بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 21 ـ 30
(21)
     أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً ، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي » (1).
    والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر ، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي « التوحيد والتفسير » و آراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع ، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً ، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب ، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا ، على خلاف ما ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى ، ومعرفة وحدانيّته ، واتّصافه بما يليق ، وكونه محدثاً للعالم ، كما روي ذلك عن أبي حنيفة ، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان ، ولا يحرم كفر قبل البعث.
    فإذا (2) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري ، فهناك من ذهب إلى خلافه ، وإليك البيان:
    2 ـ قال أبو زهرة: « إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف ، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل ، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث ، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة ، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع ، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان ، ذا أقسام أربعة ، فعلى طرف منه المعتزلة ، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث ، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة ، الماتريديّة ، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين ، الأشاعرة » (3).
    يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان ، مع أنّ بين
    1 ـ ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 ـ 95.
    2 ـ المصدر نفسه.
    3 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.


(22)
     أهل الحديث طوائف المشبِّهة ، والمجسِّمة ، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء ، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً ، وإنزال الكتب عبثاً ، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي ( عليه السلام ) في خطبة بقوله « وأهل الأرض يومئذ ( يوم بعث النّبي الأكرم ) ملل متفرِّقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتّتة ، بين مشبِّه للّه بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير به إلى غيره » (1).
    ويا للعجب! إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع ، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم ، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى ). ( الشورى / 23 ) ؟!! وعرّفهم رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه ، وقال: « إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي » (2).
    وقد عرف الأبكم والأصمّ ـ فضلاً عن غيرهما ـ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب ، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج ، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب ، والسنّة ، والعقل السليم ، فما معنى هذا التقسيم؟ « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » و « تلك إذاً قسمة ضيزى » ، « أهم يقسمون رحمة ربّك... ».
    3 ـ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري: « الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة ، وقلّما يوجد بينهم متصوّف ، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها ، لهم كتب لا تحصى ، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي » (3).
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً ،
    1 ـ نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25.
    2 ـ حديث متفق عليه رواه الفريقان.
    3 ـ مقدمة تبيين كذب المفتري: ص 19.


(23)
     كما سيأتي عند عرض مذهبهم ، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان ، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين ، أمراً لفظيّاً ، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.
    4 ـ قال محقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي ، في مقدّمته: « إنّ شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين » (1).
    ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح ، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة ، أو مجازاً ، اختلافاً جوهريّاً ، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته ، أو زائدة عليه ، أو جواز التّكليف بما لايطاق ، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده ، وتفسيره ، وكتب أنصاره ، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين ، واختلافهما.
    وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي ، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس ، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال:
     « وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة ، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي ، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها » (2) وذكر بعد ذلك ، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث ، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما ، بين موجز في الكلام ، ومسهب فيه ، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل ، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال:
    أ ـ اُصول الدين للامام البزدوي ، قال فيه تحت عنوان « ما خالف أبو الحسن
    1 ـ مقدمة التوحيد ، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18.
    2 ـ اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.


(24)
    الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة ».
    1 ـ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه تعالى أفعالاً ، وهي الخلق ، والرزق ، والرحمة ، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها ، وأفعال اللّه ليست بحادثة ، ولامحدثة ، ولا ذات الله ، ولا غير الله تعالى ، كسائر الصِّفات.
    وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل ، وقال: الفعل والمفعول واحد ، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة ، وعليه عامّة أصحابه ، وهو خطأ محض (1).
    2 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي والكفر ليست برضى اللّه ، ولا محبّته ، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.
    وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي ، ويحبّها ، وهو خطأ محض أيضاً.
    3 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب ، والإقرار باللّسان ، وقال أبو الحسن: إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب ، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض ، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.
    وذكر أبوالحسن في كتاب « المقالات » مذهب أهل الحديث ، ثمّ قال: وبه نأخذ ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل ، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا ، فكان حبّه (2) في هذه المسائل قولان ، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.
    وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع ، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب (3).
    1 ـ سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم.
    2 ـ كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء.
    3 ـ اُصول الدين للبزدوي: ص 245 ـ 246.


(25)
    ب ـ « إشارات المرام من عبارات الامام » تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر ، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة (1).
    ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف ب ـ « شيخ زاده » طبع في القاهرة ( عام 1317 هـ ).
    د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة ، طبع في حيدرآباد ( عام 1332 هـ ).
    هـ : خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين ، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة ، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة ( بالرقم 3441ج ) (2).
    و: قصيدة في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي ، مؤلّف ( طبقات الشافعيّة الكبرى ) المطبوعة بمصر ( عام 1324 هـ ) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم ( 202 ) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية (3).
    وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً ، لا لفظيّاً ، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة ، الموجودة بين المنهجين ، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.

10 ـ عرض مذهب الماتريدي:
    ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول ، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل الحديث والأشعري ، وقد عرضنا
    1 ـ اشارات المرام: ص 53 ـ 56.
    2 ـ انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.
    3 ـ انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.


(26)
     عقائدهم في الجزء الأول من هذه السلسلة ، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق فيها عن الأشعري ، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما يتدرّع به الأشعري ، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية ، فإنّ القول برؤيته في النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان ، ومن أجل ذلك قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد ، وهو أنّ الرؤية تقع « بلا كيف » أو ما يفيد ذلك ، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.
    قال ابن عساكر: « قالت الحشويّة المشبِّهة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقاً بينهما فقال: يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، كما يرانا هو سبحانه وتعالى ، وهو غير محدود ، ولا مكيّف » (1).
    وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع الرؤية عند عرض عقائده (2).
    وقال الماتريدي في ذلك البحث: « فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف ، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود ، واتّكاء وتعلّق ، واتّصال وانفصال ، ومقابلة ومدابرة ، وقصير وطويل ، ونور وظلمة ، وساكن ومتحرِّك ، ومماسّ ومباين ، وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدره العقل ، لتعاليه عن ذلك » (3).
    يلاحظ عليه: أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات إنكار لها ، وأشبه بالأسد بلا ذنب ، ولارأس.
    والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في كثير من المسائل الكلاميّة ، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث:
    1 ـ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، ومجالاً أوسع ، وذلك هو الحجر الأساس
    1 ـ تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 ـ 150.
    2 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 201.
    3 ـ التوحيد للماتريدي: ص 85.


(27)
     للسمتين الأخيرتين.
    2 ـ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه والتّجسيم من الأشعري ، وأقرب إلى التّنزيه.
    3 ـ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على المعتزلة ، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.
    وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في مختلف المسائل ، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف ، نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.

1 ـ استيلاؤه على العرش:
    اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى ، ومنها استيلاؤه على العرش ، والأشعري يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل ، وأنّ الله حقيقةً مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له ، ويقول: « إنّ الله مستو على العرش الّذي فوق السّماوات » ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول: « يستوي على عرشه كما قال ، يليق به من غير طول الإستقرار » ويستشهد بما روي عن رسول الله: إذا بقي ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى ، فيقول: من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له (1).
    وعلى ضوء هذا فالأشعري ممّن يثبت الصفات الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه ، غاية الأمر يتدرّع بلفظة « على نحو يليق به » أو « بلا كيف » كما في الموارد الاُخر ، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه بالصفات الخبريّة ، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه ، فهو يفارق الأشعري في التّفويض وعدمه ، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه ، فالأشعري من المثبتة بلا تفويض وتأويل ، وهو من المثبتة مع التّفويض ، كما أنّ المعتزلة
    1 ـ الابانة: ص 85.

(28)
     من المؤوِّلة ، وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزليّ ، وإليك نصّه في مورد استوائه على العرش:
    قال: « وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء » فنفى عن نفسه شبه خلقه ، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه ، فيجب القول ب ـ ( الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ) على ما جاء به التنزيل ، وثبت ذلك في العقل ، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء ، لاحتماله غيره مما ذكرنا ، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير محتمل شبه الخلق ، ونؤمن بما أراد اللّه به ، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه ، نحو الرؤية وغير ذلك ، يجب نفي الشبه عنه ، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (1).

2 ـ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:
    اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله ، واختلفا في طريق ثبوت هذا الوجوب ، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعيّ ، والمعتزلة على أنّه عقليّ ، قال العضدي في المواقف: النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً ، واختلف في طريق ثبوته ، فهو عند أصحابنا السمع ، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم مسلكان:
    الأوّل: الاستدلال بالظّواهر مثل قوله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) إلى آخره (2).
    ولا يخفى وهن النّظرية ، لاستلزامها الدور ، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب ، فإنّ من لا نعرفه بوجه من الوجوه ، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب ، لزم الدور.
    وأيضاً: لو كانت المعرفة تجب بالأمر ، فهو إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره ،
    1 ـ التوحيد للماتريدي: ص 74.
    2 ـ المواقف: ص 28 وشرحها ج 1 ص 124و الآية 101 من سورة يونس..



(29)
     فالأوّل تحصيل للحاصل ، وأمّا الثاني ، فهو باطل ، لاستحالة خطاب الغافل ، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة ، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.
    هذا ما عليه الأشاعرة ، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي: « ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال ، معرفة وجوده ، ووحدته ، وعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحدوث العالم ، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول ، ويجب تصديقه ، ويحرم الكفر ، والتّكذيب به ، لا من البعثة وبلوغ الدعوة » (1).
    القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي ، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.

3 ـ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:
    إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية ، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما ، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط ، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة (2). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف ، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.
    قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب ، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده ( أبي منصور الماتريدي ) إجمالاً عقلي ، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة (3). كما في التوضيح وغيره ، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح ، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة ، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه
    1 ـ اشارات المرام: فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص 53.
    2 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 310 ـ 332.
    3 ـ اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.


(30)
     بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار ، فشرعي ، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي ، والصيرفي ، وأبو بكر الفارسي ، والقاضي أبو حامد ، وكثير من متقدّميهم ، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير ، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في ( التبصرة البغدادية ). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان ، وحرمة الكفر واختاره المذكورون ـ إلى أن قال: ـ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي ، فلا يجوز تعذيب المطيع ، ولا العفو عن الكفر ، عقلاً ، لمنافاته للحكمة ، فيجزم العقل بعدم جوازه ، كما في التنزيهات (1).
    وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه:
    1 ـ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال ، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ ، وفاعل الآخر الذمَّ ، سواء أكان الفاعل بشراً ، أم انساناً ، أم ملكاً ، أم غيرهما ، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.
    2 ـ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً ، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع ، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله (2).
    3 ـ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح ، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه ، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق ، يجعل العقل موجِباً ومكلِّفاً ـ بالكسر ـ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً ـ بالفتح ـ ، لأنّ شأن العقل هو الادراك ، ومعنى إيجابه القيام بالحسن ، والاجتناب عن ضدّه ، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى
    1 ـ اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة ، ص 54.
    2 ـ اللمع: ص 116.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس