بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 131 ـ 140
(131)
    2 ـ ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ( م 101 هـ ) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد ، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر ، والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام ، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل « ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه ».
    وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346 ـ 353.
    3 ـ ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري ( م 110 هـ ) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: « بلغنا عنك في القدر شيء » فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص 13 ـ 14.
    قال الشهر ستاني : « ورأيت رسالة (1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن مروان و قد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية ، والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشرّ ، والحسن والقبيح ، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم » (2).
    ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل ، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً ـ حتّى الصادر من العبد ـ هو الله سبحانه دون العبد ، ومن
    1 ـ نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » ص 215 ـ 223.
    2 ـ الملل والنحل ج 1 ص 47 ، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.


(132)
     كان هذا مذهبه ، يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري ـ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة ـ.
    وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه ، لا على وجه التفويض من الله إليه ، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين ، واختيار كُوِّنت ذاته به ، و حريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً ، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.
    وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد ( ت: 326 ـ م ـ 385 ) في الردّ على القدريّة أسماها « الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل ».
    وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة ، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:

رسالة الصاحب في الرد على القدريّة ( المجبّرة )
    زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد ، ويحبُّ الكفر والعدوان ، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد ، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم ، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد ، وكيف يريد الفساد و قد نهى عنه و توعّد ، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه ، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى ، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص ، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده ، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم ، ولم يرد أن يعظّم ، ورضى أن تجحد نعمه ، وأحبّ أن لا تشكر مننه ، قال الله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ ) (1) وقال تعالى : ( ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ ) (2)
    1 ـ المؤمن / 31.
    2 ـ الزمر / 9.


(133)
     وقال تعالى : ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (1) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ ـ إلى قوله ـ و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (2) أي تكذبون.
    فإن قالوا : وقال الله ( وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (3) فقل: هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ (4) ) وقال تعالى في سورة اُخرى: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (5).
    فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه ، فهذا ينقلب في الأمر ، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً ، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله ، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا ، كلاّ...بل هو الغالب ، و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان ، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً ، بل أزاح عللهم ، وأقدرهم و أمكنهم ، فمن أحسن فإلى ثوابه ، ومن أساء فإلى عقابه ، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: ( وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) (6) وكقوله تعالى: ( وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا ـ إلى قوله ـ أَجْمَعِينَ ) (7) وقال تعالى: ( لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) (8).
    وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق الكفر و فاعله ، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي القيادة و موجدها ، ومبتدع السرقة و محدثها ، و كلّ قبائح العباد من صنعته ، وكلّ تفاوت فمن عنده ، وكلّ فساد فمن تقديره ، وكلّ خطأ فمن تدبيره.
    فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك ، فإذا طولبوا بمعنى
    1 ـ البقرة / 205.
    2 ـ الأنعام / 148.
    3 ـ الدهر / 30.
    4 ـ التكوير / 28 ـ 29.
    5 ـ الدهر / 29 ـ 30.
    6 ـ يونس / 99.
    7 ـ السجدة / 13.
    8 ـ البقرة / 256.


(134)
    الكسب لم يأتوا بشيء معقول ، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً ، وصواباً وعدلاً ، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله ، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به ، و إنّما تولّى المذمّة العاصي ، إذ باع الآخرة بالدُّنيا ، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى ، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها ، إذ خلقها على ما خلقها ، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق ، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما خلق و يذمّ مافعل ، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع ، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد ، أو من الله و من العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله ، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب ، وقال تعالى : ( يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ـ إلى قوله ـ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1) ) فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال: ( وما هو من عند الله ) (2).
    وبعد ، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة ، فعلمنا أنّ الكفر ليس منها ، و هكذا أخبر تعالى بقوله : ( الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ) (3) وقوله تعالى: ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء (4) ).
    فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها ، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام ، والأصنام أجساد ، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام ، بل الله خلقها ، ألا ترى أنّه قال تعالى : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (6).
    فإن قالوا: ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ ) (7) فقل: إنّه أدلّ على العدل ، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح ، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها ، وعدلاً لا ظلم معها ، تنزّه عن أن يسأل ، ولم يرد بهذا ما
    1 ـ آل عمران / 78.
    2 ـ آل عمران / 78.
    3 ـ السجدة / 7.
    4 ـ النمل / 88.
    5 ـ الصافات / 96.
    6 ـ الصافات / 95 ـ 96.
    7 ـ الأنبياء / 23.


(135)
     تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم ( كذا ) ، كلاّ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل ، وعدله الفائض ، ولولا ذلك لم يقل: ( لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل ) (1) فنحن نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها ، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة ، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً ، بل نقول: إنّها منه ، بمعنى أنّه مكّن منها ، ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها ، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها ، وزجر وتوعّد عليها ، وخوّف منها و أنذر ، ونقول: إنّها من الشيطان بمعنى أنّه دعا إليها و أغوى ، و مَنّى في الغرور ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ (2) ) ( أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (3) و قال تعالى في صفة الشيطان: ( يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً ) (4).
    فإن قالوا: فقد قال تعالى: ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك ، لأنّه تعالى يقول: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ـ إلى قوله ـ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (6) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله ـ عليه السلام ـ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك ، كما قال تعالى: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ ) (7) فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّهـ يعني الخصب والجدب ـ من عنده ، إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ ) (8).
    وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار ، وخلقهم أشقياء بلا ذنب
    1 ـ النساء / 165.
    2 ـ فصلت / 46.
    3 ـ النحل / 90.
    4 ـ النساء / 120.
    5 ـ النساء / 78.
    6 ـ النساء / 78.
    7 ـ الاعراف / 131.
    8 ـ النساء / 79.


(136)
     ولا جرم ، وغضب عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه ، وخذلهم من قبل أن يعصوه ، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه ، وقالت العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته ، ولم يخلقهم لمخالفته ، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة ، ولم يضلّ عن دينه و سبيله.
    وكذا أخبر بقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (2).
    فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل: « لام العاقبة » معناها أنّ مصيرهم إلى النار ، كما قال تعالى: ( فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) ـ إلى (5) آخرهـ وكذلك الجواب بقوله تعالى: ( أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).
    وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه ، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به ، وأنّ الأنبياء ( عليهم السلام ) أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين ، و قالت العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً ، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة ، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: ( وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ) (7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي ، و أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته ، وذلك جزاء على سيئاتهم ، وعقاب على جرمهم ، قال الله تعالى: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (8) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل
    شياطين الجنّ والإنس ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال: ( وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ ) (9) وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:
    1 ـ الذاريات / 56.
    2 ـ ص / 75.
    3 ـ الأعراف / 179.
    4 ـ القصص / 8.
    5 ـ القصص / 9.
    6 ـ آل عمران / 178.
    7 ـ فصلت / 16.
    8 ـ البقرة / 26 ـ 27.
    9 ـ طه / 85.


(137)
     ( وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ ) (1) وما يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.
    وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون ، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار ، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به ، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم ، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم ، وأراده منهم ، وقضاه عليهم ، عاقبهم عذاباً دائماً.
    وقالت العدليّة : معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له ( الوسع: دون الطاقة ) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و عبث ، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة ، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى: ( لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل ، قال تعالى: ( ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) ـ إلى آخره (3) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: ( فَأَنّى يُؤْفَكُونَ ) (5).
    و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله ، ونفيناها عنه سبحانه ، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً ، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه ، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً ، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.
    فإن قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم ، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه ، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين ، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى أوينزّه عنها ، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.
    1 ـ البقرة / 286.
    2 ـ الشعراء / 99.
    3 ـ آل عمران / 97.
    4 ـ التكوير / 26.
    5 ـ العنكبوت / 61.


(138)
    وبعد: فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا القول ، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق ، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها ، وقد قال عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) ـ إلى آخرها ـ (1).
    تمّ الكلام في القدريّة
    1 ـ النساء / 112.

(139)
4
الجهميّة
الحركات الرجعية
    الحركات الرجعية ونعني بها الحركات الفكرية الّتي ظهرت بين المسلمين بين القرنين الثاني والثالث ، وهي ترمي إلى إرجاع الاُمّة إلى العقائد السائدة في العصر الجاهلي بين المشركين وأهل الكتاب ، من القول بالجبر والتجسيم إلى غير ذلك من البضائع الفكريّة المستوردة منهم إلى أوساط المسلمين.
    ولأجل إيقاف القارىء على نماذج من هذه الحركات ، نبحث عن عدّة مناهج زرعت شروراً في المجتمع الإسلامي ، وبقيت آثارها إلى العصر الحاضر لكن بتغيير الاسم والعنوان ، وتحت غطاء مخدع. والسبب الوحيد لبثّ هذه السموم هو إقصاء العقل عن ساحة العقائد وإخضاعه لكلّ رطب ويابس يتّسم بسمة الحديث ، وليس بحديث ، بل يعدّ من مرويات العهدين وأقاصيص الأحبار والرهبان. وإليك بيان هذه الحركات واحدة تلو الاُخرى:
الجهميّة وسماتها: الجبر والتعطيل
مؤسّسها جهم بن صفوان السمرقندي ( ت 128 هـ ). قال الذهبي: « جهم بن صفوان ، أبو محرز السمرقندي الضالّ المبتدع ، رأس الجهميّة ، هلك في زمان


(140)
    صغارالتّابعين ، و ما علمته روى شيئاً ، لكنّه زرع شرّاً عظيماً » (1).
    قال المقريزي: « الجهميّة أتباع جهم بن صفوان التّرمذي مولى راسب ، و قتل في آخر دولة بني أُميّة ، و هو:
    1 ـ ينفي الصفات الإلهية كلّها ، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه.
    2 ـ أنّ الإنسان لا يقدر على شيء و لا يوصف بالقدرة ، ولا الإستطاعة.
    3 ـ أنّ الجنّة و النار يفنيان ، و تنقطع حركات أهلهما.
    4 ـ أنّ من عرف اللّه ولم ينطق بالإيمان لم يكفر ، لأنّ العلم لا يزول بالصمت ، و هو مؤمن مع ذلك.
    وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة. وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات و خلق القرآن ونفي الرؤية.
    5 ـ وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.
    6 ـ وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره (2).
    وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ( 128هـ ) كيفيّة قتله بيد نصر بن سيّار ، ومن أراد فليرجع إليه (3).
    وقد نسب إليه عبد القاهر البغدادي ، أُصولاً تقرب ممّا نسب إليه المقريزي في خططه على ما عرفت.
    وقال : « وكان جهم مع ضلالاته الّتي ذكرناها يحمل السّلاح و يقاتل السلطان
    1 ـ ميزان الاعتدال: ج 1 ص 426 رقم الترجمة 1584.
    2 ـ الخطط المقريزية: ج 3 ، ص 349 ولاحظ ص 351.
    3 ـ الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 342 ـ 345.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس