بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 61 ـ 70
(61)
     السنّة ، طابع التعقّل ، وقد كثرت الدعاية في عصر ظهوره ، على ضدّ أهل التعقّل والتفكّر ، وصار العكوف على النقل المحض ، وترك التعقّل والبرهنة آية القداسة ، والإمام بما أنّه أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري ، ووافق في عدّة من الاُصول ، منهاج المعتزلة ، فصار هذا وذاك سببين لقلّة انتشاره ، وندرة أنصاره.
    ومع ذلك فقد شاع مذهبه بين علماء ماوراءالنهر فقاموا بنشر دعوته ومعاضدته ، فألّفوا حول منهاجه ، كتباً ورسائل منشورة وغير منشورة.
    ولأجل ايقاف القارئ على أعلام الماتريديّين نأتي بترجمة عدّة منهم:

1 ـ أبواليسر محمّد البزدوي ( 421 ـ 493 هـ )
    إنّ أرباب المعاجم من الأحناف وغيرهم قد قصّروا ولم يؤدّوا حقّ الماتريدي في كتبهم ، فإذا كان هذا حال الاُستاذ فما ظنّك بحال التلامذة والأتباع ، ولأجل ذلك نجد أنفسنا أمام ظلام دامس يلفّ حياة البزدوي ، وأحسن مرجع للوقوف على حياته هو نفس كتابه « اُصول الدّين » الّذي حقّقه وقدّم له الدكتور « هانز بيتر لنس » ونشرته عام ( 1383هـ ) دار إحياء الكتب العربية في القاهرة ، ونقل محقّق الكتاب أنّه وجد عن طريق المصادفة في هامش كتاب خطّي لابن قطلوبغة « طبقات الحنفيّة » بجانب مَلْزَمة عن حياة البزدوي: روى السمعاني أنّهـ أي البزدوي ـ ولد في عام ( 421 هـ ).
    ويظهر من غير واحد من مواضع كتابه أنّه تلقّى العلوم على يد أبيه. يقول في مسألة: « هل الايمان مخلوق أو غير مخلوق ، ولا يجوز الاطلاق بأنّ الإيمان مخلوق » ونحن نختار هذا القول ، فإنّ هذا مذهب أبي حنيفة ، وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع ، عن « أبي حنيفة » روى لنا والدنا الشيخ الامام أبوالحسن محمّد بن الحسين بن عبد الكريم ـ رحمة الله عليهـ هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم (1).
    1 ـ اُصول الدين ص 155 ـ 158.

(62)
    وقال في مسألة أنّ البعث حق: « وقد روى لنا الشيخ الامام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثاً متّصلاً إلى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » (1).
    ولم يكتف في تلقّي العلم بوالده ، ويظهر من موضع من كتابه أنّه أخذ العلم عن غير واحد من أعلام عصره ، ومنهم أبوالخطّاب. قال في مسألة ( 75 ) : هكذا سمعت الشيخ أبا الخطّاب (2).
ثقافته:
    ينتسب البزدوي إلى مدرسة الإمام أبي حنيفة ، وهو يعترف بالصّراحة بانتمائه إلى المذهب الحنفي ، كما ينتسب في العقيدة إلى مدرسة الماتريدي ، وهو اُستاذ جدّ أبيه « عبد الكريم » (3) الّذي تلقّى العلوم بدوره عن الماتريدي.
    ويظهر من مقدّمة كتاب اُصول الدّين أنّه قرأ أكثر الكتب المؤلّفة في ذلك العصر في الفلسفة والكلام ، لا سيّما للمعتزلة والأشاعرة. قال: « نظرت في الكتب الّتي صنّفها المتقدّمون في علم التوحيد فوجدت بعضها للفلاسفة مثل « إسحاق الكندي » و « الاسفزاري » وأمثالهما ، وذلك كلّه خارج عن الطريق المستقيم ، زائغ عن الدّين القويم.
    ووجدت أيضاً تصانيف كثيرة في هذا الفن من العلم « للمعتزلة » مثل « عبد الجبّار الرازي » و « الجبّائي » و « الكعبي » و « النظّام » وغيرهم.
    وكذلك « المجسّمة » صنّفوا كتباً في هذا الفنّ مثل « محمّد بن هيصم » وأمثاله ، ولا يحلّ النّظر في تلك الكتب ، وقد وجدت لأبي الحسن الأشعري كتباً وغيره ( غيرها ظ ) في هذا الفنّ من العلم ، وهي قريب من مائتي كتاب ، والموجز الكبير يأتي على عامّة ما في
    1 ـ اُصول الدين ص 156.
    2 ـ اُصول الدين ص 28.
    3 ـ نسبه هكذا: محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم.


(63)
     جميع كتبه ، وقد صنّف الأشعري كتباً كثيرة لتصحيح مذهب « المعتزلة » ، فإنّه كان يعتقد مذهب الاعتزال في الابتداء ، ثمّ إنّ اللّه تعالى بيّن له ضلالة « المعتزلة » فتاب عمّا اعتقد من مذاهبهم ، وصنّف كتاباً ناقضاً لما صنّف للمعتزلة. وقد أخذ علمه أصحاب الشافعي بما استقرّ عليه « أبو الحسن الأشعري » وقد صنّف أصحاب الشافعي كتباً كثيرة على وفق ما ذهب إليه الأشعري إلاّ أنّ أصحابنا من أهل السنّة والجماعة خطّأوا أبا الحسن في بعض المسائل مثل قوله: « التكوين والمكوّن واحد » ونحوه على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاءالله فمن وقف على المسائل الّتي أخطأ فيها أبوالحسن الأشعري ، وعرف خطأه ، فلا بأس بالنّظر في كتبه وإمساكها ، وقد أمسك كتبه كثير من أصحابنا ونظروا فيها ، الّذين هم رؤساء أهل السنّة والجماعة.
    وقد صنّف أبومحمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطّان (1) ، كتباً كثيرة في هذا النّوع من العلم وهو أقدم من أبي الحسن الأشعري ، فلم يقع في يدي شيء من كتبه ، وعامّة أقاويله توافق أقاويل أهل السنّة والجماعة إلاّ مسائل قلائل لاتبلغ عشرة مسائل ، فإنّه خالف فيها أهل السنّة والجماعة ، وقد أخطأ فيها على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاء الله تعالى فلا بأس من إمساك كتبه ، والنظر فيها لمن وقف على ما أخطأ من المسائل.
    وقد وجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة والجماعة ، وكان من رؤساء أهل السنّة والجماعة (2).
    وهذا يعرب عن عكوفه على دراسة الكتب للفرق الكلاميّة وعرضها على الاُصول الّتي تلقّاها أنّها اُصول السنّة والجماعة.
تلاميذه:
    قد تلقّى عنه عدّة من أكابر علماء الحنفيّة أشهرهم نجم الدين عمر بن محمّد
    1 ـ توفي عبد الله بن سعيد عام 245 هـ.
    2 ـ اُصول الدين 1 ـ 3 وقد عرفت ذيل كلامه في ما سبق.


(64)
     النسفي ( 460 ـ 537 هـ ) وهو يقول في حقّ اُستاذه: « كان أبواليسر شيخ أقراننا في بلاد ماوراءالنهر ، وكان إمام الأئمّة ، وكان يفد عليه الناس من كل فجّ وقد ملأ الشرق والغرب بمؤلفاته في الاُصول والفروع » (1).
مؤلفاته:
    له مؤلفات منها:
    1 ـ تعليقة على كتاب الجامع الصغير للشيباني.
    2 ـ الواقعات.
    3 ـ المبسوط في بعض الفروع (2).
    4 ـ اصول الدين المطبوع.
2 ـ النسفي ميمون بن محمّد ( 418 ـ 508 هـ )
    ميمون بن محمّد بن معبد بن مكحول ، أبو المعين النسفي الحنفي ، أحد المتكلّمين البارعين على منهاج الماتريدي كان بسمرقند سكن « بخارى ».
    تآليفه: « بحر الكلام » وهو مطبوع ، و « تبصرة الأدلة » مخطوط ويقال إنّه الأصل للعقائد النسفية لأبي حفص النسفي ، توجد نسخة منه في القاهرة وغيرهما من الكتب.
    وقد ترجم في الجواهر المضيئة ج 2: 189 ، وفي الأعلام لخير الدين الزركلي ج 7: 341 ، و ريحانة الأدب للمدرسي ج 6 ص 174 ، وذكر تآليفه الكاتب الجلبي في كشف الظنون.
    1 ـ مقدمة اُصول الدين نقلاً من طبقات الحنفية لابن قطوبغة ، المخطوطة.
    2 ـ نفس المصدر.


(65)
3 ـ النسفي عمر بن محمّد ( 460 ـ 537 هـ ) :
    عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعيل ، أبو حفص المعروف ب ـ « نجم الدين النسفي » ، ولد ب ـ « نسف » وتوفّي بسمرقند ، وكتابه المعروف « عقائد النسفي » من الكتب المشهورة الّتي يدور عليه رحى الدراسة منذ قرون إلى يومنا هذا. ولأجل ذلك كتبت عليه الشروح والتعليقات ، وهو على منهاج الماتريدي. وشرحه التفتازاني ، وله ترجمة في « الفوائد البهية في تراجم الحنفية » لمحمّد بن عبد الحي ، ص: 149 طبع في القاهرة عام 1324هـ. والجواهر المضيئة ج 1: ص 394 ، ولسان الميزان ج 4: ص 327 ، والأعلام لخير الدين الزركلي ج 5: ص 60 و ريحانة الأدب للمدرسي ، ج 6:ص 173 ، وقد تقدّم تتلمذه على البزدويّ.
4 ـ ابن الهمام: محمد بن عبد الواحد ( 790 ـ 816 هـ ) :
    محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري ، كمال الدين المعروف بابن الهمام ، متكلّم حنفي ، له تآليف في الكلام والفقه ، وقد ألّف « المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة » ، في الكلام ، وهو مطبوع. حقّقه محمّد محي الدين عبد الحميد. ومن كتبه « فتح القدير » في شرح الهداية ، ثمانية مجلّدات في فقه الحنفية ، كما ألّف « التحرير » في اُصول الفقه وقد طبعا. له ترجمة في الفوائد البهية ص: 18 ، والجواهر المضيئة ، ج 2:ص 86 ، وشذرات الذهب ج 7 : ص 289 والأعلام للزركلي ج 2:ص 255 ، وغيرها.
5 ـ البياضي: كمال الدين أحمد بن حسن الرومي الحنفي ـ ( القرن 11 ) :
    هو من بيت قضاء ، وفقه ، وعلم ، أخذ العلم ببلاده عن والده ، والعلامة يحيى المنقاري ، وغيرهما من أفاضلهم ، وقد أُسند إليه منصب القضاء بحاضرة حلب الشهباء سنة 1077هـ ، كما تولّى قضاء مكّة عام 1083هـ ، ومن تآليفه « إشارات المرام من


(66)
     عبارات الامام » الّذي طبع بتقديم محمّد زاهد بن الحسن الكوثري ، الذي هو من دعاة الماتريديّة في العصر الحاضر وبتحقيق يوسف عبد الرزاق سنة 1368هـ ، وقد وقفت على خصوصيات الكتاب في خلال الأبحاث السابقة.
    هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة ، وقلّت الدعاة إليها ، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة ، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم ، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً ، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر ، غير الشيخ الكوثري وأترابه ، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها ، لكونها منهاجاً وسطاً بين العقليّة المحضة ، والنّقلية الخاصّة.
    إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم ، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد ، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة ، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة ، فعلى طلاب الحريّة ، السعي والإجتهاد ، للتعرّف على الحقّ ، وإزهاق الباطل ، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.

بيان لقادة الفكر في الأمة:
    إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين: الشرق والغرب ، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان ، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين ، وعن التفاني دونهـ إنّ هذا الغزو ـ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها ، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن « كعب الأحبار » ، و « تميم الداري » وأضرابهما ، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال ، على مايعتنقه من العقائد ، لأنّه يضفي


(67)
     لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة ، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها ، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح ، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة ، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.
    ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري ـ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابهـ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.
    ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة ، ولا الاعتدال في الرأي ، فهم بين غارق في العقليّات ، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة ، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان ، وإن كان على خلاف الحسّ والعقل.
    هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً ، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل ، واحترام حريّة الفكر ، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.
    ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر ، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي ، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول:
     « ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً ، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر ، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ ، كانت الحياة أقوم ، فالحياة القيّمة ـ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان ، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه ، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.
    وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله: ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ( الأنعام / 122 ). وقوله: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا


(68)
يَعْلَمُونَ ) ( الزمر / 9 ) وقوله: ( يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات ) ( المجادلة 11 ) وقوله: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب ) ( الزمر / 17 و 18 ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض ، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح ، وترويج طريق العلم ، ممّا لا ريب فيه.
    ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه ، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة ، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.
    إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي ، ثمّ تدبّرت في آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل ، وتلقين النّبي ـ صلىّ الله عليه وآله ـ الحجّة لإثبات حقّ ، أو لإبطال باطل ، كقوله: ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ ) ( المائدة / 17 ) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وسائر الأنبياء العظام ، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ) وقوله: ( وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / 13 ) وقوله: ( وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( غافر / 28 ) وقوله حكاية عن سحرة فرعون: ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا ) ( طه / 72 ) إلى آخر ما احتجّوا به.
    ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه ، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به ، أو بشيء ممّا هو من عنده ، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء ، وهم لا يشعرون ، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: ( إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر ) ( العنكبوت / 45 ) وقوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ


(69)
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / 183 ) وقوله في آية الوضوء: ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / 6 ) إلى غير ذلك من الآيات (1).

يا اُمّه اثكليه (2):
    قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد ، وهو يرى أنّ لله نزولاً كنزول الإنسان ، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.
    يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية ، في جامع دمشق يهتف: أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ـ ثمّ نزل درجة من درج المنبر ـ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول: « وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً.. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم ، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته (3).
    اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم ، ومعلّماً لتوحيدهم ، وإليه يرحلون ، وعن فتياه يصدرون ، وكأنّه صار صنماً يُعبد ، ويدور الحقّ مداره ، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة ، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.
    1 ـ الميزان ج 5 ص 273 ـ 275.
    2 ـ مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج 2 ص 426 حرف الياء.
    3 ـ رحلة ابن بطوطة ط دار صادر ، بيروت ص 95.


(70)
    بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة ، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته ، وكيان نحلته ، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.
    فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم ، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض ، لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات ، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها ، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر ، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟
    وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة ، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.
    ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال:
فإن كان تجسيماً ثبوت استوائه وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته وإن كان تنزيهاً جحود استوائه فعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا على عرشه إنّي إذاً لمجسِّم فمن ذلك التشبيه لا أتكتّم وأوصافه أو كونه يتكلّم بتوفيقه والله أعلى وأعظم (1)

    1 ـ الصواعق المرسلة ج 1 ص 170 كما في المعتزلة ص 252.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس