه.
    إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى هناك أوائل الأفعال ، وثوانيها ، وثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي ، ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل بالذات ، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في وجوده.
    هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر
    1 ـ المواقف: ص 322.

(38)
    الجملي ، فالغاية للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل ، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه وأجزائه إلى الكمال الممكن ، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة في نفس النظام ، ويعدّ صورة فعليّة له ، فالله سبحانه خلق النظام ، وأوجد فعله المطلق ، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام ، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه الغاية حتّى تتسلسل ، أو تصل إلى موجود لا غاية له.
    وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله ، غاية ذاتيّة ، لأنّه عمل جميل بالذات ، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا ، لأنّه حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن ، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.
    فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع النظام ، لقلنا: بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن ، لكان السؤال جزافياً ساقطاً ، لأنّ العمل الحسن بالذات ، يليق أن يفعل ، والغاية نفس وجوده.
    فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن ، وإبلاغه إلى كماله فيض آخر ، يتمّ به الفيض الأوّل ، فالمجموع فيض من الفيّاض تعالى إلى الفقير المحتاج ، ولا ينقص من خزائنه شيء ، فأيّ كمال أحسن وأبدع من هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك ، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ الجواب ، مستتر في نفس السؤال وهو أنّه فعله لأنّه حسن بالذات ، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية ، ولا يحتاج إلى غاية اُخرى.
    ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال: إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له: لماذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في


(39)
     إحدى المراكز الصناعية ، أو العلميّة ، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ماهي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش ، لوجدنا السؤال جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها ، غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات ، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.
    القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة:
    والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / 115 ) وقال عزّ من قائل: ( وما خَلَقْنَا السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين ) ( الدخان / 38 ).
    وقال سبحانه: ( وَ مَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأرضَ وَ مَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ( ص / 27 ) وقال سبحانه: ( وَ مَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) ( الذاريات / 56 ) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله ، وتصرّح باقترانها بالحكمة والغرض.
    وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه ولا مؤوّليها ، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية ، أو تأويلها ، وهم يفرّون منه ، وينسبونه إلى مخالفيهم.
عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة:
    ومن الخطأ الواضح ، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة ، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة بالأغراض ، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول: « إنّ من المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة ، مع أنّك قد علمت أنّ للطّبيعة غايات » (1) وقال أيضاً:
    1 ـ الأسفار: ج 2 ، ص 59.

(40)
     « إنّ الحكماء ما نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً ، بل إنّما نفوا عن فعله المطلق ( إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة ) وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى ، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة ، والمقيّدة ، فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة. كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها كما يعلم من مباحث الفلكيّات ، ومباحث الأمزجة ، والمركّبات ، وعلم التشريح ، وعلم الأدوية ، وغيرها » (1).
    وعلى ذلك فنظريّة الحكماء تتلخّص في أمرين:
    1 ـ إنّ أفعاله سبحانه غير متّصفة بالعبث واللّغو ، وإنّ هنا مصالح وحِكَماً تترتّب على فعله ، يستفيد بها العباد ، ويقوم بها النّظام.
    2 ـ إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه الإطلاق ، فليس لفعله غرض خارج عن ذاته ، لأنّ المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني جملة واحدة ، والغرض الخارج عن الذّات لو كان أمراً موجوداً فهو داخل في الوجود الإمكاني ، وليس شيء وراءه ، وعند ذاك فليس الغرض شيئاً خارجاً عن الذات وإنّما الغرض نفس ذاته ، لئلاّ يكون ناقص الفاعليّة ، لأنّ الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته في القيام بالفعل ، آية كونه ناقصاً في الفاعليّة ، والمفروض أنّه سبحانه تامّ في فاعليّته ، غنيّ في ذاته وفعله عن كل شيء سوى ذاته.
    ثمّ إنّ لهم بياناً فلسفيّاً ممزوجاً بالدليل العرفاني ، يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه ، وبه فسّروا قوله سبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) وقوله في الحديث القدسي: « كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ ، فخلقت الخلقَ لكي أُعرف » والله سبحانه هو غاية الغايات ، ومن أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى أسفارهم (2).
    1 ـ الأسفار: ج 7 ، ص 84.
    2 ـ الأسفار: ج 2 ص 263.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس