بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 111 ـ 120
(111)
3
القدريّة
القدريّة أسلاف المعتزلة
    خرج المسلمون من الجزيرة العربيّة بدافع نشر الاسلام وبسط نفوذه ، فلمّا استولوا على البلاد واستتبّ لهم الأمر ، تفاجأوا بثقافات وحضارات ، وشرائع وديانات ، لم يكن لهم بها عهد ، ففرضت الظُّروف عليهم الاختلاط والتعايش مع غير المسلمين ، وربّما انتهى الأمر إلى التفاعل والتأثير بمبادئهم وأفكارهم ، فوقفوا على اُصول ومبادئ تخالف دينهم ، فأوجد ذلك اضطراباً فكريّا بين الأوساط الإسلاميّة. كيف لا ، وقد كان الخصم متدرّعاً بالسلاح العلمي ، ومجهّزاً بأساليب كلاميّة ، والمسلمون الغزاة بسطاء غير مجيدين كيفيّة البرهنة ، والمجادلة العلميّة مع خصمائهم ، فصار ذلك سبباً لطرح أسئلة ونموّ اشكالات في أذهان المسلمين خارج الجزيرة العربيّة وداخلها ، وقد كان الغزاة ينقلون ما سمعوا أو ما تأثّروا به في حلّهم وترحالهم داخل المدن وخارجها.
    وهذا التلاقح الفكري بين المسلمين وغيرهم أدّى إلى افتراق الاُمّة الاسلاميّة إلى طائفتين:
    الطائفة الاُولى: وهم يشكّلون الأكثريّة الساحقة في المسلمين ، جنحت إلى الجانب السلبي وأراحت نفسها من الخوض في تلك المباحث ، وإن كانت لها صلة بصميم الدين كالقضاء والقدر ، وعينيّة الصفات للذات أو زيادتها عليها ، كيفيّة


(112)
    الحشر والنشر ، ووجود الشرّ في العالم ، مع كون خالقه حكيماً إلى غير ذلك ممّا لا يمكن فصلها عن الدين ، وأقصى ما كان لدى هؤلاء المتزمّتين ، دعوة المسلمين إلى التعبّد بما جاء من النصوص في القرآن والسنّة ، وقد تصدّر هذه الطائفة الفقهاء وأهل الحديث ولقد أثر عنهم قول وعمل يعرِّفان موقفهم في هذه التيّارات ، ويرجع مغزى ذلك إلى الأخذ بالجانب السّلبي وترك الكلام الّذي هو أسهل الأمرين ، ولأجل ذلك قامت تلك الطّائفة بتحريم علم الكلام والمنطق والفلسفة ، وإن كان يهدف إلى تقرير العقائد الإسلاميّة عن طريق العقل والبرهان.
    وإليك نماذج من أقوالهم في هذا المضمار:
    1 ـ عن أبي يوسف القاضي ( م 192 ) : طلب علم الكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم (1).
    2 ـ وعن الشافعي: لأن يلقى الله تبارك وتعالى بكلّ ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام (2).
    3 ـ وهذا الإمام مالك ( م 179 ) لمّا سئل عن كيفيّة الاستواء على العرش؟ فقال: الاستواء معقول والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة (3).
    فهؤلاء صوّروا البحث عن قوانين الكون ، وصحيفة الوجود جهلاً ، والجهل بها علماً ، والبرهنة على وجوده سبحانه أمراً مذموماً ، والسؤال عن مفاد الآية ومرماها بدعة.فكأنّ القرآن أُنزل للتلاوة والقراءة دون الفهم والتدبّر ، وكأنّ القرآن لم يأمر النّاس بالسؤال من أهل الذكر إذا كانوا جاهلين. فإذا كان هذا حال قادة الاُمّة وفقهائها ، فكيف حال من يَقتدي بهم؟
    4 ـ سأل رجل عن مالك وقال: ينزل الله سماء الدنيا؟ قال: نعم. قال: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فصاح مالك: اسكت عن هذا وغضب غضباً شديدا (4).
    5 ـ قد بلغ تطرّف إمام الحنابلة إلى حدّ أنّ أبا ثور ( م 240 ) فسّر حديث رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: « إنّ الله خلق آدم على صورته » على وجه لا يستلزم التجسيم والتشبيه بإرجاع الضمير إلى آدم حتّى يتخلّص من مغبّتهما ، فهجره أحمد ، فأتاه أبو ثور ، فقال أحمد: أيّ صورة كانت لآدم يخلق عليها ، كيف تصنع بقوله: ( خلق آدم على صورة الرحمان ) فاعتذر أبو ثور
    1 ـ تاريخ بغداد ج 14 ص 253.
    2 ـ حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 11 ، كما في كتاب « المعتزلة » ص 242.
    3 ـ طبقات الشافعية: ج 3 ص 126.
    4 ـ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ، لابن قيم الجوزي ، طبع مكة المكرمة ، عام 1348 ج 2 ص 251 ، كما في « المعتزلة » ص 245.


