بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 231 ـ 240
(231)
    القاعدة الثانية: القول بالقدر ، وحاصلها أنّ العبد هو الفاعل للخير والشرّ والإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، والربّ أقدره على ذلك.
    القاعدة الثالثة: المنزلة بين المنزلتين ، وأنّ مرتكب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً ، بل فاسق مخلّد في النّار إنّ لم يتب.
    القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وصفّين ، أنّ أحدهما مخطئ لا بعينه ، وكذلك قوله في عثمان وخاذليه ، أنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة ، كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة ، لكن لا بعينه ».
    ثمّ رتّب الشّهرستاني على تلك القاعدة وقال: « وقد عرفت قوله في الفاسق وأقلّ درجات الفريقين أنّه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين ، فلم يجوِّز شهادة عليّ و طلحة والزبير على باقة بقل ، وجوّز أنّ يكون عثمان وعليّ على الخطأ » (1).
    أقول: إنّ القاعدة الاُولى إشارة إلى الأصل الأوّل من الاُصول الخمسة ، أعني التّوحيد ، وهذا الأصل عندهم رمز إلى تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتجسيم ، كما أنّ القاعدة الثانية من فروع الأصل الثاني ، أعني القول بالعدل ، فتوصيفه سبحانه به يقتضي القول بالقدر ، أي إنّ الانسان يفعل بقدرته واستطاعته المكتسبة ، ولا معنى لأن يكون خالق الفعل هو الله سبحانه ، ويكون العبد هو المسؤول. نعم دائرة الأصل الثاني ( العدل ) أوسع من هذه القاعدة.
    والقاعدة الثالثة نفس أحد الاُصول الخمسة ، وبقي منها أصلان ـ الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ولم يأت ذكر منهما في كلام « واصل ».
    وأمّا القاعدة الرابعة فقد خالف فيها واصل وتلميذه عمرو بن عبيد جمهور المعتزلة.
    قال ابن حزم: « اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق:
    1 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 49.

(232)
    1 ـ فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة و جمهور المعتزلة وبعض أهل السنّة: إنّ عليّاً كان هو المصيب فى حربه ، وكلّ من خالفه على خطأ. وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد و أبوالهذيل و طوائف من المعتزلة:
    إنّ عليّاً مصيب في قتاله مع معاوية و أهل النهروان ، ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل ، وقالوا: إحدى الطّائفتين مخطئة ولا نعرف أيّهما هي ، وقالت الخوارج: عليّ المصيب في قتال أهل الجمل و أهل صفّين وهو مخطىء في قتاله أهل النهر (1).
    ولا يخفى وجود الاختلاف بين النّقلين ، فعلى ما نقله الشهرستاني كانت الواصليّة متوقّفة في محاربي الإمام في وقعتي « الجمل وصفّين » وعلى ما نقله ابن حزم يختصّ التوقّف بمحاربيه في وقعة « الجمل » ويوافق ابن حزم عبد القاهر البغدادي ، وقال: « ثمّ إنّ واصلاً فارق السّلف ببدعة ثالثة ، وذلك أنّه وجد أهل عصره مختلفين في عليّ وأصحابه ، وفي طلحة والزبير وعائشة ، وسائر أصحاب الجمل ـ إلى ما ذكره » (2).
    ويوافقهما نقل المفيد حيث قال ما هذا خلاصته:
     « اتّفقت الإماميّة و الزيديّة والخوارج ، على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام كفّار ضلاّل ، ملعونون بحربهم أمير المؤمنين. وزعمت المعتزلة كلّهم أنّهم فسّاق ليسوا بكفّار ، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون ، وزعم واصل الغزّال و عمرو بن عبيد بن باب من بين كافّة المعتزلة أنّ طلحة و الزبير و عائشة ومن كان فى حربهم ، من عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين و محمّد ومن كان في حزبهم كعمّار بن ياسر وغيره من المهاجرين ، و وجوه الأنصار وبقايا أهل بيعة الرضوان ، كانوا في اختلافهم كالمتلاعنين وأنّ إحدى الطّائفتين فسّاق ضلاّل مستحقّون للخلود في النّار إلاّ أنّه لم يقم دليل عليها » (3).
    1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج 4 ص 153.
    2 ـ الفرق بين الفرق: ص 119.
    3 ـ أوائل المقالات: ص 10 ـ 11.


(233)
نقد النظرية
    إنّ واصل بن عطاء ومن لفّ لفّه في هذا الباب ، يلوكون في أشداقهم ما يضادّ نصّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد أخبر عليّاً بأنّه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقد عهد به الرّسول و أمره بقتالهم.
    روى أبو سعيد الخدري قال: « أمرنا رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين و القاسطين والمارقين.
    قلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ قال: مع عليّ بن أبى طالب ( عليه السلام ) ».
    روى أبو اليقظان عمّار بن ياسر قال: « أمرني رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ».
    وقد رواه الحفاظ من أهل الحديث و أرباب المعاجم والتأريخ ، ومن أراد الوقوف على تفصيله فعليه الرجوع إلى « الغدير: ج 3 ص 192 ـ 195 ».
    ويكفي في ذلك ما نقله ابن عساكر في تأريخه عن أبي صادق أنّه قال: قدم أبو أيّوب الأنصاري العراق ، فأهدت له الأزد « جزراً » فبعثوا بها معي فدخلت فسلّمت إليه و قلت له: قد أكرمك الله بصحبة نبيّه و نزوله عليك ، فمالي أراك تستقبل الناس تقاتلهم؟ تستقبل هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة؟ فقال: إنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ الناكثين ، فقد قاتلناهم ، وعهد إلينا أنّ نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم ـ يعني معاوية و أصحابهـ ، وعهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ المارقين فلم أرهم بعد (1).
    وقد تجاهل واصل وأتباعه و عرفوا الحقّ وأنكروه ، فإنّ حكم الخارج على الإمام المفترض طاعته ليس أمراً مخفياً على رئيس المعتزلة ، ولا أرى باغياً أخسر من الزبير ، ولاأشقى من طلحة ، غير ابن آكلة الأكباد حزب الشيطان.
    1 ـ الغدير: ج 3 ص 192.

(234)
( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً فانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ ) (1).
    و في نهاية المطاف نقول: إنّه من مواليد عام الثمانين في المدينة وتوفّي في البصرة عام 131 ، كما أرّخه المسعودي و غيره.

2 ـ عمرو بن عبيد ( ت 80 ـ م 143 ) (2)
    الشخصيّة الثانية للمعتزلة بعد واصل بن عطاء هو عمرو بن عبيد وكان من أعضاء حلقة الحسن ، مثل واصل ، لكنّه التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة كما نقلناها.
    يقول السيّد المرتضى في أماليه: « يكنّى أبا عثمان مولى لبني العدوية من بني تميم. قال الجاحظ: وهو عمرو بن عبيد بن باب. و « باب » نفسه من سبي كابل من سبي عبدالرحمان بن سمرة ، وكان باب مولى لبني العدوية قال: وكان عبيد شرطيّاً ، وكان عمرو متزهّداً ، فكان إذا اجتازا معاً على الناس قالوا هذا أشرّ الناس ، أبو خير الناس ، فيقول عبيد: صدقتم هذا إبراهيم وأنا تارخ ».
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره عبيد من التشبيه إنّما يتمُّ على عقيدة أهل السنّة ، بأنّ أبا إبراهيم كان وثنيّاً ، وأمّا على عقيدة الشيعة ، وهي الّتي تؤيّدها الآيات القرآنية ، أنّ أباه كان مؤمناً موحّداً وأنّ « آزر » كان عمّه لا والده (3) فلا يتمّ.
    وقد روى السيّد في أماليه و غيره من أرباب المعاجم قصصاً في زهده وورعه غير أنّ قسماً منها يعدّ مغالاة في الفضائل و إليك نموذجاً منها:
    روى ابن المرتضى عن الجاحظ أنّه قال: صلّى عمرو أربعين عاماً صلاة الفجر
    1 ـ النحل / 14.
    2 ـ فهرس ابن النديم: الفن الأول من المقالة الخامسة ، ص 203.
    3 ـ مجمع البيان: ج 3 ص 319 ط صيدا في تفسير قوله ( ربنا اغفر لي ولوالدي ) ( إبراهيم / 41 ).


(235)
    بوضوء المغرب. وحجّ أربعين حجّة ماشياً ، وبعيره موقوف على من أحصر ، وكان يحيي اللّيل بركعة واحدة ، ويرجِّع آية واحدة (1).
    وقد روى نظيره في حقّ الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وقد قلنا إنّه من المغالاة في الفضائل ، إذ قلّما يتّفق لإنسان ألاّ يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة أربعين سنة ، حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة.

ما اثر عنه في مجالي التفسير والعقيدة
    1 ـ روى المرتضى في أماليه أنّ ابن لهيعة أتى عمرو بن عبيد في المسجد الحرام فسلّم عليه و جلس إليه وقال له: يا أبا عثمان ما تقول في قوله تعالى: ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) ( النساء / 129 ) فقال: ذلك في محبّة القلوب الّتي لا يستطيعها العبد ولم يكلّفها ، فأمّا العدل بينهنّ في القسمة من النفس والكسوة والنفقة ، فهو مطيق لذلك ، وقد كلّفه بقوله تعالى: ( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ ) فيما تطيقون ( فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقَةِ ) بمنزلة من ليست أيّماً ولا ذات زوج. فقال ابن لهيعة: هذا والله هو الحق (2).
    أقول: ما سأله ابن لهيعة كان سؤالاً دارجاً في ذلك العصر ، وقد طرحه بعض الزنادقة ، كابن أبي العوجاء في البصرة ـ بندر الأهواء والآراء ـ ليوهم أنّ في القرآن تناقضاً. ولأجل ذلك سأل عنها هشام بن الحكم تارة و أبا جعفر الأحول ، مؤمن الطّاق ، اُخرى ، فغادر الرجلان البصرة ، لزيارة الإمام الصادق ( عليه السلام ) في المدينة في غير موسم الحجّ والعمرة للتعرّف على الجواب وقد عرضا السؤال عليه ، فأجاب بنفس الجواب الّذي مرّ في كلام عمرو بن عبيد ، فلمّا سمع ابن أبي العوجاء الجواب قال: هذا ما حملته الإبل من الحجاز (3).
    1 ـ المنية والأمل: ص 22. لاحظ الجزء الثاني من كتابنا ص 24.
    2 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ص 170 ـ 171.
    3 ـ البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص 420 ، الحديث 2 ـ 3.


(236)
    ولعلّ ما أجاب الإمام ( عليه السلام ) كان منتشراً في البصرة من جانب تلميذيه ، وانتهى إلى عمرو بن عبيد ، فأجاب بنفس ما أجاب به الإمام ، ويظهر من كلام ابن أبي العوجاء ، تقدّم إجابة الإمام على جواب عمرو بن عبيد زماناً وإلاّ لما صحّ أنّ يقال « هذا ما حملته الإبل من الحجاز » بل كان له أنّ يحتمل أنّ الجواب اُخذ من عمرو بن عبيد ، عميد الاعتزال.
    نعم يحتمل أنّ تكون الإجابتان من قبيل توارد الخاطر و مجيئهما على سبيل الاتّفاق ، بلا أخذ أحدهما من الآخر.
    2 ـ روى السيّد المرتضى في أماليه و قال: « إنّ هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها و عمرو لا يعرفه فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى ، قال: ولم؟ قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فأعتبر ، قال: وجعل لك فماً؟ قال: نعم ، قال: ولِمَ؟ قال: لأذوق الطعوم واُجيب الداعي ، ثمّ عدّد عليه الحواسّ كلّها ، ثمّ قال: وجعل لك قلباً؟ قال: نعم ، قال: ولِمَ؟ قال لتؤدّي إليه الحواسّ ما أدركته فيميّز بينها. قال: فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواسّ حتّى جعل لها إماماً ترجع إليه ، أترضى لهذا الخلق الّذين جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟ فقال له عمرو: ارتفع حتّى ننظر في مسألتك وعرفه. ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتّى اختلفوا » (1).
    أقول: ما أجاب به عمرو بن عبيد هشام بن الحكم ، يدلّ على دماثة في الخلق وسماحة في المناظرة مع أنّه طعن في السنّ ، وهشام بن الحكم كان يعدّ في ذلك اليوم من الأحداث ، وقد استمهل حتّى يتأمّل في مسألته ولم يرفع عليه صوته وعقيرته بالشتم والسبّ ، كما هو عادة أكثر المتعصّبين ، ولم يرمه بالخروج عن المذهب.
    3 ـ قال الجاحظ: « نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو: إنّ الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشك عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى:
    1 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ص 176 ـ 177.

(237)
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / 92 و 93 ). ولم يقل لنسألنّهم عمّا قضيت عليهم ، أو قدّرته فيهم ، أو أردته منهم ، أو شئته لهم ، وليس بعد هذا الأمر ، إلاّ الإقرار بالعدل ، أو السكوت عن الجور الّذي لا يجوز على الله تعالى » (1).
    أقول: روي نظير ذلك من الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) وقد سئل عن القدر؟ فقال: « ما استطعت أنّ تلوم العبد عليه فهو فعله ، وما لم تستطع فهو فعل الله ، يقول الله للعبد: لم كفرت ولا يقول لم مرضت » (2).
    و أخيراً روى السيّد المرتضى أنّ أبا جعفر المنصور مرّ على قبره بمرّان ـ وهو موضع على ليال من مكّة على طريق البصرة ـ فأنشأ يقول:
صلّى الإله عليك من متوسّد قبراً تضمّن مؤمناً متخشّعاً وإذا الرّجال تنازعوا في شبهة فلو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً قبراً مررت به على مَرّان عبد الإله ودان بالفرقان فصل الخطاب بحكمة وبيان أبقى لنا عمراً أبا عثمان (3)

    4 ـ قال الخطيب: « كان عمرو يسكن البصرة ، وجالس الحسن البصري ، وحفظ عنه ، واشتهر بصحبته ، ثمّ أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنّة فقال بالقدر ودعا إليه ، واعتزل أصحاب الحسن وكان له سمعة و إظهار زهد ـ ثمّ نقل بعض ما يدلّ على زهده أو إظهاره » (4).
    ما ذكره الخطيب من تخصيص أهل السنّة باتّباع مذهبه تخصيص بلا دليل ، فإنّ الفرق الإسلاميّة يحترمون السنّة الصّحيحة ، والكلّ بهذا المعنى أهل السنّة. ولو كان وجه إزالته عنهم قوله بالقدر ، فقد سبقه أستاذه الحسن إلى هذا القول ، كما تدلّ عليه رسالته

    1 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ص 177.
    2 ـ المنية والأمل: ص 21 ط دار صادر.
    3 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ص 178 ، ووفيات الأعيان: ج 2 ص 462.
    4 ـ تاريخ بغداد: ج 12 ، ص 166 ، رقم الترجمة 6652.


(238)
    إلى عمر بن عبدالعزيز ، الّتي أتى بنصّها القاضي عبدالجبّار في « فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة » (1) فلو خرج عمرو بالقول بالقدر عن مذهب أهل السنّة ، فهذه شنشنة أعرفها من عبد القاهر في كتابه « الفرق بين الفرق » ، والخطيب في تأريخه ، وغيرهما من الكتّاب المتعصّبين الّذين يفتحون أبواب الجنّة على مصاريعها على وجوه أصحابهم ، ويقفلونها بإحكام أمام الفرق الاُخرى.
    نعم ، تطرّف من قال: « إنّ تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنّة ، تسمية متأخِّرة يرجع تأريخها إلى حوالي القرن السّابع الهجري ، إلى بعد عصر آخر الأئمّة المشهورين وهو ابن حنبل بحوالي أربعة قرون » (2).
    فإنّ أهل الحديث كانوا يسمّونهم أهل السنّة ، وهذا أحمد بن حنبل يقول في ديباجة كتابه « السنّة »: « هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسّكين بعروتها المعروفين بها » (3). وهذا الشيخ الأشعري يعرض عقائد أهل الحديث باسم أهل السنّة (4).
    إنّما الاشكال في احتكار هذا الإسم في طائفة خاصّة من المسلمين ، مشعراً به إلى أنّ غيرهم رفضوا السنّة و عملوا بالبدعة.
    نعم ، لم تكن هذه التسمية في عصر النّبي ، ولا الخلفاء ، ولا في أوائل القرن الثاني ، وإنّما حدثت في أواسطه.
    5 ـ نقل الخطيب بسنده عن معاذ قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: « إنّ كانت ( تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب ) في اللّوح المحفوظ ، فما على أبى لهب من لوم ».
    و ينقله أيضاً عن معاذ بصورة اُخرى قال: « كنت جالساً عند عمرو بن عبيد ،
    1 ـ طبقات المعتزلة: ص 215 ـ 223. مرّ نصّ الرسالة في الجزء الأول ص 282 ـ 291.
    2 ـ الاباضية بين القرون الاسلاميّة: ج 2 ، ص 128 تأليف علي يحيى معمر.
    3 ـ السنّة: ص 44.
    4 ـ مقالات الإسلاميين: ص 290.


(239)
    فأتاه رجل يقال له عثمان أخو السمري فقال: يا أبا عثمان! سمعت والله اليوم بالكفر فقال: لا تعجل بالكفر ، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشماً الأوقصي يقول: إنّ ( تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب ) وقوله: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) و: ( سَأُصْلِيهِ سَقَر ) إنّ هذا ليس في اُمّ الكتاب ، والله تعالى يقول: ( حم * وَالكِتَابِ المُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ إِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌ حَكِيمٌ ) فما الكفر إلاّ هذا يا أبا عثمان. فسكت عمرو هنيئة ، ثمّ أقبل عليّ فقال: والله لو كان القول كما يقول ، ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا على الوحيد من لوم. قال: يقول عثمان ذاك؟ هذا والله الدين يا أبا عثمان. قال معاذ: فدخل بالاسلام وخرج بالكفر » (1).
    ثمّ ينقل عن معاذ أنّه نقل مقالة عمرو لوكيع بن الجرّاح فقال: « من قال هذا القول استتيب ، فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه ».
    يلاحظ عليه: أنّ تأريخ بغداد عيبة الأعاجيب والموضوعات. إنّه يروي في بداية ترجمة « عمرو بن عبيد » قصصاً في زهده و تمرّده على الطّواغيت ، كأبي جعفر المنصور العبّاسي على وجه يليق أنّ تنسب إلى الأنبياء و الأولياء ، ولا يلبث فيأتي بهذه الأعاجيب الّتي لا يليق أنّ ينسب إلى مسلم عادي ، فضلاً عن شيخ الكلام في عصره. لأنّ المعتزلة وفي مقدّمهم الشيخان ، اعترفوا بأنّ علمه سبحانه بالأشياء والحوادث أزلي لا حادث (2) و معه كيف يمكن لمثل عمرو شيخ المنهج أنّ ينكر علمه سبحانه بما يصدر من الوليد ابن المغيرة ، أو أبي لهب من الأفعال و الأقوال؟ وكيف يمكن لمسلم أنّ ينكر كون القرآن موجوداً في الكتاب ( لدينا لعليّ حكيم ) مع وروده فيه على وجه الصّراحة. كلّ ذلك يعرب عن أنّ ما نسب إليه من السفاسف أخيراً ، وليد العداء والبغضاء. فالمسلم الّذي يأخذ عقائده و آراءه من الكتاب والسنّة الصّحيحة والعقل السليم ، يعترف بأنّ كلّ
    1 ـ تاريخ بغداد: ج 12 ص 170 ـ 172.
    2 ـ قال القاضي عبد الجبار ( م 415 ) : فاعلم أنّ تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ( عالم ، لا عالم ) يستحقها لذاته وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادراً عالماً حياً موجوداً لما هو عليه في ذاته... إلى آخر ما ذكر في شرح الاُصول الخمسة: ص 129.


(240)
    شيء معلوم لله سبحانه في الأزل. غير أنّ علمه الأزلي لا يصيِّر الإنسان مسيّراً مكتوف الأيدي ، لأنّ علمه سبحانه لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن الإنسان على الإطلاق و بأيّ وجه كان ، وإنّما تعلّق بصدوره منه في ظلّ المبادئ الموجودة فيه ، ومنها الإرادة والاختيار و الحريّة والانتخاب و باختصار; علمه سبحانه تعلّق بأنّ الإنسان فاعل مختار يفعل كلّ شيء بإرادته ومثل هذا العلم لو لم يؤكّد الاختيار لما كان سبباً للجبر.
    وقد أوضحنا هذا الجواب عند البحث عن عموم مشيئته سبحانه و علمه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة:
    نعم ، عمرو بن عبيد وكلّ من يعتقد بعدله سبحانه لا يجنح إلى روايات القدر الّتي تعرِّف الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح. ولقد ذكرنا نزراً من تلك الأحاديث في كتابنا هذا.

وفود عمرو على الإمام الباقر ( عليه السلام )
    روي أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر ( عليه السلام ) لامتحانه بالسؤال عن بعض الآيات ، فقال له: « جعلت فداك ، ما معنى قوله تعالى: ( أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) ( الانبياء / 30 ) ما هذا الرّتق والفتق؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كانت السّماء رتقاً لا ينزل القطر وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النّبات ، ففتق الله السّماء بالقطر ، وفتق الأرض بالنبات ». فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً و مضى.
    ثمّ عاد إليه فقال: أخبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) ( طه / 81 ) ما غضب الله؟ فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : « غضب الله تعالى عقابه يا عمرو. من ظنّ أنّ الله يغيّره شيء فقد كفر » (1).
    1 ـ بحار الأنوار: ج 46 ، ص 354 نقلاً عن المناقب لابن شهر آشوب. وغيره.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس