2 ـ ما كتبه
الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ( م 101 هـ ) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية
وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر
علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد ، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج
منه الجبر ، والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى
طالحهم كيف شوّهوا الإسلام ، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل « ولولاكم لعمّ
الإسلام العالم كلّه ».
وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة.
وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346 ـ 353.
3 ـ ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن
البصري ( م 110 هـ ) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: « بلغنا عنك في القدر
شيء » فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص
13 ـ 14.
قال الشهر ستاني : « ورأيت
رسالة (1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن
مروان و قد سأله عن القول بالقدر
والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و
دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف
في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها
عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية ،
والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله
تعالى دون الخير والشرّ ، والحسن والقبيح ، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك
أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم » (2).
ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة
لواصل ، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً ـ حتّى
الصادر من العبد ـ هو الله سبحانه دون العبد ، ومن
1 ـ
نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » ص
215 ـ 223. 2 ـ
الملل والنحل ج 1 ص 47 ، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ
اقض.
(132)
كان هذا مذهبه ،
يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري ـ ذلك الإمام المقدّم عند أهل
السنّة ـ.
وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل
الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه ، لا على وجه التفويض من الله إليه ، بل بقدرة
مفاضة منه إليه في كلّ حين ، واختيار كُوِّنت ذاته به ، و حريّة فطرت بها فالفعل
فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً ، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في
محلّه.
وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه
كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد ( ت: 326 ـ م ـ 385 ) في الردّ على القدريّة
أسماها « الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل ».
وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها
نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة ، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على
وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:
رسالة الصاحب في الرد على القدريّة
( المجبّرة ) زعمت
المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد ، ويحبُّ الكفر والعدوان ،
ويشاء أن يشرك به ولا يعبد ، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم ، وقالت العدليّة : بل
الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد ، وكيف يريد
الفساد و قد نهى عنه و توعّد ، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه ، ولو
لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى ، فإن كان
الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص ، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا
فعل ما يريده ، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم ، ولم يرد أن يعظّم ، ورضى أن
تجحد نعمه ، وأحبّ أن لا تشكر مننه ، قال الله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً
لِلْعِبادِ ) (1) وقال
تعالى : ( ولا يَرضى لِعبَادِهِ
الكُفْرَ ) (2) 1 ـ
المؤمن / 31. 2 ـ
الزمر / 9.
(133)
وقال تعالى :
( وَاللّهُ لا يُحِبُّ
الفَسَادَ ) (1) وقال
تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا
أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ ـ إلى قوله ـ
و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (2) أي
تكذبون.
فإن قالوا : وقال الله ( وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ
اللّهُ ) (3) فقل: هذه الآية وردت على
الخير دون الشرّ. وقال تعالى :
( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ (4)) وقال تعالى في سورة اُخرى: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً
* وَ مَا تَشَاءُونَ
إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (5).
فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم
يفعل لكان العبد قد غلبه ، فهذا ينقلب في الأمر ، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً ،
وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله ، وأمر آخر
بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا ، كلاّ...بل هو الغالب ،
و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان ، لأنّ المكره لا يستحقّ
ثواباً ، بل أزاح عللهم ، وأقدرهم و أمكنهم ، فمن أحسن فإلى ثوابه ، ومن أساء فإلى
عقابه ، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: ( وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا
مُؤْمِنينَ ) (6) وكقوله
تعالى: ( وَلَو شِئْنَا
لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا ـ إلى قوله ـ أَجْمَعِينَ ) (7) وقال
تعالى: ( لاإِكْرَاهَ فِي
الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) (8).
وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق
الكفر و فاعله ، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي القيادة و موجدها ، ومبتدع السرقة
و محدثها ، و كلّ قبائح العباد من صنعته ، وكلّ تفاوت فمن عنده ، وكلّ فساد فمن
تقديره ، وكلّ خطأ فمن تدبيره.
فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد
يكتسب ذلك ، فإذا طولبوا بمعنى
1 ـ
البقرة / 205. 2 ـ
الأنعام / 148. 3 ـ
الدهر / 30. 4 ـ
التكوير / 28 ـ 29. 5 ـ
الدهر / 29 ـ 30. 6 ـ
يونس / 99. 7 ـ
السجدة / 13. 8 ـ
البقرة / 256.
(134)
الكسب لم يأتوا
بشيء معقول ، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً ، وصواباً
وعدلاً ، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله ، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به ، و
إنّما تولّى المذمّة العاصي ، إذ باع الآخرة بالدُّنيا ، ولم يعلم أنّ ما عندالله
خير وأبقى ، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما
لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها ، إذ خلقها على ما خلقها ، ولو خلق
الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق ، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما
خلق و يذمّ مافعل ، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع ، ولا
تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد ، أو من الله و من
العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله ، أو من العبد فهو يستحقّ
العقاب ، وقال تعالى : ( يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ـ إلى قوله ـ وَ هُمْ
يَعْلَمُونَ (1)) فلو كان لوي ألسنتهم من
خلق الله تعالى لما قال: ( وما هو من عند الله ) (2).
وبعد ، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة ،
فعلمنا أنّ الكفر ليس منها ، و هكذا أخبر تعالى بقوله : ( الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء
خَلَقَهُ ) (3) وقوله
تعالى: ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء (4)).
فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا
تَعْمَلُونَ ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم
صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم
فيها ، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام ، والأصنام أجساد ، وليس من
مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام ، بل الله خلقها ، ألا ترى أنّه قال تعالى :
( أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (6).
فإن قالوا: ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ
يُسْأَلُونَ ) (7) فقل:
إنّه أدلّ على العدل ، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح ، والله تعالى
لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها ، وعدلاً لا ظلم معها ، تنزّه عن أن
يسأل ، ولم يرد بهذا ما
1 ـ
آل عمران / 78. 2 ـ
آل عمران / 78. 3 ـ
السجدة / 7. 4 ـ
النمل / 88. 5 ـ
الصافات / 96. 6 ـ
الصافات / 95 ـ 96. 7 ـ
الأنبياء / 23.
(135)
تريده الفراعنة
إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم ( كذا ) ، كلاّ...
فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل ، وعدله الفائض ، ولولا ذلك لم
يقل: ( لئلا يكون للنّاس على
الله حجّة بعد الرسل ) (1) فنحن
نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها ، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة ، والله
تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً ، بل نقول: إنّها منه ، بمعنى أنّه مكّن منها ،
ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها ، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى
عنها ، وزجر وتوعّد عليها ، وخوّف منها و أنذر ، ونقول: إنّها من الشيطان بمعنى
أنّه دعا إليها و أغوى ، و مَنّى في الغرور ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ (2)) ( أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ ـ إلى
قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
(3) و قال تعالى في صفة الشيطان: ( يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً )
(4).
فإن قالوا: فقد قال تعالى: ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ )
(5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك ،
لأنّه تعالى يقول: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ـ إلى قوله ـ قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللّهِ ) (6) فإنّما
هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله ـ عليه السلام ـ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا
من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك ، كما قال تعالى:
( وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ لا
يَعْلَمُونَ ) (7) فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّهـ يعني الخصب
والجدب ـ من عنده ، إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على
ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا
أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ )
(8).
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق
أكثر العباد للنّار ، وخلقهم أشقياء بلا ذنب
1 ـ
النساء / 165. 2 ـ
فصلت / 46. 3 ـ
النحل / 90. 4 ـ
النساء / 120. 5 ـ
النساء / 78. 6 ـ
النساء / 78. 7 ـ
الاعراف / 131. 8 ـ
النساء / 79.
(136)
ولا جرم ، وغضب
عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه ، وخذلهم من قبل أن يعصوه ، وأضلّهم عن الطّريق
الواضح من غير أن خالفوه ، وقالت العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته ، ولم يخلقهم
لمخالفته ، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة ، ولم يضلّ عن دينه و
سبيله.
وكذا أخبر بقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ
لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف
يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول:
( مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (2).
فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ
الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل:
« لام العاقبة » معناها أنّ مصيرهم
إلى النار ، كما قال تعالى: ( فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ
حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم
قرّة عين ، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي
وَلَكَ ) ـ إلى (5) آخرهـ وكذلك الجواب
بقوله تعالى: ( أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ
أكثر عباده من دينه ، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به ، وأنّ
الأنبياء ( عليهم السلام ) أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين ، و قالت
العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً ، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو
الدلالة ، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: ( وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ) (7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي ، و
أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته ، وذلك جزاء على سيئاتهم ، وعقاب على جرمهم ، قال الله
تعالى: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إلاّ الفَاسِقِينَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ ) (8) فأمّا
الضلال عن الدين فهو فعل
شياطين الجنّ والإنس ، ألا ترى أنّ الله
تعالى ذمّ عليهم فقال: ( وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ ) (9) وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:
1 ـ
الذاريات / 56. 2 ـ
ص / 75. 3 ـ
الأعراف / 179. 4 ـ
القصص / 8. 5 ـ
القصص / 9. 6 ـ
آل عمران / 178. 7 ـ
فصلت / 16. 8 ـ
البقرة / 26 ـ 27. 9 ـ طه / 85.
(137)
( وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ
المُجْرِمُونَ ) (1) وما
يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.
وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف
العباد ما لا يطيقون ، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار ، ولا
يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به ، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره
عليهم ، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم ، وأراده منهم ، وقضاه عليهم ، عاقبهم عذاباً
دائماً.
وقالت العدليّة : معاذالله! إنّ الله
لايكلّف العباد ما لايتّسعون له ( الوسع: دون الطاقة ) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و
عبث ، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز
أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة ، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال
تعالى: ( لايكلّف الله نفساً
إلاّ وسعها ) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل
الفعل أن يفعل ، قال تعالى:
( ولله عَلَى النَّاسِ
حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً )
ـ إلى آخره (3) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ ، ولو لم
يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: ( فَأَنّى يُؤْفَكُونَ )
(5).
و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة
حتم من الله ، ونفيناها عنه سبحانه ، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً ،
فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة
إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه ، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر
نصرانيّاً ، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.
فإن قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم ،
ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه ، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في
كوننا قادرين ، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى
أوينزّه عنها ، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.
1 ـ
البقرة / 286. 2 ـ
الشعراء / 99. 3 ـ
آل عمران / 97. 4 ـ
التكوير / 26. 5 ـ
العنكبوت / 61.
(138)
وبعد: فلوكان من
أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا
القول ، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق ، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى
الله تعالى البريء منها ، وقد قال عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ
يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) ـ إلى آخرها ـ
(1).
تمّ الكلام في القدريّة
1 ـ
النساء / 112.
الحركات الرجعية الحركات الرجعية ونعني بها الحركات الفكرية الّتي
ظهرت بين المسلمين بين القرنين الثاني والثالث ، وهي ترمي إلى إرجاع الاُمّة إلى
العقائد السائدة في العصر الجاهلي بين المشركين وأهل الكتاب ، من القول بالجبر
والتجسيم إلى غير ذلك من البضائع الفكريّة المستوردة منهم إلى أوساط المسلمين.
ولأجل إيقاف القارىء على نماذج من هذه
الحركات ، نبحث عن عدّة مناهج زرعت شروراً في المجتمع الإسلامي ، وبقيت آثارها
إلى العصر الحاضر لكن بتغيير الاسم والعنوان ، وتحت غطاء مخدع. والسبب الوحيد
لبثّ هذه السموم هو إقصاء العقل عن ساحة العقائد وإخضاعه لكلّ رطب ويابس يتّسم
بسمة الحديث ، وليس بحديث ، بل يعدّ من مرويات العهدين وأقاصيص الأحبار والرهبان.
وإليك بيان هذه الحركات واحدة تلو الاُخرى:
الجهميّة وسماتها: الجبر والتعطيل مؤسّسها جهم بن صفوان السمرقندي ( ت
128 هـ ). قال الذهبي: « جهم بن صفوان ، أبو محرز السمرقندي الضالّ المبتدع ، رأس
الجهميّة ، هلك في زمان
صغارالتّابعين ، و
ما علمته روى شيئاً ، لكنّه زرع شرّاً عظيماً » (1).
قال المقريزي: « الجهميّة أتباع جهم بن
صفوان التّرمذي مولى راسب ، و قتل في آخر دولة بني أُميّة ، و هو:
1 ـ ينفي الصفات الإلهية كلّها ، ويقول: لا
يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه.
2 ـ أنّ الإنسان لا يقدر على شيء و لا
يوصف بالقدرة ، ولا الإستطاعة.
3 ـ أنّ الجنّة و النار يفنيان ، و تنقطع
حركات أهلهما.
4 ـ أنّ من عرف اللّه ولم ينطق بالإيمان
لم يكفر ، لأنّ العلم لا يزول بالصمت ، و هو مؤمن مع ذلك.
وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة.
وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات و خلق القرآن ونفي الرؤية.
5 ـ وانفرد بجواز الخروج على السلطان
الجائر.
6 ـ وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف
بها غيره (2).
وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ( 128هـ )
كيفيّة قتله بيد نصر بن سيّار ، ومن أراد فليرجع إليه (3).
وقد نسب إليه عبد القاهر البغدادي ،
أُصولاً تقرب ممّا نسب إليه المقريزي في خططه على ما عرفت.
وقال : « وكان جهم مع ضلالاته الّتي
ذكرناها يحمل السّلاح و يقاتل السلطان
1 ـ
ميزان الاعتدال: ج 1 ص 426 رقم الترجمة 1584. 2 ـ
الخطط المقريزية: ج 3 ، ص 349 ولاحظ ص 351. 3 ـ
الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 342 ـ 345.