(113)
    وتاب بين يديه (1).
    فالدواء عنده لكلّ داء هو الدّعوة إلى التعبّد بالنّصوص تعبّداً حرفياً من غير تحليل ولا تفسير.
    6 ـ إنّ أحد أصحابه ، الحارث المحاسبي ( م 243 ) ألّف كتاباً في الردّ على المعتزلة ، فأنكره أحمد وهجره. ولمّا اعترض عليه المحاسبي بأنّ الردّ على البدعة فرض ، أجاب أحمد بقوله: إنّك حكيت شبهتهم أوّلاً ثمّ أجبت عنها فلم تأمن أطالع الشّبهة ولا ألتفت إلى الجواب أو أنظر إلى الجواب ولا أفهم كنهها (2).
    يلاحظ عليه: أنّه لا شكّ في أنّ الردود على أصحاب البدع والضلالات ، يجب أن تكون بشكل تهدي الاُمّة ولا تضلّها ، وتقمع الإشكال ولا ترسّخه. فمن كانت له تلك الصلاحية فعليه القيام بالردّ والنقد. فهذا هو القرآن الكريم الأسوة المباركة ، ينقل آراء المشركين ثمّ ينقضها ويدمِّرها ، وإلاّ فمعنى ذلك أن يفسح المعنيّون من علماء الإسلام للأبالسة أن يهاجموا الإسلام و يضعضعوا أركانه ، ويتّخذوا الأحداث والشبّان فريسة لأفكارهم يفتكون بهم ، ويكون الغيارى من المسلمين القادرون على دفع هجومهم ، متفرّجين في مقابل جرأة العاصي وحملة الماجن « ما هكذا تورد يا سعد الإبل ». وكيف يرضى الشارع الّذي جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضة على المسلمين بهذه
    1 ـ نفح الطيب ج 3 ص 153 ، كما في كتاب « المعتزلة ».
    2 ـ المنقذ من الضلال ص 45 راجع كتاب المعتزلة ص 245 ـ 251.


(114)
     النكسة.
    هذا حال الطائفة الاُولى وإليك نبذة عن وضع الطائفة الاُخرى.
    الطائفة الثانية: وهم الأقليّة من أصحاب الفكر ، وقد عاينوا المشاكل عن كثب وحاولوا حلّها بالدراسة والتحليل. فلأجل تلك الغاية تدرّعوا بمنطق الخصم وأساليبه الكلاميّة ، فقلعوا بها الشبه وصانوا دينهم وايمان أحداثهم عن زيغ المبطلين. كلّ ذلك بدافع الذبّ عن حريم الدّين وصيانته ، وتجسيداً للأصل الأصيل في الكتاب والسنّة ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ واسوةً بالنبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الّذي كان يدافع عن دين الله بسيفه وسنانه ، وبنانه وبيانه ، وكتبه ورسائله.
    وقد نجم بين الاُمّة في هذه الطّائفة علماء أخيار اشتروا رضا الله سبحانه بغضب المخلوق ، فكانوا يحمون جسد الإسلام من النّبال المرشوقة والموجّهة من السلطة الحاكمة إليه ، تحت ستار الدفاع عن الدّين ومكافحة المضلّين ، وقد أساء لهم التاريخ فأسماهم بالقدريّة ، حطّاً من شأنهم ، وإدخالاً لهم تحت الحديث المرويّ عن الرسول الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم « القدريّة مجوس هذه الاُمّة » وكان العصر الأموي ( من الوقت الّذي استولى فيه معاوية على عرش الملك إلى آخر من تولّى منهم ) ، يسوده القول بالجبر ، الّذي يصوِّر الانسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران ، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد ، وسعة وضيق ، وجوع وكظّة ، وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضى به عليهم ، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.
    وقد اتّخذت الطغمة الأمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجّة أنّ الاعتراض عليهم إعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره ، وأنّ الله سبحانه فرض على الانسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير. وأبناء البيت الاموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف ، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكباد حرّى.
    وقد كانت هذه الفكرة تروّج بالخطباء ووعّاظ السلاطين مرتزقة البلاط الاموي.


(115)
     ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة ، بل يرونها من حبائل الشيطان ، اُلقيت لاصطياد المستضعفين ، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم ، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس ، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون ، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً ، فكان جزاؤهم القتل والصّلب والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور ، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.
    ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم ، وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته ، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى ، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفيّ ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا ، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان ، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.
    واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ « القدريّة » ، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف ، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف ، ومدار بعث الرسل ، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم ـ كذباً وزوراً ـ بانكار تقدير الله وقضائه ، من باب إطلاق الشيء ( القدريّة ) وإرادة نقيضه ( انكار القدر ونفيه ) ، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.

دعاة الحرية
    1 ـ معبد بن عبدالله الجهني البصري ( م 80 ) : أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس ، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم ، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه ، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين ،


(116)
     وخرج مع ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف ، فخرج وأقام بمكّة فقتله الحجّاج صبراً بعد أن عذّبه ، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان في دمشق على القول بالقدر ثمّ قتله (1).
    وقال المقريزي في خططه: « أوّل من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري ، فتكلّم بالقدر في البصرة ، وسلك أهل البصرة مسلكه لمّا رأوا عمرو بن عبيد ينتحله ، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري ، فلمّا عظمت الفتنة به عذّبه الحجّاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان ، سنة ثمانين من الهجرة ـ إلى أن قال: وكان عطاء بن يسار قاضياً يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري ، فيقولان له إنّ هؤلاء يسفكون الدّماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله فقال: كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا » (2).
    2 ـ غيلان بن مسلم الدمشقي: وهو ثاني من تكلّم بالقدر ودعا إليه ولم يسبقه سوى معبد الجهني. قال الشهرستاني في « الملل والنحل »: « كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد ، وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز ، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته. فأفتى الأوزاعي بقتله ، فصلب على باب كيسان بدمشق وقتل عام ( 105 ) (3).
    قال القاضي عبد الجبّار: « ومنهم ( الطبقة الرابعة من المعتزلة ) غيلان بن مسلم ، أخذ العلم عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة » (4).
    وقال ابن المرتضى نقلاً عن الحاكم: « أخذ غيلان الدمشقي المذهب عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ولم تكن مخالفته ( الحسن ) لأبيه ولأخيه إلاّ في شيء من الإرجاء. روى
    1 ـ الأعلام للزركلي ج 8 ص 177 ناقلاً عن تهذيب التهذيب ج 10 ص 225 ، وميزان الاعتدال ج 3 ص 183 ، وشذرات الذهب ج 1 ص 88 ، والبداية والنهاية ج 9 ص 34.
    2 ـ الخطط المقريزية: ج 2 ص 356. سيوافيك نظرنا في كلامه فانتظر.
    3 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 47 ولسان الميزان ج 4 ص 424. والأعلام للزركلي ج 5 ص 320.
    4 ـ طبقات المعتزلة: ص 229 ولكلامه ذيل يجيء عن ابن المرتضى عند البحث عن جذور الإعتزال.


(117)
     أنّ الحسن كان يقول ـ إذا رأى غيلان في الموسم ـ : أترون هذا ، هو حجّة الله على أهل الشام ، ولكنّ الفتى مقتول ، وكان وحيد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله ، قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه. وسبب قتله أنّ غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يحذِّره فيه من انطفاء السنّة وظهور البدعة (1). فلمّا وصلت الرسالة إلى عمر بن عبد العزيز دعاه وقال: أعنّي على ما أنا فيه. فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن وردّ المظالم فولاّه فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة ، تعالوا إلى متاع الظّلمة ، تعالوا إلى متاع من خلَف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته ، وكان فيما نادي عليه جوارب خزّ فبلغ ثلاثين ألف درهم ، وقد أتكل بعضها. فقال غيلان: من يعذرني ممّن يزعم أنّ هؤلاء كانوا أئّمة هدى وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع. فمرّ به هشام بن عبد الملك قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي وإن ظفرت به لاُقطّعنّ يديه ورجليه فلمّا ولى هشام قتله على النّحو الّذي وعده » (2).
    وما ذكرناه من النُّصوص يوقفنا على اُمور:
    1 ـ إنّ القول بكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً يتّصل جذورها بالبيت الهاشمي. فقد عرفت أنّ معبداً الجهني كان تلميذاً لابن عبّاس ، وغيلان الدمشقي تتلمذ للحسن بن محمّد بن الحنفيّة. فما ذكره المقريزي من أنّه أخذ ذلك الرأي من أبي يونس سنسويه لا يركن إليه ، بعد ثبوت تتلمذهما لقادة الفكر من البيت الهاشمي ، ولعمران بن حصين الصحابي الجليل ومن أعلام أصحاب علي ( عليه السلام ).
    2 ـ إنّ نضال الرّجلين في العهد الأموي كان ضدّ ولاة الجور الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره ، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلّته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحريّة من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.
    1 ـ ستوافيك رسالته فانتظر.
    2 ـ المنية والأمل: ص 26.


(118)
    3 ـ إنّ هذا التاريخ يدلنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة.
    4 ـ إنّ صلب معبد الجهني بيد الحجّاج السفّاك بأمر عبد الملك أوضح دليل على أنّ الرجل كان من دعاة الإصلاح ، ولكن ثقل أمره على الطغمة الأمويّة فاستفزّوه من أديم الأرض وقطعوا جذوره بالصّلب والقتل ، كما أنّ قيام غيلان في وجه هشام بن عبد الملك يعرب عن صموده في سبيل الحقّ وإزهاق الباطل وقتله به يدلّ على قداسة ما كان يذهب إليه.
    وعلى أيّ تقدير; فهذان الرجلان ، في الطّليعة من دعاة الحريّة و الاختيار ، ويعدّان أسلافاً للاعتزال ولا يمتّان له بصلة غير الإشتراك في نفي الجبر و التسيير.
    5 ـ إنّ هؤلاء الأحرار و إن رُموا بالقدرية بمعنى إنكار القضاء و القدر ، ولكنّهم كانوا بصدد إثبات الاختيار و الحريّة للإنسان في مقابل الجبر و إغلال الأيدي الّذي كانت السلطة تشجّعه ، والاختيار هو الّذي بُنيت عليه الشرائع و عليه شرّعت التكاليف ، فإنكاره إنكار للأمر الضّروري.
    ولكنّ السلطة لأجل إخماد ثورتهم اتّهمتهم بالقدريّة حتّى تطعن بهم أنّهم خالفوا الكتاب و السنّة الدالّين على تقدير الأشياء من جانبه سبحانه و قضائه عليها ، و أين هذه التهمة ممّا تمسّك به القوم من الدعوة إلى الاختيار و الحريّة؟
    وأمّا تفسير القدريّة في حقّ هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه و أفعاله ، أنّه ليس لله سبحانه أي صنع في فعله فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء ، و به رُميت المعتزلة كما سيأتي الكلام فيه.
    و في الحقيقة كانت دعوة هؤلاء ردّ فعل لاسطورة الجبر الّتي كانت ذائعة في الصدر الأوّل عن طريق أهل الكتاب الّذين تلبّسوا بالإسلام ، و كانت الأكثريّة الساحقة من المسلمين يؤمنون بالقدر على وجه يجعل الإنسان مغلول اليدين. و قد قال


(119)
    أحد رجّاز ذلك الزمان معبّراً عن تلك العقيدة:
يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُم ولو علوت شاهقاً من العلم إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَم كيف توقِّيك و قد جفّ القلم (1)
    فإذا كان الرأي العام عند المسلمين هذا ، فعلى العالم أن يظهر علمه. فلأجل ذلك نرى أنّ معبداً الجهني و غيلان الدمشقي و القاضي عطاء بن يسار و غيرهم كعمر المقصوص ( م / 80 ) الّذي ظهر بدمشق و كان اُستاذاً للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية و قتله الأمويّون بتهمة إفساد الخليفة (2) انتفضوا ضدّ هذه الفكرة الفاسدة فلقوا ما لقوا من القتل و التنكيل ، و قد أدّوا رسالتهم.
    ولو أنّ علماء الإسلام في السنّة والجماعة قاموا بواجبهم في تلك الحقبة التأريخيّة وما هابوا السلطة ، لما ظهرت الحركات الرجعيّة بين الاُمّة الإسلاميّة في أوائل القرن الثاني ، الّتي كانت تدعو إلى الجاهليّة الاُولى ، ولأجل إيقاف القارئ على هذه الحركات ومبادئها سنعرض عليه بعض الحركات الرجعية الّتي ظهرت في القرن الثاني و الثالث بعد إكمال البحث في المقام فانتظر.

رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز
    الرسالة الّتي بعث بها غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز توقفنا:
    أوّلاً: على مكانته من الصمود في وجه المخالفين ، ومّما جاء في تلك الرسالة : « أبصرت يا عمر..... و ماكدت أعلم يا عمر ، أنّك أدركت من الإسلام خلقاً بالياً ، و رسماً عافياً ، فيا ميّت بين الأموات ، لا ترى أثراً فتتبع ، ولا تسمع صوتاً فتنتفع ، طفئ أمر السنّة ، وظهرت البدعة ، اُخيف العالم فلا يتكلّم ، ولا يعطى الجاهل فيسأل ، و ربّما نجحت الاُمة بالإمام ، و ربّما هلكت بالإمام ، فانظر أيّ الإمامين أنت ، فإنّه تعالى يقول :
    1 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 28 ط بيروت دار الجيل.
    2 ـ مختصر الدول لابن العبري: ص 151. لاحظ كتاب المعتزلة ص 91.


(120)
     ( وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) فهذا إمام هدى ، ومن اتّبعه شريكان ، وأمّا الآخر: فقال تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار وَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) ( القصص: 41 ) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار ـ إذاً لا يتبعه أحد ـ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله ، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع ، أو يصنع ما يعيب ، أو يعذّب على ماقضى ، أو يقضي ما يعذّب عليه ، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه ، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ، أو يعذّبهم على الطاعة ، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم و التظالم ، و هل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً ، و بالعمى عنه عمى » (1).
    و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء ، و غيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع و رجوعه القهقرى ، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة.. وأين كلامه هذا « اُنظر أيّ الإمامين أنت » من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة ، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
    و هذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة شفاها من الداء العضال الّذي بها تتبّع أقصى دائها فشفاها غلام إذا هزّ القناة سقاها
وقال الآخر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله

    1 ـ المنية والامل ص 25 ـ 26.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس