بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 51 ـ 60
(51)
نظريّة أبي حنيفة ( شيخ الماتريدي ) في الكسب:
    إذا كان هذا معنى الكسب لدى الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!
    أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة ، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: « لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان ، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً ، والايمان والكفر فعل العباد ، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون ، كسبهم على الحقيقة ، واللّه خالقها » (1).
    وقال في الفقه الأبسط ( على ما في بعض نسخه ) : « والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه ، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية » (2).
    ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي ، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار ، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.
كلام الماتريدي في أفعال العباد:
    هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي ، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد ، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:
    1 ـ وجوب إضافتها إلى اللّه ، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة ، فلم
    1 ـ اشارات المرام: ص 254.
    2 ـ المصدر نفسه.


(52)
     يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.
    2 ـ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل ، وقد نفى الله ذلك بقوله: ( أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم ) ( الرعد / 16 ).
    قال الشيخ ( الماتريدي نفسه ) : وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم ( العباد ) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر به والنهي عنه ، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً ، من نحو قوله: ( وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم ) ( فصّلت / 40 ) وقوله: ( افعَلُوا الخَيرَ ) ( الحج / 77 ) وفي الجزاء ( يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ ) ( البقرة / 167 ) وقوله: ( جزاءً بما كانوا يَعمَلون ) ( الواقعة / 24 ) وقوله: ( فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة ) ( الزلزلة / 7 ) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال ، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك ، بل هي للّه ، بأن خلقها على ما هي عليه ، وأوجدها بعد أن لم تكن ، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى ، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: ( إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان ) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة ، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس ، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق ، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية ، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور ، والمنهى ، والمثاب ، والمعاقب ، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له ، ولا قوّة إلا باللّه.
    وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا ، والعقاب لمن عصاه ، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر ، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة ، فالائتمار والانتهاء كذلك ، ولا قوّة إلاّ باللّه.
    وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه ، أو يطيعها ، أو يعصيها ، ومحال تسمية الله عبداً ، ذليلاً ، مطيعاً ، عاصياً ، سفيهاً ، جائراً ، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم ، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له ، فيكون هو الربّ ، وهو


(53)
     العبد ، وهو الخالق والمخلوق ، ولا غير ثمّة ، وذلك مدفوع في السمع والعقل ، ولا قوّة إلاّ باللّه.
    وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله ، وأنّه فاعل كاسب ـ إلى آخر ما أفاده.. (1).
    هذا كلام الماتريدي ، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه ، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري ، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين ، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة ( يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة ) في مقابل قول الأشعري (2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: « قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله ، واللّه هو موجدها ومحدثها ، ومنشئها ، والعبد فاعل على الحقيقة ، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين ، وهذا هو فعل العبد ، وفعله غير فعل اللّه تعالى » ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من المجبِّرة ، والجهميّة ، والقدريّة ، والأشعريّة ، ويستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنيّة ويقول: « فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا ، وهي مخلوقة الله تعالى ، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع ( حتّى الأشعرية ). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله تعالى: ( جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُون ) ( السجدة / 17 ) ( وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها ) ( البقرة / 72 ) وقال: ( إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ) ( المائدة / 6 ). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة ، فلا بدّ أن يكون لنا فعل ، ويجب أن يكون ذلك بهدايته ، ومشيئته ، وارادته » (3).
    ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب « إشارات المرام » وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر ( تفويض ) بل أمر بين الأمرين ،
    1 ـ التوحيد: ص 225 ـ 226.
    2 ـ اُصول الدين: ص 101.
    3 ـ اُصول الدين ص 99 و 104 ـ 105.


(54)
     فقال: « وقال قوم من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد ، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر ، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار ( أبوحنيفة ) بقوله كسبهم على الحقيقة والله خالقها » (1).
    ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور الماتريديّة والأشاعرة: « واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد ، فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير أصلاً ، واختاره الباقلاّني كما في ( المواقف ، ) وهو مذهب السلف كما في الطريقة للمحقّق البركوي ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى ، فلا تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال ، ولا يلزم تماثل القدرتين » (2).

10 ـ صفاته عين ذاته:
    اتّفق المسلمون على إثبات صفات ذاتيّة للّه سبحانه مثل العلم ، والقدرة ، والحياة. ولكن اختلفوا في كيفيّة الإثبات ، فالإماميّة من العدليّة على أنّ صفاته سبحانه ليست زائدة على ذاته ، لا بمعنى سلبها عن ذاته ، كما هو القول المنسوب إلى الزّنادقة ، ولا بمعنى نيابة الذّات مناب الصِّفات ، ولم تكن واقعيّاتها متحقّقة في الذات ، بل بمعنى أنّها نفس العلم ، والقدرة ، والحياة ، لا أنّ لها العلم ، والقدرة ، والحياة ، فالصفات على القول الأوّل نفس الذّات وأنّه بلغ من الكمال والجمال رتبة صارت الذات نفس الانكشاف والاستطاعة ، كما أنّها على الثاني اُمور زائدة على الذّات قائمة معها ، قديمة كقدمها.
    فالشيخ الأشعري يصرّ على النظريّة الثانية ، ويستدلّ عليها بوجوه طرحناها على
    1 ـ اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه ، فهو ينقل عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قوله: لا جبر ولاتفويض الخ.
    2 ـ اشارات المرام: ص 55.


(55)
     بساط البحث في محلّه ، ولكنّ الظاهر من الماتريدي حسبما ينقله النسفي هو القول بالعينيّة. يقول النّسفي: « ثمّ اعلم إنّ عبارة متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ اللّه تعالى عالم بعلم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصّفات ، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازاً عما توهّم أنّ العلم آلة وأداة فيقولون: إنّ اللّه تعالى ، عالم ، وله علم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصِّفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي ـ رحمه الله ـ يقول: إنّ اللّه عالم بذاته ، حيّ بذاته ، قادر بذاته ، ولا يريد منه نفي الصِّفات ، لأنّه أثبت الصّفات في جميع مصنّفاته ، وأتى بالدّلائل لإثباتها ، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك ، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة ، وأنّ ذاته يستحيل أن لايكون عالماً (1).
حصيلة البحث:
    هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين ، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد عليهما ، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل ، وعلى ضوء هذا لا يصحّ لمحقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي أن يقول: « إنّ توسّط الماتريدي ( بين أهل الحديث والمعتزلة ) هو بعينه توسّط الأشعري ، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على منهج واحد ، ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين » (2).
    لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من المسائل ، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة ، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو صفة له قديمة بذاته ، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات ، إلى غير ذلك من الاُصول.
    لكنّ الاتّفاق فيهما ، وفي بعض الاُصول الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين ، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.
    1 ـ العقائد النسفية: ص 76.
    2 ـ مقدمة التوحيد: ص 17 ـ 18.


(56)
    نعم هناك مسائل اختلف الداعيان فيها ، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً ، ونحن نشير إلى قسم منها:
1 ـ الوجود نفس الماهية أو غيرها؟
    نقل البياضي في « إشارات المرام » أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة ، ولدى الأشعري هو الوحدة.
    والظّاهر كون الاختلاف لفظياً ، والمراد هو الوحدة في عالم العين والتحقّق ، والمغايرة في عالم التصور والذهن (1).
2 ـ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟
    البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني ، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه (2).
    يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.
    وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان كالمجرّدات ، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر ، ليس هنا محلّ بيانه.
3 ـ القدرة غير التكوين ، والتكوين غير المكوِّن:
    وممّا اختلف فيه الدّاعيان ، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة.
    1 ـ اشارات المرام: ص 53 و 94.
    2 ـ لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13.


(57)
    قالت الأشاعرة: إنّ الشأنيّ من الاستطاعة ( إن شاء فعل ) هو القدرة ، والفعليّ منها ( إذا شاء فعل ) هو التّكوين ، فليست هنا صفتان مختلفتان ، بل وصف واحد بمعنى القدرة ، له حالتان تحصلان باقتران المشيئة وعدمها ، فالقدرة قديمة ، والتّكوين حادث ، وأمّا الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين ، والصفات الفعليّة من الخلق ، والرّزق ، والرّحمة ، والمغفرة ، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.
    وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة اُخرى أيضاً ، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر ، هل هو نفس المكوَّن ( اسم المصدر ) كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة ، فهناك فعل بمعنى الخلق والتكوين ، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج ، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.
    قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة: إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث ، بل هو أزلي كالعلم والقدرة ( المسألة الاُولى ) والمكوّن والموجود غير التكوين ، وكذا التخليق والخلق صفة الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق ( المسألة الثّانية ) وكذا الرحمة والإحسان وكذا الرزق والمغفرة ، وجميع صفات الفعل للّه.
    وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست بصفات الله تعالى ، والفعل والمفعول واحد ، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة مثل قولنا (1).
    وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى صفة ذاتيّة هي التكوين ، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود (2) ، وليس بمعنى المكوّن (3).
    والإمعان في هذه العبارات وأمثالها ، يدلّ على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين ، فالكلّ واقع تحته ، لا تحت القدرة ، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق ( إن شاء فعل ) وإن لم يفعل ، وهذا بخلاف وصف التكوين ،
    1 ـ اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ « إشارات المرام » ص 69.
    2 ـ اسارة إلى المسألة الاُولى.
    3 ـ اسارة إلى المسألة الثانية ص 53.



(58)
     وهو لا يصدق إلاّ مع وجود الفعل ، وبما أنّ التكوين غير المكوّن ، والأوّل قائم بذاته ، بخلاف المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه ، يكون التكوين أو الخلق وصفاً أزليّاً ، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.
يلاحظ عليه:
    1 ـ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة ، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة ، وفعليّته في التكوين ، لا تجعلانهما شيئين مختلفين ، بل أقصى الأمر وحدتهما جوهراً ، واختلافهما مرتبة.
    وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.
    2 ـ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً أزليّاً ، لاستلزمت أزليّته ، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها ، إذ لا يفارق وصف التكوين وجوداً عن وجود المكوّن ، وهو ينافي اُصول التوحيد ، ولو فسّر بشأنية التكوين ، يكون بمعنى القدرة لا شيئاً غيرها ، وهو بصدد تصوير المغايرة.
    وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال ، ونقله عن بعض مخالفيه وقال: « ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل ، كالكسر بلا مكسور ، والضرب بلا مضروب ، فلو قلنا بقدم الايجاد ( التكوين ) صرنا قائلين بقدم الموجودات ، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد ».
    لكنّه تخلّص عنه بقوله: « انّ للّه تعالى فعلاً واحداً غير حادث ، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها ، كما أنّ لله تعالى قدرة واحدة ، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها » (1).
    1 ـ اُصول الدين ص 73.

(59)
    يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً ، يخالف التوحيد ويضادّه ، لأنّ قدم الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد ، والمستغنى عن العلّة واجب ، كذات الواجب ، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.
    وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره ، وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة ، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج ، والرأي المسبق ، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها ، وخُلعَت لجمها ، فتقحّمت بهم في النّار » (1).
    3 ـ جعل التكوين غير المكوّن ، والخلق غير المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه ، فالايجاد هو المصدر ، والموجود هو نتيجته ، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب زيد عمراً ، فالصّادر من زيد ، يسمّى بالمصدر ، والواقع على عمرو يسمى باسمه ، فهل يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين ، أمر قائم بالفاعل ، وأمر قائم بالمفعول وهكذا غيره ، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى المفعول يصير اسم المصدر ، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.
4 ـ الكلام النفسي لا يسمع:
    الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في « اشارات المرام »: « ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ عليه ، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في « التبصرة » للامام أبي المعين النسفي » (2).
    وقد استند الأشعري في جواز السماع على الدّليل الّذي استند عليه في جواز
    1 ـ نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44.
    2 ـ إشارات المرام ص 55.


(60)
     رؤيته سبحانه ، وجعل الملاك للسماع هو الوجود ، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.
    وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار ، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء ، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.
    كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً ، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا ، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.
    هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي ، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج ، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان ، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.
    والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه ، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة ، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال ، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً ، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر ، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة ، وإسدال الستر على وجهها.

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:
    قد انتشر مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم الاسلامي ، وكثرت أنصاره وأعوانه ، بين مبيِّن مقاصده ، إلى ذابّ عن براهينه ودلائله ، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده ، وأمّا مذهب الماتريدي فقد نبت في نقطة بعيدة عن الحواضر ، فقلّت العناية بنقله وشرحه.
    وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره ، وهو أنّ لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس