بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 241 ـ 250
(241)
وفود عمرو على الإمام الصادق ( عليه السلام )
    روى الطّبرسي في « الاحتجاج » عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال: كنت عند أبي عبداللّهـ عليه السلام ـ بمكّة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيدوواصل ابن عطاء و حفص بن سالم ، وأناس من رؤسائهم وذلك حين قتل الوليد (1) واختلف أهل الشّام بينهم فتكلّموا و أكثروا ، وخطبوا فأطالوا فقال لهم أبوعبدالله ( عليه السلام ) : « إنّكم قد أكثرتم عليّ و أطلتم فأسندوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلّم بحجّتكم و ليوجز ، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ و أطال ، فكان فيما قال: قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض ، وتشتّت أمرهم. فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين و عقل و مروّة ومعدن للخلافة وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن (2) فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا...إلى آخر ما قال. فلّما تمّ كلامه أجابه الإمام بكلام مسهب. وفي آخر كلامه: « اتّق الله يا عمرو وأنتم أيّها الرّهط ، فاتّقوا الله ، فإنّ أبي حدّثني و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب الله و سنّة رسوله أنّ رسول الله قال: من ضرب النّاس بسيفه و دعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلِّف (3).
    روى الصّدوق في عيونه عن عليّ الرضا ( عليه السلام ) عن أبيه ، عن جدّه ( عليهم السلام ) قال: « دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبدالله ، فلّما سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية: ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ) ( الشورى / 37 ) ثمّ سأل عن الكبائر فأجابهـ عليه السلام ـ فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك والله من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم » (4).
    1 ـ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان. قتل في جمادى الآخرة عام 126 وكان فاسقاً شرّيباً للخمر.
    2 ـ الملقّب بالنفس الزكية ، قتل بالمدينة في خلافة المنصور عام 145.
    3 ـ بحار الأنوار: ج 47 ، ص 213 ـ 215.
    4 ـ بحار الأنوار: ج 47 ، باب مكارم أخلاقه ، ص 19 ، الحديث 13.


(242)
3 ـ أبو الهذيل العلاّف ( ت 135 ـ م 235 )
    أبو الهذيل محمّد بن الهذيل العبدي ـ نسبة إلى عبدالقيس ـ وكان مولاهم وكان يلقّب بالعلاّف ، لأنّ داره في البصرة كانت في العلاّفين (1).
    قال ابن النّديم: « :كان شيخ البصريّين في الاعتزال و من أكبر علمائهم وهو صاحب المقالات في مذهبهم و مجالس و مناظرات.
    نقل ابن المرتضى عن صاحب المصابيح أنّه كان نسيج وحده وعالم دهره ولم يتقدّمه أحد من الموافقين ولا من المخالفين. كان إبراهيم النظّام من أصحابه ، ثمّ انقطع عنه مدّة و نظر في شيء من كتب الفلاسفة ، فلمّا ورد البصرة كان يرى أنّه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق إلى أبي الهذيل. قال إبراهيم: فناظرت أبا الهذيل في ذلك فخيّل إليّ أنّه لم يكن متشاغلاً إلاّ به لتصرّفه فيه وحذقه في المناظرة فيه (2).
    قال القاضي: « ومناظراته مع المجوس والثنويّة و غيرهم طويلة ممدودة وكان يقطع الخصم بأقلّ كلام. يقال إنّه أسلم على يده زيادة على 3000 رجل ».
    قال المبِّرد: « ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة. شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت...وفي مجلس المأمون استشهد في عرض كلامه بسبعمائة بيت » (3).
    وما ناظر به المخالفين دليل على نبوغه المبكر وتضلّعه في هذا الفن ، فلنذكر بعضه:
    1 ـ مات ابن لصالح بن عبد القدّوس الّذي يرمى بالزندقة ، فجزع عليه ، فقال له أبو الهذيل: « لا أعرف لجزعك عليه وجهاً ، إذ كان الناس عندك كالزّرع فقال صالح:
    1 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ، ص 178 ، وفيات الأعيان: ج 4 ، ص 265 ـ 267 رقم الترجمة 606 وقد قيل في تاريخ وفاته غير هذا نقله المرتضى في أماليه.
    2 ـ فهرست ابن النديم: ص 225 ـ 226.
    3 ـ المنية والأمل: ص 26 ـ 27.


(243)
    يا أبا الهذيل إنّما أجزع عليه لأنّه لم يقرأ كتاب « الشكوك ». فقال: ما هذا الكتاب يا صالح؟
    قال: هو كتاب قد وضعته ، من قرأه يشك ّ فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن ، ويشكّ فيما لم يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان. فقال له أبو الهذيل: فشكّ أنت في موت ابنك ، واعمل على أنّه لم يمت و إن كان قد مات. وشكّ أيضاً في قراءته كتاب « الشكوك » وإن كان لم يقرأه » (1).
    2 ـ بلغ أبا الهذيل في حداثة سنّه أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة و قطع جماعة من متكلّميها ، فقال لعمّه: « يا عمّ امض بي إلى هذا اليهودي حتّى اُكلّمه. فقال له عمّه: يا بنيّ كيف تكلّمه وقد عرفت خبره ، وأنّه قطع مشايخ المتكلّمين! فقال: لا بدّ من أن تمضي بي إليه. فمضى به.قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى ( عليه السلام ) ، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتّفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه ، فتقدّمت إليه ، فقلت: أسألك أم تسألني؟ فقال: بل أسألك ، فقلت: ذاك إليك ، فقال لي: أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّي ( عليه السلام ) وشهد بنبوّته وصدّقه فهو نبيّ صادق ، وإن كان غير من وصفت ، فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته; فورد عليه ما لم يكن في حسابه ، ثمّ قال لي: أتقول إنّ التوراة حقّ؟ فقلت: هذه المسألة تجري مجرى الاُولى ، إن كانت هذه التوراة الّتي تسألني عنها هي الّتي تتضمّن البشارة بنبيّي ( عليه السلام ) فتلك حقّ ، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ ، ولا أقرّ بها.
    فبهت و اُفحم ولم يدر ما يقول. ثمّ قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني و بينك ، فظننت أنّه يقول شيئاً من الخير ، فتقدّمت إليه فسارّني فقال لي: اُمّك كذا وكذا واُمّ من علّمك ، لا يكنّي ، وقدّر أنّي أثب به ، فيقول: وثبوا بي وشغبوا عليّ ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت: أعزّكم الله ، ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّاي وعلى جوابي
    1 ـ الفهرست لابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 204 ـ وفيات الأعيان: ج 4 ، ص 265 ـ 266.

(244)
    إيّاه؟ قالوا:بلى ، قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضاً؟ قالوا: بلى ، قلت لهم: فإنّه ل ـ مّا سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحدّ ، وشتم من علّمني ، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه ، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغبنا عليه ، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني ، فأخذته الأيدي من كلّ جهة فخرج هارباً من البصرة » (1).
    أقول: إنّ ما طرحه الرجل اليهودي من الشبهة كانت شبهة دارجة لأهل الكتاب يتمسّكون بها كلّ منهم من غير فرق بين اليهودي و المسيحي. وقد سأل الجاثليق النصراني الإمام عليّ بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في مجلس المأمون عن هذه الشبهة ، فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى و كتابه هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا ( عليه السلام ) : « أنا مقرّ بنبوّة عيسى و كتابه...وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه ولم يبشّر به اُمّته » (2).
    إنّ الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا ( عليه السلام ) قدم خراسان عام 199 ، وتوفّي بها عام 203 هـ ، وكانت المناظرات خلال هذه السنوات دائرة و مجالسها بالعلماء و الاُدباء حافلة ، فنقلوا ما دار بين الإمام والجاثليق إلى العواصم الإسلاميّة. فليس من البعيد أن يكون أبو الهذيل قد اقتبس كلامه من الإمام ( عليه السلام ) ، كما أنّ من المحتمل أن يكون من باب توارد الخاطر.
    3 ـ أتى إليه رجل فقال: « اُشكل عليّ أشياء من القرآن فقصدت هذا البلد فلم أجد عند أحد ممّن سألته شفاء لما أردته ، فلمّا خرجت في هذا الوقت قال لي قائل: إنّ بغيتك عند هذا الرّجل فاتّق الله و أفدني ، فقال أبو الهذيل ماذا أشكل عليك؟ قال: آيات من القرآن توهمني أنّها متناقضة و آيات توهمني أنّها ملحونة. قال: فماذا أحبّ إليك ، اُجيبك بالجملة أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة ، فقال أبو الهذيل: هل تعلم أنّ محمّداً كان من أوساط العرب و غير مطعون عليه في لغته ، وأنّه
    1 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ، ص 178 ـ 179.
    2 ـ الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2 ، ص 202 وللمناظرة صلة ، من أراد فليراجع.


(245)
    كان عند قومه من أعقل العرب فلم يكن مطعوناً عليه؟ فقال: اللّهمّ نعم ، قال أبو الهذيل: فهل تعلم أنّ العرب كانوا أهل جدل؟ قال: اللّهمّ نعم ، قال: فهل اجتهدوا عليه بالمناقضة واللّحن؟ قال: اللّهمّ لا ، قال أبو الهذيل: فتدع قولهم على علمهم باللّغة وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟ قال: فأشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله ، قال: كفاني هذا و انصرف و تفقّه في الدين » (1).
تآليفه
    بينما لم يذكر ابن النّديم أيّ تأليف لأبي الهذيل يحكي ابن المرتضى عن يحيى بن بشر أنّ لأبي الهذيل ستّين كتاباً في الرّدّ على المخالفين في دقيق الكلام (2).
    نعم ، ذكر ابن النّديم في باب الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن أنّ لأبي الهذيل العلاّف كتاباً في ذلك الفن (3).
    قال ابن خلّكان: « ولأبي الهذيل كتاب يعرف بالميلاس و كان « ميلاس » رجلاً مجوسياً و أسلم ، وكان سبب إسلامه أنّه جمع بين أبي الهذيل وبين جماعة من الثنويّة ، فقطعهم أبو الهذيل فأسلم ميلاس عند ذلك » (4).
    وذكر البغدادي كتابين لأبي الهذيل هما « الحجج » و « القوالب » والثاني ردُّ على الدهريّة (5).
    أقول: إنّ من سبر كتاب « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي يعرف حقده على المعتزلة وعلى ذوي الفكر و لذلك ترجمه بصورة تكشف عن عمق غيظ له ، فقال: « كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج أبناء السبايا لظهور أكثر البدع منهم ، وفضائحه تترى تكفِّره فيها سائر فرق الاُمّة من أصحابه في الاعتزال ومن غيرهم ،
    1 ـ طبقات المعتزلة للقاضي: ص 254.
    2 ـ المنية والأمل: ص 25.
    3 ـ الفهرست لابن النديم: الفن الثالث من المقالة الاُولى ص 39.
    4 ـ وفيات الأعيان: ج 4 ص 266.
    5 ـ الفرق بين الفرق: ص 124.


(246)
    وللمعروف بالمزدار من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبي الهذيل ، وفي تكفيره بما انفرد به من ضلالته. وللجبّائي أيضاً كتاب في الردّ على أبي الهذيل في المخلوق ، يكفّره فيه ، ولجعفر بن حرب المشهور في زعماء المعتزلة أيضاً كتاب سمّاه « توبيخ أبي الهذيل » وأشار بتكفير أبي الهذيل ، وذكر فيه أنّ قوله يجرّ إلى قول الدهريّة » (1).
تشيّعه
    قال ابن المرتضى: « ذكروا أنّه صلّى عليه أحمد بن أبي دؤاد القاضي فكبّر عليه خمساً ، ثمّ ل ـ مّا مات هشام بن عمرو فكبّر عليه أربعاً ، فقيل له في ذلك ( ما وجه ذلك ) ؟ فقال: « إنّ أبا الهذيل كان يتشيع لبني هاشم فصلّيت عليه صلاتهم » وأبو الهذيل كان يفضّل عليّاً على عثمان. وكان الشيعي في ذلك الزمان من يفضّل عليّاً على عثمان » (2).
    وهذا يكشف عن أنّ التشيّع ربّما يستعمل في تفضيل الإمام ( عليه السلام ) على خليفة أو على الخلفاء الثلاث فقط ، ولا يلازم التشيّع القول بكون عليّ هو خليفة رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بلافصل. فإنّ هذا هو التشيّع بالمعنى الأخصّ.
    قال ابن أبي الحديد: « سئل شيخنا أبو الهذيل أيّما أعظم منزلة عند الله: عليّ ( عليه السلام ) أم أبوبكر؟ فقال: والله لمبارزة عليّ عمرواً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار و طاعاتهم كلّها ، فضلاً عن أبي بكر » (3).
وفاته
    إذا كانت ولادة أبي الهذيل 135 و وفاته 235 فقد توفّى الرجل عن عمر يناهز المائة.
    ويقول ابن خلّكان: « وكان قد كفّ بصره ، وخرف في آخر عمره إلاّ أنّه كان لا
    1 ـ الفرق بين الفرق: ص 121 ـ 122.
    2 ـ المنية والأمل: ص 28.
    3 ـ شرح نهج البلاغة: ج 19 ص 60.


(247)
    يذهب عليه شيء من الأصول ، لكنّه ضعف عن مناهضة المناظرين و حجاج المخالفين و ضعف خاطره » (1).
    و جرى ابن قتيبة في كتابه « تأويل مختلف الحديث » على ذمّ مشايخ المعتزلة ورميهم بقصص خرافيّة ، فنقل أوّلاً عن بعض أصدقاء أبي الهذيل أنّه بذل مائة ألف درهم على الإخوان. ثمّ قال ردّاً على هذه القصّة: « وكان أبو الهذيل أهدى دجاجة إلى موسى بن عمران فجعلها تأريخاً لكلّ شيء ، فكان يقول: فعلت كذا وكذا قبل أن أهدي إليك تلك الدّجاجة أو بعد أن أهديت إليك تلك الدّجاجة ». ثمّ فرّع على ذلك وقال: « هذا نظر من لا يقسم على الاخوان عشرة أفلس فضلاً عن مائة ألف » (2).
     « اللّهمّ لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ».
كلمة بذيئة
    عنون الخطيب شيخ المعتزلة محمّداً أبا الهذيل ، ولكنّه جرى فيه كعادته فيهم بتسليط لسانه عليهم فقال: « شيخ المعتزلة » ، ومصنّف الكتب في مذاهبهم وهو من أهل البصرة. ورد بغداد وكان خبيث القول. فارق إجماع المسلمين وردّ نصّ كتاب الله عزّوجلّ إذ زعم أنّ أهل الجنّة تنقطع حركاتهم فيها ، حتّى لا ينطقوا نطقة ولا يتكلّموا بكلمة ، فلزمه القول بانقطاع نعيم الجنّة عنهم والله تعالى يقول: ( اُكلّها دائم ).
    وجحد صفات الله الّتي وصف بها نفسه ، وزعم أنّ علم الله هو الله ، و قدرة الله هي الله. فجعل الله علماً و قدرة ـ تعالى الله عمّا وصفه به علوّاً كبيراً ـ » (3).
    يلاحظ عليه: أنّ النسبة الاُولى لم تثبت بعد ، وهؤلاء هم الأشاعرة ينقلونه عن أبي الهذيل و أتباعه ، وقد اعتذر أبو الحسين الخيّاط عن هذه النسبة في كتابه « الانتصار » وبما
    1 ـ وفيات الأعيان: ج 4 ص 267.
    2 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 43.
    3 ـ تاريخ بغداد: ج 3 ، ص 366.


(248)
    أنّ كتب الرجل قد ضاعت و عبث بها الزمان فلا يصحّ في منطق العقل الجزم بذلك إلاّ إذا تواتر النّقل وهو مفقود.
    وأمّا النسبة الثانية فقد غفل عن مغزاها الخطيب فتصوّره أمراً شنيعاً مع أنّ أبا الهذيل يقصد بذلك الوصول إلى قمّة التوحيد ، وهو نفي كون صفاته سبحانه زائدة على ذاته. لأنّ القول بالزيادة يستلزم التركيب ( تركيب ذاته مع صفاته السبع الكماليّة ) وقد أوضحناه في الجزء الثاني من كتابنا فراجع (1).
    والّذي يندي الجبين أن يقذف الشيخ بأمر شنيع. نقل الخطيب عن أبي حذيفة: كان أبو الهذيل يشرب عند ابن لعثمان بن عبدالوهاب ، قال: فراود غلاماً في الكنيف... إلى آخر ما ذكره في الوقيعة به الّتي يجب أن يحدّ القاذف و يبرء المرمىّ بها ، ولكنّ الطائفيّة البغيضة دفعت الخطيب إلى نقل القصّة بلا اكتراث.
     ( إنّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).

4 ـ النظّام ( ت 160هـ ـ م 231 هـ ) (2)
    إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام
    النظّام: هو الشخصيّة الثالثة للمعتزلة ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال.
    قال ابن النديم: يكنّى أبا إسحاق ، كان متكلّماً شاعراً أديباً وكان يتعنّف أبا نؤاس وله فيه عدّة مقطّعات و إيّاه عنى أبو نؤاس بقوله:
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة لا تحظر العفو إن كنت امرءاً حرجاً حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء فانّ حظركه بالدين إزراء (3)

    1 ـ ص 78 ـ 79 وسيوافيك بيانه في الفصل المختص ببيان الاُصول الخمسة للمعتزلة.
    2 ـ في ميلاده ووفاته أقوال اُخر وما ذكرناه هو المؤيد بالقرائن.
    3. فهرست ابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 205 ـ 206.


(249)
    وذكره الكعبي في « ذكر المعتزلة » وقال: « هو من أهل البصرة ثمّ نقل آراءه الّتي تفرّد بها » (1).
    وقال الشريف المرتضى: « كان مقدّماً في علم الكلام ، حسن الخاطر ، شديد التدقيق والغوص على المعاني ، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتي تفرّد بها واستشنعت منه ، تدقيقه وتغلغله وقيل: إنّه مولى الزياديين من ولد العبيد و إنّ الرّق جرى على أحد آبائه » (2).
    وذكره القاضي عبدالجبّار في « طبقات المعتزلة » وقال: « إنّه من أصحاب أبي الهذيل و خالفه في أشياء » (3).

ذكاؤه المتوقّد
    1 ـ روى الشّريف المرتضى أنّ أبا النظّام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد ( م 170 هـ ) ليعلِّمه فقال له الخليل يوماً يمتحنهـ وفي يده قدح زجاج ـ : يا بني ، صف لي هذه الزّجاجة ، فقال: أبمدح أم بذمّ؟ قال: بمدح ، قال: نعم ، تريك القذى ، لا تقبل الأذى ، ولا تستر ما وراء ، قال: فذمّها ، قال: سريع كسرها ، بطيء جبرها ، قال: فصف هذه النّخلة ، و أومأ إلى نخلة في داره ، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح ، قال: هي حلو مجتناها ، باسق منتهاها ، ناظر أعلاها ، قال: فذمّها ، قال: هي صعبة المرتقى ، بعيدة المجتنى ، محفوفة بالأذى ، فقال الخليل: با بنيّ ، نحن إلى التعلم منك أحوج.
    قال الشّريف المرتضى بعد نقل هذه القصّة: « وهذه بلاغة من النظّام حسنة ، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمّاً أو مدحاً بأقصى ما يقال فيه » (4).
    2 ـ قال أبوعبيدة: « ما ينبغي أن يكون فى الدّنيا مثله ، فإنّي امتحنته فقلت: ما
    1 ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 70.
    2 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ، ص 187.
    3 ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 264.
    4 ـ أمالي المرتضى: ج 1 ، ص 189.


(250)
    عيب الزجاج؟ فقال على البديهة: يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر » (1).
    3 ـ روي أنّه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس في الفتيا (2).
    4 ـ قال الجاحظ: « الأوائل يقولون: في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له. فان كان ذلك صحيحاً فهو: أبو إسحاق النظّام » (3).
    ولو صحّ ما نقلناه في حقّه ، فهو يحكي عن كون المترجم له ذا نبوغ مبكر ، و ذكاء وقّاد ، وقابليّة كبيرة ، ومثل هذا لو وقع تحت رعاية صحيحة و تربّى على يدي اُستاذ بارع يتجلّى نبوغه بأحسن ما يمكن و تتفجّر طاقاته لصالح الحقائق ، و إدراك الواقعيّات ، وإذا فقد مثل ذلك الاُستاذ البارع وهو على ما ذكرناه من المواهب والقابليّات انحرف انحرافاً شديداً ، و تحرّكت طاقاته في اتّجاه الجناية على الحقائق و ظلم الواقعيات.
    ولعلّ ما يحكى عن النظام من بعض الأفكار المنحرفة ـ إن صحّت ـ فذلك نتيجة النبوغ غير الموجّه ، والقابليّة غير الخاضعة للارشاد والهداية.
    وسيوافيك بعض أفكاره غير الصّحيحة ، غير أنّ أكثر مصادرها هي كتب الأشاعرة ك ـ « مقالات الإسلاميين » للأشعري ، و « الفرق بين الفرق » و غيرهما من كتب الأشاعرة الّذين ينظرون إلى المعتزلة بعين العداء و مخالفي السنّة.
    نعم هجوم الأشاعرة عليه ، وردّ بعض المعتزلة عليه (4) يعرب عن شذوذ في منهجه ، وانحراف في فكره.
    5 ـ روى القاضي أنّه كان يقول عندما يجود بنفسه: « اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم اُقصّر في نصرة توحيدك ولم أعتقد مذهباً إلاّ سنده التوحيد ، اللّهمّ إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنوبي و سهِّل عليّ سكرات الموت ». قال: فمات من ساعته (5).
    1 ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى: ص 29.
    2 ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى: ص 29.
    3 ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى: ص 29.
    4 ـ لاحظ الفرق بين الفرق ص 132 ترى ردود المعتزلة عليه. فقد ذكر أنّ لأبي الهذيل والجبائي والاسكافي وجعفر بن حرب ردوداً عليه.
    5 ـ فضل الاعتزال للقاضي: ص 264 ـ المنية والأمل ص 29 ـ 30.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس