نظريّة أبي حنيفة ( شيخ الماتريدي ) في
الكسب: إذا كان هذا معنى
الكسب لدى الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!
أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى
عن شيخه أبي حنيفة ، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر:
« لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان ، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً
ولكن خلقهم أشخاصاً ، والايمان والكفر فعل العباد ، وجميع أفعال العباد من الحركة
والسكون ، كسبهم على الحقيقة ، واللّه خالقها » (1).
وقال في الفقه الأبسط ( على ما في بعض
نسخه ) : « والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه ، وأمر بأن
يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية » (2).
ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي ،
فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار ، وهو نفس
قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من
اللّه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق
الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده
سبحانه. كلام الماتريدي في أفعال العباد: هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي ، وإليك كلام
الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد ،
فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:
1 ـ وجوب إضافتها إلى اللّه ، على ما
أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة ، فلم
1 ـ
اشارات المرام: ص 254. 2 ـ
المصدر نفسه.
(52)
يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.
2 ـ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في
الفعل ، وقد نفى الله ذلك بقوله: ( أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم ) ( الرعد / 16 ).
قال الشيخ ( الماتريدي نفسه ) : وعندنا لازم
تحقيق الفعل لهم ( العباد ) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً.
فأمّا السمع فله وجهان: الأمر به والنهي عنه ، والثاني الوعيد فيه والوعد له.
على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً ، من نحو قوله: ( وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم ) ( فصّلت / 40 ) وقوله: ( افعَلُوا الخَيرَ ) ( الحج / 77 ) وفي الجزاء
( يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ ) ( البقرة / 167 ) وقوله:
( جزاءً بما كانوا
يَعمَلون ) ( الواقعة / 24 ) وقوله: ( فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة ) ( الزلزلة / 7 ) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء
العمّال ، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وليس في الإضافة
إلى الله سبحانه نفي ذلك ، بل هي للّه ، بأن خلقها على ما هي عليه ، وأوجدها بعد
أن لم تكن ، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى ،
ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: ( إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان ) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في
الحقيقة ، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس ، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق ،
وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه
الطاعة والمعصية ، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور ، والمنهى ، والمثاب ،
والمعاقب ، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له ، ولا قوّة إلا باللّه.
وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب
لمن أطاعه في الدُّنيا ، والعقاب لمن عصاه ، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو
المُجزَى بما ذكر ، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة ، فالائتمار والانتهاء كذلك ،
ولا قوّة إلاّ باللّه.
وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه ، أو
يطيعها ، أو يعصيها ، ومحال تسمية الله عبداً ، ذليلاً ، مطيعاً ، عاصياً ، سفيهاً ،
جائراً ، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم ، فإذا
صارت هذه الأسماء في التحقيق له ، فيكون هو الربّ ، وهو
(53)
العبد ، وهو
الخالق والمخلوق ، ولا غير ثمّة ، وذلك مدفوع في السمع والعقل ، ولا قوّة إلاّ باللّه.
وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه
مختار لما يفعله ، وأنّه فاعل كاسب ـ إلى آخر ما أفاده.. (1).
هذا كلام الماتريدي ، ولا أظنُّ أحداً
يتأمّل في أطراف كلامه ، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري ، بل هما يتحرّكان في
فلكين مختلفين ، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام
الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة ( يعني الماتريديّة
المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة ) في مقابل قول الأشعري (2). وهو يترجم
مذهبه بما يلي: « قال أهل السنّة
والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله ، واللّه هو موجدها ومحدثها ،
ومنشئها ، والعبد فاعل على الحقيقة ، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين ، وهذا
هو فعل العبد ، وفعله غير فعل اللّه تعالى » ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من
المجبِّرة ، والجهميّة ، والقدريّة ، والأشعريّة ، ويستدلّ على مختاره بالنصوص
القرآنيّة ويقول: « فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا ،
وهي مخلوقة الله تعالى ، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع ( حتّى
الأشعرية ). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله
تعالى: ( جَزاءً بما كانُوا
يَعْمَلُون ) ( السجدة / 17 ) ( وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ
فِيها ) ( البقرة / 72 ) وقال: ( إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ )
( المائدة / 6 ). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة ، فلا بدّ أن يكون
لنا فعل ، ويجب أن يكون ذلك بهدايته ، ومشيئته ، وارادته » (3).
ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه
في كتاب « إشارات المرام » وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه
لا جبر ولا قدر ( تفويض ) بل أمر بين الأمرين ،
1 ـ
التوحيد: ص 225 ـ 226. 2 ـ
اُصول الدين: ص 101. 3 ـ
اُصول الدين ص 99 و 104 ـ 105.
(54)
فقال: « وقال قوم
من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد ، وهذا المذهب وسط بين الجبر
والقدر ، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار ( أبوحنيفة ) بقوله كسبهم على الحقيقة
والله خالقها » (1).
ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور
الماتريديّة والأشاعرة: « واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد ،
فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير
أصلاً ، واختاره الباقلاّني كما في ( المواقف ، ) وهو مذهب السلف كما في الطريقة
للمحقّق البركوي ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في
قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى ، فلا
تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال ، ولا يلزم تماثل
القدرتين » (2).
10 ـ
صفاته عين ذاته: اتّفق
المسلمون على إثبات صفات ذاتيّة للّه سبحانه مثل العلم ، والقدرة ، والحياة. ولكن
اختلفوا في كيفيّة الإثبات ، فالإماميّة من العدليّة على أنّ صفاته سبحانه ليست
زائدة على ذاته ، لا بمعنى سلبها عن ذاته ، كما هو القول المنسوب إلى الزّنادقة ،
ولا بمعنى نيابة الذّات مناب الصِّفات ، ولم تكن واقعيّاتها متحقّقة في الذات ،
بل بمعنى أنّها نفس العلم ، والقدرة ، والحياة ، لا أنّ لها العلم ، والقدرة ،
والحياة ، فالصفات على القول الأوّل نفس الذّات وأنّه بلغ من الكمال والجمال
رتبة صارت الذات نفس الانكشاف والاستطاعة ، كما أنّها على الثاني اُمور زائدة
على الذّات قائمة معها ، قديمة كقدمها.
فالشيخ الأشعري يصرّ على النظريّة
الثانية ، ويستدلّ عليها بوجوه طرحناها على
1 ـ
اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه ، فهو ينقل عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قوله: لا جبر ولاتفويض الخ. 2 ـ اشارات المرام: ص 55.
(55)
بساط البحث في
محلّه ، ولكنّ الظاهر من الماتريدي حسبما ينقله النسفي هو القول بالعينيّة. يقول
النّسفي: « ثمّ اعلم إنّ عبارة متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ
اللّه تعالى عالم بعلم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصّفات ، وأكثر مشايخنا امتنعوا
عن هذه العبارة احترازاً عما توهّم أنّ العلم آلة وأداة فيقولون: إنّ اللّه
تعالى ، عالم ، وله علم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصِّفات. والشيخ أبو منصور
الماتريدي ـ رحمه الله ـ يقول: إنّ اللّه عالم بذاته ، حيّ بذاته ، قادر بذاته ،
ولا يريد منه نفي الصِّفات ، لأنّه أثبت الصّفات في جميع مصنّفاته ، وأتى
بالدّلائل لإثباتها ، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك ، غير أنّه
أراد بذلك دفع وهم المغايرة ، وأنّ ذاته يستحيل أن لايكون عالماً
(1).
حصيلة البحث: هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي
والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين ، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد
عليهما ، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل ، وعلى ضوء هذا
لا يصحّ لمحقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي أن يقول: « إنّ توسّط الماتريدي ( بين
أهل الحديث والمعتزلة ) هو بعينه توسّط الأشعري ، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على
منهج واحد ، ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق
المتكلّمين » (2).
لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من
المسائل ، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة ، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو
صفة له قديمة بذاته ، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات ، إلى غير ذلك من الاُصول.
لكنّ الاتّفاق فيهما ، وفي بعض الاُصول
الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين ، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.
1 ـ
العقائد النسفية: ص 76. 2 ـ
مقدمة التوحيد: ص 17 ـ 18.
(56)
نعم هناك مسائل
اختلف الداعيان فيها ، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً ، ونحن نشير إلى قسم منها: 1 ـ
الوجود نفس الماهية أو غيرها؟ نقل البياضي في « إشارات المرام » أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة ، ولدى الأشعري هو الوحدة.
والظّاهر كون الاختلاف لفظياً ، والمراد
هو الوحدة في عالم العين والتحقّق ، والمغايرة في عالم التصور والذهن (1).
2 ـ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟ البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً
زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني ، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده
صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه (2).
يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من
استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.
وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان
كالمجرّدات ، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر ، ليس هنا محلّ بيانه.
3 ـ
القدرة غير التكوين ، والتكوين غير المكوِّن: وممّا اختلف فيه الدّاعيان ، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة.
1 ـ
اشارات المرام: ص 53 و 94. 2 ـ
لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13.
(57)
قالت الأشاعرة:
إنّ الشأنيّ من الاستطاعة ( إن شاء فعل ) هو القدرة ، والفعليّ منها ( إذا شاء فعل )
هو التّكوين ، فليست هنا صفتان مختلفتان ، بل وصف واحد بمعنى القدرة ، له حالتان
تحصلان باقتران المشيئة وعدمها ، فالقدرة قديمة ، والتّكوين حادث ، وأمّا
الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين ، والصفات الفعليّة من الخلق ،
والرّزق ، والرّحمة ، والمغفرة ، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.
وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة
اُخرى أيضاً ، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر ، هل هو نفس المكوَّن ( اسم المصدر )
كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة ، فهناك فعل بمعنى الخلق
والتكوين ، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج ، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.
قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة:
إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث ، بل هو أزلي كالعلم والقدرة
( المسألة الاُولى ) والمكوّن والموجود غير التكوين ، وكذا التخليق والخلق صفة
الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق ( المسألة الثّانية ) وكذا الرحمة
والإحسان وكذا الرزق والمغفرة ، وجميع صفات الفعل للّه.
وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست
بصفات الله تعالى ، والفعل والمفعول واحد ، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة
مثل قولنا (1).
وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى
صفة ذاتيّة هي التكوين ، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود (2) ،
وليس بمعنى المكوّن (3).
والإمعان في هذه العبارات وأمثالها ، يدلّ
على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين ،
فالكلّ واقع تحته ، لا تحت القدرة ، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق ( إن شاء فعل )
وإن لم يفعل ، وهذا بخلاف وصف التكوين ،
1 ـ
اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ « إشارات المرام » ص 69. 2 ـ
اسارة إلى المسألة الاُولى. 3 ـ
اسارة إلى المسألة الثانية ص 53.
(58)
وهو لا يصدق
إلاّ مع وجود الفعل ، وبما أنّ التكوين غير المكوّن ، والأوّل قائم بذاته ، بخلاف
المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه ، يكون التكوين أو الخلق وصفاً
أزليّاً ، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.
يلاحظ عليه: 1 ـ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة ، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة ،
وفعليّته في التكوين ، لا تجعلانهما شيئين مختلفين ، بل أقصى الأمر وحدتهما
جوهراً ، واختلافهما مرتبة.
وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة
مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.
2 ـ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً
أزليّاً ، لاستلزمت أزليّته ، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها ، إذ لا يفارق وصف
التكوين وجوداً عن وجود المكوّن ، وهو ينافي اُصول التوحيد ، ولو فسّر بشأنية
التكوين ، يكون بمعنى القدرة لا شيئاً غيرها ، وهو بصدد تصوير المغايرة.
وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال ، ونقله
عن بعض مخالفيه وقال: « ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل ، كالكسر بلا
مكسور ، والضرب بلا مضروب ، فلو قلنا بقدم الايجاد ( التكوين ) صرنا قائلين بقدم
الموجودات ، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد ».
لكنّه تخلّص عنه بقوله: « انّ للّه تعالى
فعلاً واحداً غير حادث ، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها ، كما أنّ لله
تعالى قدرة واحدة ، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها » (1).
1 ـ
اُصول الدين ص 73.
(59)
يلاحظ عليه: أنّ
الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً ، يخالف التوحيد ويضادّه ، لأنّ قدم
الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد ، والمستغنى عن العلّة واجب ، كذات
الواجب ، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.
وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره ،
وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة ، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج ،
والرأي المسبق ، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ
الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها ، وخُلعَت لجمها ، فتقحّمت بهم في النّار » (1).
3 ـ جعل التكوين غير المكوّن ، والخلق غير
المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه ، فالايجاد هو المصدر ،
والموجود هو نتيجته ، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب
زيد عمراً ، فالصّادر من زيد ، يسمّى بالمصدر ، والواقع على عمرو يسمى باسمه ، فهل
يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين ، أمر قائم بالفاعل ، وأمر قائم بالمفعول وهكذا
غيره ، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى
المفعول يصير اسم المصدر ، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.
4 ـ
الكلام النفسي لا يسمع: الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في « اشارات المرام »: « ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ
عليه ، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في « التبصرة » للامام أبي المعين
النسفي » (2).
وقد استند الأشعري في جواز السماع على
الدّليل الّذي استند عليه في جواز
1 ـ
نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44. 2 ـ
إشارات المرام ص 55.
(60)
رؤيته سبحانه ،
وجعل الملاك للسماع هو الوجود ، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.
وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة
الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار ، وليس وراء الإرادة
والكراهة في الإنشاء ، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم
والارادة.
كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو
كون الشيء موجوداً ، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا ، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود
حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم
الطّبيعيّة.
هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام
الماتريدي ، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج ، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها
الداعيان ، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.
والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس
الماتريدي وتلاميذ منهاجه ، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري
والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة ، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال ،
ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف
جزئيّاً ، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر ، مداهنة جدّاً
وإخفاء للحقيقة ، وإسدال الستر على وجهها.
أنصاره وأتباعه في الأجيال
المتأخِّرة: قد انتشر
مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم
الاسلامي ، وكثرت أنصاره وأعوانه ، بين مبيِّن مقاصده ، إلى ذابّ عن براهينه
ودلائله ، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده ، وأمّا مذهب الماتريدي فقد نبت في نقطة
بعيدة عن الحواضر ، فقلّت العناية بنقله وشرحه.
وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره ، وهو أنّ
لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر