أظهر في
الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً ، واستشهد على ذلك بأنّ
الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون
الماتريدي » (1).
والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو
القلم وسهوالفكر ، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي « التوحيد والتفسير » و آراء
تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع ،
فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً ، والماتريدي على العكس كما ستوافيك
نصوص القوم عند عرض المذهب ، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا ، على
خلاف ما ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً
لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى ، ومعرفة وحدانيّته ، واتّصافه بما يليق ، وكونه
محدثاً للعالم ، كما روي ذلك عن أبي حنيفة ، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب
إيمان ، ولا يحرم كفر قبل البعث.
فإذا (2) كان أحمد أمين قائلاً
بغلبة لون الإعتزال على الأشعري ، فهناك من ذهب إلى خلافه ، وإليك البيان:
2 ـ قال أبو زهرة: « إنّ منهاج الماتريدية
للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف ، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل
ويؤيِّدونه بالعقل ، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين
الإعتزال وأهل الفقه والحديث ، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة ،
فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع ، والّتي لا خلاف
بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان ، ذا أقسام أربعة ، فعلى طرف منه
المعتزلة ، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث ، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة ،
الماتريديّة ، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين ، الأشاعرة » (3).
يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء
كلّهم من أهل الايمان ، مع أنّ بين
1 ـ
ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 ـ 95. 2 ـ
المصدر نفسه. 3 ـ
تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.
(22)
أهل الحديث
طوائف المشبِّهة ، والمجسِّمة ، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث
الأنبياء ، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً ، وإنزال الكتب عبثاً ،
من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة
الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي ( عليه السلام ) في خطبة بقوله « وأهل الأرض
يومئذ ( يوم بعث النّبي الأكرم ) ملل متفرِّقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتّتة ،
بين مشبِّه للّه بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير به إلى
غيره » (1).
ويا للعجب! إذا قسّم أبو زهرة ساحة
الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع ، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه
الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم ، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في
القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: (
قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في
القُرْبى ). ( الشورى / 23 ) ؟!! وعرّفهم رسول اللّهصلَّى
الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه ، وقال: « إنّي تارك فيكم
الثّقلين: كتاب الله وعترتي » (2).
وقد عرف الأبكم والأصمّ ـ فضلاً عن
غيرهما ـ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب ، ولا كانوا مقتفين
لأحد هذه المناهج ، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب ، والسنّة ، والعقل
السليم ، فما معنى هذا التقسيم؟ « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » و « تلك إذاً قسمة
ضيزى » ، « أهم يقسمون رحمة ربّك... ».
3 ـ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري:
« الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة ، وقلّما يوجد بينهم متصوّف ،
فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها ،
لهم كتب لا تحصى ، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل
اللّفظي » (3).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ
الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً ،
1 ـ
نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25. 2 ـ
حديث متفق عليه رواه الفريقان. 3 ـ
مقدمة تبيين كذب المفتري: ص 19.
(23)
كما سيأتي عند
عرض مذهبهم ، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان ، إذ كيف يكون
النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين ، أمراً لفظيّاً ، مع أنّه تترتّب على
الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل
الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.
4 ـ قال محقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي ،
في مقدّمته: « إنّ شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد ، في أهمّ
مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق
المتكلّمين » (1).
ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين
والتّقبيح ، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة ، أو مجازاً ، اختلافاً جوهريّاً ،
كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته ، أو زائدة عليه ، أو جواز التّكليف
بما لايطاق ، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده ،
وتفسيره ، وكتب أنصاره ، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين ، واختلافهما.
وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام
البزدوي ، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس ، وكان جدّ والده أحد تلاميذه.
قال: « وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه
يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة ، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي ،
وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها » (2)
وذكر بعد ذلك ، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث ، وسيوافيك
نصّه! ولأجل وجود الإختلاف
الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما ،
بين موجز في الكلام ، ومسهب فيه ، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل ، وإليك ما وقفنا
عليه في هذا المجال:
أ ـ اُصول الدين للامام البزدوي ، قال فيه
تحت عنوان « ما خالف أبو الحسن
1 ـ
مقدمة التوحيد ، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18. 2 ـ
اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.
(24)
الأشعري عامّة
أهل السنّة والجماعة ».
1 ـ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه
تعالى أفعالاً ، وهي الخلق ، والرزق ، والرحمة ، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها ،
وأفعال اللّه ليست بحادثة ، ولامحدثة ، ولا ذات الله ، ولا غير الله تعالى ، كسائر
الصِّفات.
وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه
تعالى فعل ، وقال: الفعل والمفعول واحد ، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة ، وعليه
عامّة أصحابه ، وهو خطأ محض (1).
2 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي
والكفر ليست برضى اللّه ، ولا محبّته ، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.
وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى
بالكفر والمعاصي ، ويحبّها ، وهو خطأ محض أيضاً.
3 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ
الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب ، والإقرار باللّسان ، وقال أبو الحسن: إنّ
الايمان هو التّصديق بالقلب ، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض ، وهو خطأ أيضاً.
وشرّ مسائله مسألة الأفعال.
وذكر أبوالحسن في كتاب « المقالات » مذهب
أهل الحديث ، ثمّ قال: وبه نأخذ ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل
مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل
السنّة والجماعة في هذه المسائل ، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا ،
فكان حبّه (2) في هذه المسائل قولان ، فكأنّه رجع عن هذه المسائل
الثّلاث.
وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع ،
وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب (3).
1 ـ
سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم. 2 ـ
كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء. 3 ـ
اُصول الدين للبزدوي: ص 245 ـ 246.
(25)
ب ـ « إشارات
المرام من عبارات الامام » تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن
الحادي عشر ، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين
مسألة (1).
ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان
المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم
بن علي المعروف ب ـ « شيخ زاده » طبع في القاهرة ( عام 1317 هـ ).
د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة
والماتريديّة تأليف أبي عذبة ، طبع في حيدرآباد ( عام 1332 هـ ).
هـ : خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين ،
وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة ، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار
الكتب المصريّة ( بالرقم 3441ج ) (2).
و: قصيدة في الخلاف بين الأشعريّة
والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي ، مؤلّف ( طبقات الشافعيّة الكبرى ) المطبوعة
بمصر ( عام 1324 هـ ) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم ( 202 ) المصوّرة عن مخطوطة
جامع الشيخ بالاسكندرية (3).
وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال
تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً ، لا لفظيّاً ، وإلاّ فلا وجه لتأليف
الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة ، الموجودة بين المنهجين ،
وسيظهر الحقّ في البحث التالي.
10
ـ عرض مذهب الماتريدي: ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول ، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل
الحديث والأشعري ، وقد عرضنا
1 ـ
اشارات المرام: ص 53 ـ 56. 2 ـ
انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25. 3 ـ
انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.
(26)
عقائدهم في
الجزء الأول من هذه السلسلة ، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق
فيها عن الأشعري ، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما
يتدرّع به الأشعري ، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية ، فإنّ القول برؤيته في
النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان ، ومن أجل ذلك
قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد ، وهو أنّ الرؤية تقع « بلا كيف » أو ما
يفيد ذلك ، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.
قال ابن عساكر: « قالت الحشويّة
المشبِّهة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت
المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري
طريقاً بينهما فقال: يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، كما يرانا هو
سبحانه وتعالى ، وهو غير محدود ، ولا مكيّف » (1).
وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع
الرؤية عند عرض عقائده (2).
وقال الماتريدي في ذلك البحث: « فإن قيل:
كيف يرى؟ قيل: بلا كيف ، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود ،
واتّكاء وتعلّق ، واتّصال وانفصال ، ومقابلة ومدابرة ، وقصير وطويل ، ونور وظلمة ،
وساكن ومتحرِّك ، ومماسّ ومباين ، وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدره
العقل ، لتعاليه عن ذلك » (3).
يلاحظ عليه: أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات
إنكار لها ، وأشبه بالأسد بلا ذنب ، ولارأس.
والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في
كثير من المسائل الكلاميّة ، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث:
1 ـ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ،
ومجالاً أوسع ، وذلك هو الحجر الأساس
1 ـ
تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 ـ 150. 2 ـ
لاحظ الجزء الثاني: ص 201. 3 ـ
التوحيد للماتريدي: ص 85.
(27)
للسمتين
الأخيرتين.
2 ـ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه
والتّجسيم من الأشعري ، وأقرب إلى التّنزيه.
3 ـ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على
المعتزلة ، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.
وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في
مختلف المسائل ، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف ،
نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.
1 ـ
استيلاؤه على العرش: اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في
القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى ، ومنها استيلاؤه على العرش ، والأشعري
يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل ، وأنّ الله حقيقةً
مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له ، ويقول: « إنّ الله مستو على العرش
الّذي فوق السّماوات » ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول: « يستوي على عرشه كما قال ،
يليق به من غير طول الإستقرار » ويستشهد بما روي عن رسول الله: إذا بقي ثلث
الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى ، فيقول: من ذا الّذي يدعوني فأستجيب
له (1).
وعلى ضوء هذا فالأشعري ممّن يثبت الصفات
الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه ، غاية الأمر يتدرّع بلفظة « على نحو يليق
به » أو « بلا كيف » كما في الموارد الاُخر ، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه
بالصفات الخبريّة ، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه ، فهو يفارق الأشعري في
التّفويض وعدمه ، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه ، فالأشعري من المثبتة بلا
تفويض وتأويل ، وهو من المثبتة مع التّفويض ، كما أنّ المعتزلة
1 ـ
الابانة: ص 85.
(28)
من المؤوِّلة ،
وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزليّ ، وإليك نصّه في مورد استوائه على
العرش:
قال: « وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ
اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء » فنفى عن نفسه شبه خلقه ، وقد بيّنا أنّه في فعله
وصفته متعال عن الأشباه ، فيجب القول ب ـ ( الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى )
على ما جاء به التنزيل ، وثبت ذلك في العقل ، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء ،
لاحتماله غيره مما ذكرنا ، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير
محتمل شبه الخلق ، ونؤمن بما أراد اللّه به ، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه ،
نحو الرؤية وغير ذلك ، يجب نفي الشبه عنه ، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على
شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (1).
2 ـ
معرفته سبحانه واجبة عقلاً: اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله ، واختلفا في طريق
ثبوت هذا الوجوب ، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعيّ ، والمعتزلة على أنّه عقليّ ،
قال العضدي في المواقف: النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً ، واختلف في طريق
ثبوته ، فهو عند أصحابنا السمع ، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم
مسلكان:
الأوّل: الاستدلال بالظّواهر مثل قوله
تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذا
فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) إلى
آخره (2).
ولا يخفى وهن النّظرية ، لاستلزامها
الدور ، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب ، فإنّ من لا نعرفه بوجه من
الوجوه ، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب ، لزم
الدور.
وأيضاً: لو كانت المعرفة تجب بالأمر ، فهو
إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره ،
1 ـ
التوحيد للماتريدي: ص 74. 2 ـ
المواقف: ص 28 وشرحها ج 1 ص 124و الآية 101 من سورة يونس..
(29)
فالأوّل تحصيل
للحاصل ، وأمّا الثاني ، فهو باطل ، لاستحالة خطاب الغافل ، إذ كيف يصحّ الأمر
بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة ، وأنّ امتثال أمره واجب
إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.
هذا ما عليه الأشاعرة ، وأمّا الماتريديّة
فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي: « ويجب بمجرّد العقل في مدة
الاستدلال ، معرفة وجوده ، ووحدته ، وعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحدوث
العالم ، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول ، ويجب تصديقه ، ويحرم الكفر ، والتّكذيب
به ، لا من البعثة وبلوغ الدعوة » (1).
القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل
من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي ، أعطى للعقل
سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.
3 ـ
الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين: إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً
في المسائل الكلامية ، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل
على دركهما ، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط ، وقد
أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة (2). وأمّا
المعتزلة فهم على جانب مخالف ،
وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.
قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح
والثّواب ، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده ( أبي منصور
الماتريدي ) إجمالاً عقلي ، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه
العشرة (3). كما في التوضيح وغيره ، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح ،
ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة ،
أمّا كيفيّة الثّواب وكونه
1 ـ
اشارات المرام: فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص 53. 2 ـ
لاحظ الجزء الثاني: ص 310 ـ 332. 3 ـ
اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة
عقلاً.
(30)
بالجنّة ،
وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار ، فشرعي ، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي ،
والصيرفي ، وأبو بكر الفارسي ، والقاضي أبو حامد ، وكثير من متقدّميهم ، كما في
القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير ، وهو مختار الامام
القلانسي ومن تبعه كما في ( التبصرة البغدادية ). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو
قبحه السقوط كوجوب الايمان ، وحرمة الكفر واختاره المذكورون ـ إلى أن قال: ـ
ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي ، فلا يجوز تعذيب المطيع ، ولا
العفو عن الكفر ، عقلاً ، لمنافاته للحكمة ، فيجزم العقل بعدم جوازه ، كما في
التنزيهات (1).
وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ
الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك
الاشارة إليه:
1 ـ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض
الأفعال ، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا
فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ ، وفاعل الآخر الذمَّ ، سواء أكان
الفاعل بشراً ، أم انساناً ، أم ملكاً ، أم غيرهما ، وتبتنى عليه اُصول كثيرة
كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.
2 ـ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً ،
فلا يجوز عليه تعذيب المطيع ، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه
سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله (2).
3 ـ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن
والقبح ، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه ، إذ لا يوجد
في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق ، يجعل العقل موجِباً
ومكلِّفاً ـ بالكسر ـ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً ـ بالفتح ـ ، لأنّ شأن
العقل هو الادراك ، ومعنى إيجابه القيام بالحسن ، والاجتناب عن ضدّه ، هو استكشافه
لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى
1 ـ
اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة ، ص 54. 2 ـ
اللمع: ص 116.