بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 101 ـ 110
(101)
المرجئة والفرق الاُخرى:
    الانسان يتصوّر بادئ بدء أنّ المرجئة كسائر الطّوائف لهم آراء في جميع المجالات الكلاميّة ، خاصّة بهم ، يفترقون بها عن غيرهم ، ولكن سرعان ما يتبيّن له أنّ الأصل المقوّم للمرجئة هو مسألة تحديد الإيمان والكفر. وأمّا الموضوعات الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ. ولأجل ذلك تفرّقوا في آخر أمرهم إلى فرق متبدّدة ومتضادّة. فترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج ، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة ، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار او باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:
    1 ـ مرجئة الخوارج ، 2 ـ مرجئة القدرية ، 3 ـ مرجئة الجبرية ، 4 ـ المرجئة الخالصة.
    وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض ، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للانسان ، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد ، وهو الإرجاء ، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:
    1 ـ اليونسيّة 2 ـ العبيديّة 3 ـ الغسّانيّة 4 ـ الشعبانيّة 5 ـ التومينية 6 ـ الصالحيّة.
    وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه ، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات ، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج ، يبغض عثماناً وعليّاً ، ويناضل ضدّ الحكّام ، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع ، ويرى الانسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.


(102)
شعراء المرجئة:
    قد وجد بين المرجئة شعراء عبّروا عن عقيدتهم في قصائدهم ونذكر هنا شاعرين:
    1 ـ ثابت بن قطنة. كان في صحابة يزيد بن المهلّب يولّيه أعمالاً من أعمال الثغور ، وقد روى أبو الفرج الإصفهاني قصيدة له في أغانيه مستهلّها:
يا هند فاستمعي لي أنّ سيرتنا نرجى الاُمور إذا كانت مشبهة المسلمون على الاسلام كلّهموا و لا أرى أنّ ذنباً بالغ أحداً لانسفك الدم إلاّ أن يراد بنا من يتّق الله في الدنيا فإنّ له و ماقضى الله من أمر فليس له كلّ الخوارج مُخط فى مقالته أمّا عليّ و عثمان فانّهما و كان بينهما شغب وقد شهدا يجزى عليّاً و عثماناً بسعيهما الله يعلم ماذا يحضران به أن نعبد الله لم نشرك به أحداً و نصدق القول فيمن جار أو عندا والمشركون استووا في دينهم قددا مِ النّاس شركا إذا ما وحّدوا الصمدا سفك الدماء طريقا واحداً جددا أجر التقيّ إذا وفّى الحساب غدا ردّ و مايقض من شيء يكن رشدا ولو تعبّد فيما قال و اجتهدا عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا شقّ العصا و بعين الله ما شهدا و لست أدري بحق آيةً وردا وكلّ عبد سيلقى الله منفردا (1)
    2 ـ عون بن عبدالله بن علقبة بن مسعود: وقد وصف بكونه من أهل الفقه والأدب وكان يقول بالإرجاء ثم عدل عنه وقال مخطئاً ما اعتقده:
فأوّل ما أُفارق غير شكّ وقالوا مؤمن من آل جور وقالوا مؤمن دمه حلال أُفارق ما يقول المرجئونا وليس المؤمنون بجائرينا وقد حرمت دماء المؤمنينا (2)

    1 ـ فجر الاسلام ص 281 ـ 282 نقلاً عن الأغاني ج 4 ص 204.
    2 ـ نفس المصدر:ص 282 ، نقلاً عن الأغاني ج 8 ص 92.


(103)
خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:
    قد عرفت التطوّر في فكرة الإرجاء وأنّه استقرّ رأي المرجئة أخيراً على أنّ الايمان عبارة عن الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب ، وهذا يكفي في اتّصاف الانسان بالإيمان. ولو صحّ ما نسب إليهم في شرح المواقف « من عدم العقاب على المعاصي » (1) فالمصيبة أعظم.
    وهذه الفكرة فكرة خاطئة تسير بالمجتمع ـ وخصوصاً الشباب ـ إلى الخلاعة والإنحلال الأخلاقي وترك القيم ، بحجّة أنّه يكفي في اتّصاف الانسان بالايمان ، وانسلاكه في سلك المؤمنين ، الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب ، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة ، ولا يضرّه شرب الخمر وفعل الميسر ، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.
    ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع ، لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه ، ومن الدين إلاّ اسمه. ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعياً ، اتّخذ هذه الفكرة واجهة لما يكنّ في ضميره.
    ولقد شعر أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بخطورة الموقف ، وعلموا بأن إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة ، والشيعة خاصّة ، سترجعهم إلى الجاهليّة ، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة فقالوا:
     « بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » (2).
    1 ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ، ص 229 و 238.
    2 ـ الكافي ج 6 ص 47 ، الحديث 5. قال المجلسي في المرآة عند شرح هذا الحديث: « أي علموهم في شرخ شبابهم بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التميز من الحديث ما يهتدون به الى معرفة الأئمة ( عليهم السلام ) والتشيع قبل أن يغويهم المخالفون ويدخلوهم في ضلالتهم ، فيعسر بعد ذلك صرفهم عن ذلك. والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنى التأخير ، لتأخيرهم عليّاً عليه السلام عن مرتبته ، وقد يطلق في مقابلة الوعيديّة إلاّ أن الأول هو المراد هنا ».
ويحتمل أن يكون المراد هو الثاني بقرينة « أولادكم » فإنّ فكرة الإرجاء بالمعنى الأول تضرّ الكلّ ، وبالمعنى الثاني تضر الشباب الّذين تهددهم الغرائز الجامحة كما أوعزنا إليه في المتن.


(104)
    وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة تضرّ بالمجتمع عامّة. وإنّما خصّص الإمام منهم الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة ، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر للشباب لاقتراف الذنوب والانحلال الأخلاقي والانكباب وراء الشهوات مع كونهم مؤمنين.
    ولو صحّ ما ادّعته المرجئة من الايمان والمعرفة القلبيّة ، والمحبّة لإله العالم ، لوجب أن تكون لتلك المحبّة القلبيّة مظاهر في الحياة ، فإنّها رائدة الانسان وراسمة حياته ، والانسان أسير الحبّ وسجين العشق ، فلو كان عارفاً بالله ، محبّاً له ، لاتّبع أوامره ونواهيه ، وتجنّب ما يسخطه ويتّبع ما يرضيه ، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحبِّ.
    ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الذي يتركه الحبّ والودّ في نفس المحبّ في كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال: « ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه » ثم أنشد الامام ( عليه السلام ) قائلاً:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه لو كان حبّك صادقاً لأطعته هذا محالٌ في الفعال بديع إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع (1)
    إنّ للامام الصادق ( عليه السلام ) احتجاجاً على المرجئة ، علّمه لأحد أصحابه وأبطل فيه حجّة القائل بكفاية الاقرار بالايمان قياساً على كفاية الانكار باللسان في الكفر ، وإليك الحديث:روى محمّد بن حفص بن خارجة قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والايمان وقال: إنّهم يحتجّون علينا ويقولون: كما أنّ الكافر عندنا هو الكافر عند الله ، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإ يمانه أنّه عند الله مؤمن ، فقال: سبحان الله; وكيف يستوي هذان ، والكفر إقرار من العبد فلا يكلّف بعد اقراره ببيّنة ، والايمان دعوى لا يجوز إلاّ ببيّنة ، وبيّنته عمله ونيّته ، فإذا اتّفقا فالعبد عند الله مؤمن ، والكفر موجود بكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث ، من نيّة ، أو
    1 ـ سفينة البحار: ج 1 ص 199 مادة « حبب ».

(105)
    قول ، أو عمل. والأحكام تجري على القول والعمل ، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان ، ويجري عليه أحكام المؤمنين ، وهو عند الله كافر ، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله (1).
    توضيح الرواية; أنّ الامام ـ عليه السلام ـ شبّه الاقرار الظاهري بالدعوة كسائر الدعاوي ، كما أنّ الدعوة في الدعاوي لا تقبل إلاّ ببيّنة ، فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوة غير مقبولة إلاّ بشاهدين من قلبه وجوارحه فلا يثبت إلاّ بهما.

المرجئة وعلماء الشيعة
    إنّ علماء الشّيعة الإماميّة تبعاً لأئمتهم ، قاموا في وجه المرجئة وحذّروا الاُمّة من ألوان خداعهم ، علماً منهم بأنّ في نفوذ فكرة الارجاء ، مسخ الإسلام ومحوه من أديم الأرض ، وإليك كلمة قيّمة لفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى عام 260هـ ) من أصحاب الأئمة الثلاثة: ـ الجواد والهادي والعسكري ( عليهم السلام ) ذكرها في كتابه ( الايضاح ص 20 ) قال: « ومنهم المرجئة الّذين يروي منهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي ، وإبراهيم بن يزيد التيمي ، ومن دونهما مثل سفيان الثوري ، وابن المبارك ووكيع ، وهشام ، وعلي بن عاصم عن رجالهم أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب; القدريّة والمرجئة. فقيل لهم: ما المرجئة؟ قالوا: الّذين يقولون: الايمان قول بلا عمل. وأصل ما هم عليه أنّهم يدينون بأنّ أحدهم لو ذبح أباه واُمّه وابنه وبنته وأخاه واُخته ، وأحرقهم بالنار ، أو زنى ، أو سرق ، أوقتل النّفس الّتي حرّم الله ، أو أحرق المصاحف ، أو هدم الكعبة ، أو نبش القبور ، أو أتى أيّ كبيرة نهى الله عنها ، إنّ ذلك لا يفسد عليه ايمانه ، ولا يخرجه منه ، وأنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين إنّه مستكمل الايمان ، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل ـ صلّى الله عليهما ـ فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب ممّا نهى الله عنه ، ويحتجّون بأنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اُمرنا أن نقاتل النّاس حتّى يقولوا:
    1 ـ الكافى: ج 2 ص 39 ـ 40 ، الحديث 8.

(106)
     لا إله إلا الله ، وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ.
    وقد روى محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن المغيرة بن سعيد ، عن أبيه ، عن مقسم ، عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود هذه الاُمّة. وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حين قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصوم شهر رمضان (1).
    وله ـ رحمه الله ـ احتجاج و مناشدة مع المرجئة في كتابه فمن أراد فليرجع إليه (2).
    هل كان أبو حنيفة مرجئياً؟
    إنّ المشهور بين أرباب الملل والنحل أنّ الامام أبا حنيفة كان مرجئيّاً ، وممن نقل ذلك ، الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه « مقالات الإسلاميين » فقال: « الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أنّ الإيمان المعرفة بالله ، والإقرار بالله والمعرفة بالرّسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفصيل ».
    ثمّ ينقل عن غسّان وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنّهم ينقلون عن أسلافهم أنّ الايمان هو الاقرار والمحبّة لله والتعظيم له والهيبة منه ، وترك الاستخفاف بحقّه ، وأنّه يزيد ولا ينقص (3).
    والظّاهر هو الأوّل لتنصيصه في كتاب « العالم والمتعلّم » الذي أملاه وكتبه ت لاميذه على ذلك وإليك النصّ:
    قال العالم ـ رضي الله عنهـ : الايمان هو التصديق والمعرفة واليقين والاقرار والاسلام. والناس في التصديق على ثلاث منازل:
    فمنهم: من يصدِّق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه.
    1 ـ الايضاح: ص 20 ـ 21.
    2 ـ الايضاح :ص 47 ـ 66.
    3 ـ مقالات الاسلاميين: ص 132.


(107)
    ومنهم: من يصدِّق بلسانه ويكذّب بقلبه.
    ومنهم: من يصدّق بقلبه ويكذّب بلسانه.
    قال المتعلّم ـ رحمه الله ـ : لقد فتحت لي باب مسألة لم أهتد إليه ، فأخبرني عن أهل هذه المنازل الثّلاث أهم عند الله مؤمنون؟
    قال العالم ـ رضي الله عنهـ : من صدّق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن.
    ومن صدّق بلسانه وكذّب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً ، لأنّ الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليه يسمّونه. مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب.
    ومنهم من يكون عند الله مؤمناً وعند الناس كافراً وذلك بأنّ الرّجل يكون مؤمناً بالله وبما جاء عنه. ويظهر الكفر بلسانه في حال التقيّة أي الإكراه فيسمّيه من لا يعرف أنّه يتّقي ، كافراً ، وهو عند الله مؤمن (1).
    وفي الفقه الأكبر المنسوب له ما هذا نصّه: « الإيمان هو الإقرار والتصديق » وجاء فيه: « ويستوي المؤمنون كلّهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبّة والرضا والرجاء ويتفاوتون فيما دون الايمان في ذلك كلّه ». وجاء فيه: « الله متفضّل على عباده عادل قد يعطي في الثّواب أضعاف ما يستوجبه العبد ، تفضّلاً منه وقد يعاقب على الذّنب عدلاً منه وقد يعفو فضلاً منه » ، وجاء فيه: « ولا نكفّر أحداً بذنب ولا ننفي أحداً عن الايمان » (2).
    أقول: إنّ القول بأنّ الايمان هو التصديق القلبي فقط ، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل ويرى النجاة والسعادة فيه ، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير
    1 ـ العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة ، تحقيق عمر رواس قلعة جى وعبد الوهاب الهندي الندوي ، ص 52 ـ 53.
    2 ـ ضحى الإسلام: ج 3 ص 321.


(108)
     رابح. فالمرجئة هم الّذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثراً في الحياة الاُخرويّة ، ويعيشون على أساس العفو والرجاء وبالجملة يهتمّون بالرغب دون الرهب والله سبحانه يقول: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً ) ( الأنبياء / 90 ).
    وعلى ذلك; فرمي كلّ من قال بأنّ الايمان هو التصديق بالإرجاء ، رمي في غير محلّه ، فإذا كان المرميّ ذا عناية خاصّة بالعمل بالأركان ، والقيام بالجوارح ، وكان شعاره قوله سبحانه: ( إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحَقّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) فهو على طرف النقيض منهم ، خصوصاً على ما نقله شارح المواقف من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.
    هذا إجمال القول في عقيدة المرجئة وما يترتّب عليها من المفاسد ، ولأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) كلمات في حقّهم حذّروا المجتمع فيها من تلك الطائفة يجدها المتتبّع في محلّه (1). ويظهر من الأمير نشوان الحميري ( المتوفّى عام 573 هـ ) شيوع المرجئة في عصره في الأوساط الإسلاميّة قال: « وليس كورة من كور الاسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل » (2) ـ أعاذنا الله من شرّ الأبالسة.
إكمال :
    قد عرفت التطوّر في استعمال لفظ « المرجئة » وأنّها تستعمل تارة في تأخير القول في عثمان وعليّ ، وعدم القضاء في حقّهما بشيء ، وإرجاع أمرهما إلى الله. وأُخرى في تقديم القول على العمل وتأخيره عنه قائلاً بأنّه لا تضرّ مع الايمان المعصية ، كما لا تنفع مع
    1 ـ بحار الأنوار: ج 18 ص 392 فصل المعراج ، وغيره.
    2 ـ شرح الحور العين ص 203 ، كما في « بحوث مع أهل السنة ».


(109)
     الكفر الطاعة ، والحسن بن محمّد بن الحنفيّة مبدع الإرجاء بالمعنى الأوّل ، لا الثاني. وإطلاقها على المعنيين لاشتراكهما في التأخير.
    غير أنّ الدكتور جلال محمّد عبد الحميد موسى نسب الإرجاء بالمعنى الثاني الى الحسن وقال: « إنّنا نجد بذور هذا المذهب عند الحسن بن محمّد الحنفيّة ( ت 101هـ ) وهو عالم من علماء أهل البيت ، قد تصدّى للردّ على الخوارج حين نشروا مبدأهم الخطير « لا عقد بدون عمل » وهو يستلزم تكفير مرتكب الكبيرة واستحلال قتله ، فأعلن « الحسن » أنّه لا يضرّ مع الايمان معصية وأنّ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الايمان ، حتى يزول الايمان بزوالها » (1).
    وما ذكره خلط بين معنيي الارجاء فلاحظ ، وقد تقدّم في كلام ابن حجر التصريح بذلك (2).
    تمّ الكلام في المرجئة
    1 ـ نشأة الأشعرية وتطورها: ص 20.
    2 ـ تهذيب التهذيب: ج 2 ، ص 321.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس