بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 281 ـ 290
(281)
    وهذه إحدى صور المحاكمة ولها صور اُخر طوينا الكلام عن ذكرها وتأتى عند البحث عن محنة أحمد وهذا يعرب عن براعة الرّجل في مقام قطع الطّريق على الخصم ، وهذا وأشباهه ممّا دفع الحنابلة والأشاعرة على التّحامل والازدراء بالرّجل ، وسيوافيك أنّ أكثر ما نقل في محنة الإمام من التشديد والتغليظ عليه ، ودوسه بالأقدام و سحبه ، يرجع إلى أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتعصّب لإمامه وليس له مصدر في التأريخ سواه.
    وقد نقل البغدادي حول و فاته قصّة أشبه بالاسطورة (1) وكم له في كتابه « الفرق بين الفرق » من نظائر.

8 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 )
    قال القاضي نقلاً عن « المصابيح »: « إنّه نسيج وحده في العلوم ، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة ، العلم بالأخبار والأشعار والفقه و تأويل الكلام وهو متقدّم في الجدّ والهزل ، وله كتب في التوحيد و إثبات النبوّة ونظم القرآن و حدثه ، وفي فضائل المعتزلة » (2).
    أقول: كتابه الأخير هو كتاب « فضيلة المعتزلة » الّذي ردّ عليه ابن الراوندي في
    1 ـ الفرق بين الفرق: ص 174 ـ 175.
    2 ـ فضل الاعتزال: ص 275.


(282)
    كتاب خاصّ أسماه « فضيحة المعتزلة » ثمّ إنّ أبا الحسين الخيّاط ( م 311 ) ألّف كتاب « الانتصار » وانتصر فيه للجاحظ وقد طبع الانتصار لأوّل مرّة في القاهرة عام 1925.
    ومن أحسن تصانيفه و أمتنها كتاب « الحيوان » في أربعة أجزاء ، و « البيان والتبيين » في جزأين ، و « البخلاء » ، و « مجموع الرسائل » ، وأردأها كتاب « العثمانيّة ». وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة بأقلام المستشرقين والعرب ومن أراد فليرجع إلى:
    كتاب: « الجاحظ معلّم العقل والأدب » لشفيق جبري.
    وكتاب: « أدب الجاحظ » لحسن السندوبي.
    وكتاب: « الجاحظ » لفؤاد أفرام البستاني...و غيرها.
    وإنّ أدب الرّجل و اطّلاعه الوسيع شيء لا ينكر وتشهد عليه آثاره المطبوعة. ولكنّ الكلام في ورعه وتقاه و نفسيّته و روحيّته ، فلا يشكّ من سبر حياته في طيّات المعاجم والكتب أنّه لم يكن رجلاً مبدئيّاً أبداً ، بل كان متقرّباً لفراعنة عصره ، وكفى أنّه كان ملازماً لمحمّد بن عبدالملك المعروف بالوزير الزيّات. يقول ابن خلّكان: « كان محمّد المذكور شديد القسوة ، صعب العريكة ، لا يرقّ لأحد ولا يرحمه ، وكان يقول: الرحمة خور في الطّبيعة. ووقع يوماً على رقعة رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه ، فقال: الجوار للحيطان والتعطّف للنسوان.
    فلمّا أراد المتوكّل قتله أحضره و أحضر تنّورَ خشب فيه مسامير من حديد ، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة ، كان محمّد اتّخذه ليعذّب فيه من يطالبهـ وهو أوّل من عمل ذلك وعذّب فيه ابن أسباط المصري ـ وقال: أجرينا فيك حكمك في الناس.
    فأجلس فيه. فمات بعد ثلاث و ذلك في سنة ثلاث و ثلاثين ومائتين ، وقيل: إنّه كتب في التنّور بفحمة:
من له عهد بنوم رحم الله رحيماً يرشد الصبَّ إليه دلّ عينيَّ عليه


(283)
    ودفن ولم يعمق قبره فنبشته الكلاب و أكلته » (1).
    هذا حال صديق الرّجل و زميله ، فاعرف حاله من حاله. فإنّ الرجل على دين جليسه.

تلوّن الرجل في حياته
    تدلّ آثاره على أنّ الرجل كان متلوّناً في حياته غير جانح إلى فئة ، بل كان كالريشة في مهبّ الريح يميل مع كلّ ريح ، فتارة يكون عثماني الهوى و يؤلّف كتاباً في ذلك ويدعمه بكتاب آخر في إمامة المروانيّة و خلافة الشجرة الملعونة في القرآن ، واُخرى علويّاً يجمع الكلم القصار لعليّ ( عليه السلام ) يفضّل عليّاً على غيره. قال ابن قتيبة في شأنه: « تجده يحتجّ مرّة للعثمانيّة على الرافضة ، ومرّة للزيديّة على العثمانيّة و أهل السنّة ، ومرّة يفضّل عليّاً ـ رضي الله عنهـ ومرّة يؤخّره...إلى أن قال: ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النّصارى على المسلمين ، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوّز في الحجّة كأنّه انما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون و تشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه المضاحيك والعبث ، يريد بذلك استمالة الأحداث و شرّاب النّبيذ.
    ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت و قرن الشيطان و ذكر الحجر الأسود و أنّه كان أبيض فسوّده المشركون ، وقدكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا و يذكر الصّحيفة الّتي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة.
    وهو مع هذا من أكذب الاُمّة و أوضعهم للحديث و أنصرهم للباطل » (2).
    وقال المسعودي في « مروج الذّهب » عند ذكر الدّولة العبّاسية: « وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحجاج عند نفسه ، و أيّده بالبراهين وعضده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله و ترجمه بكتاب « العثمانيّة » يحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ ( عليه السلام )
    1 ـ وفيات الأعيان ج 5 ص 102 ، ط دار صادر.
    2 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 59 ـ 60.


(284)
    ومناقبه ، ويحتجّ فيه لغيره طلباً لاماتة الحقّ و مضادّة لأهله والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
    ثمّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب « العثمانيّة » حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة و أقوال شيعتهم ، و رأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهـ وشيعته الرافضة ، يذكر فيه رجال المروانيّة و يؤيّد فيه إمامة بني اُميّة و غيرهم.
    ثمّ صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب « مسائل العثمانيّة » يذكر فيه ما فاته ذكره و نقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقضت عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانيّة و غيره.
    وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة كأبي عيسى الورّاق والحسن بن موسى النّخعي (1) و غيرهما من الشيعة ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعة و متفرّقة » (2).
    ومن أراد أن يقف على ضعف الرجل في مجال العفاف والورع فعليه أن يرجع إلى ما نقله عنه ابن خلّكان في « وفيات الأعيان » (3).

9 ـ أبو الحسين عبدالرّحيم بن محمّد المعروف بالخيّاط ( م ـ 311 ) خريج مدرسة بغداد
    ترجمه القاضي في « فضل الاعتزال » وقال: « كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر (4) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي و غيره. وهو اُستاذ أبي القاسم البلخي ـ رحمه الله ـ وذكر أنّه لمّا أراد العود إلى خراسان من عنده أراد أن يجعل طريقه
    1 ـ كذا في النسخة والصحيح: النوبختي.
    2 ـ مروج الذهب: ج 3 ، ص 237 ـ 238 طبع دار الأندلس.
    3 ـ وفيات الأعيان: ج 3 ص 471 ـ 473.
    4 ـ يريد: جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي المتكلم ( المتوفى سنة 234 ) من معتزلة بغداد له ترجمة في تاريخ بغداد: ج 7 ، ص 162 ، ولسان الميزان: ج 2 ، ص 121.


(285)
    على أبي عليّ ( الجبّائي ) فسأله أبو الحسين بحقّ الصحبة أن لا يفعل ذلك ، لأنّه خاف أن ينسب إلى أبي عليّ وهو من أحفظ الناس باختلاف المعتزلة في الكلام و أعرفهم بأقاويلهم.
    وقدكان الشيخ أبو القاسم يكاتبه بعد العود من عنده حالاً بعد حال فيعرف من جهته ما خفى عليه » (1).
    ومن أشهر كتبه: « الانتصار » ردّ فيه على كتاب « فضيحة المعتزلة » لابن الراوندي وطبع بالقاهرة ـ 1925 م.
    وسأل أبو العبّاس الحلبي أبا الحسين الخيّاط فقال: « أخبرني عن إبليس هل أراد أن يكفر فرعون؟ قال: نعم ، قال الحلبي: فقد غلب إبليس إرادة الله؟ قال أبو الحسين: هذا لا يجب فإنّ الله تعالى قال: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالفْحْشَاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً ) وهذا لا يوجب أن يكون أمر إبليس غلب أمر الله ، فكذلك الإرادة و ذلك لأنّ الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن (2).
    وبعبارة واضحة ، إنّ إرادة كلّ منهما ( الله سبحانه و إبليس المطرود ) ليست إرادة تكوينيّة قاهرة سالبة للاختيار ، بل إرادة أشبه بإرادة تشريعيّة يتراءى أنّها تعلّقت بفعل الغير ، وهو مختار في فعله و عمله و تطبيقه على كلّ من الطّلبين ، فليس في موافقته أو مخالفته أيّ غلبة من المريدين على الآخر. نعم لو كانت إرادة كلّ منهما إرادة تكوينيّة تعلّقت واحدة بإيمان فرعون والاُخرى بكفره فكفر ولم يؤمن لزمت غلبة إرادة إبليس على إرادة الله تعالى.
    وسئل عن أفضل الصّحابة فقال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) لأنّ الخصال الّتي فضّل الناس بها متفرّقة في الناس وهي مجتمعة فيه ، وعدّ الفضائل فقيل فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال: هذا باب لا علم لي به إلاّ بما فعل
    1 ـ فضل الاعتزال: ص 29.
    2 ـ المنية والأمل: ص 49.


(286)
    الناس وتسليمه الأمر على ما أمضاه عليه الصّحابة ، لأنّي لمّا وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف ، علمت صحّة ما فعلوا » (1).
    يلاحظ عليه: إذا أثبت كونه أفضل الصحابة ، فتقدّم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً ، وبه ردّ سبحانه اعتراض بني إسرائيل على جعل طالوت ملكاً. قال سبحانه: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ الجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ ) ( البقرة / 247 ).
    وأمّا تسليم الإمام لعمل الصّحابة فهو غير صحيح ، فقد اعترض على عملهم مرّة بعد مرّة و يكفي في ذلك خطبه وقصار حكمه وما نقله عنه المؤرّخون (2).
    هذا و أشباهه قابل للاغماض ، وإنّما الكلام فيما نسب إلى الشيعة من النسب المفتعلة والأكاذيب الشائنة و إليك نماذج من قذائفه و طامّاته في كتاب « الانتصار »:
    1 ـ الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة و صورة يتحرّك ويسكن و يزول و ينتقل ، وأنّه كان غير عالم فعلم...إلى أن قال: هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة و اعتقدوا التوحيد ، فنفتهم الرافضة عنهم و تبرّأت منهم. فأمّا جملتهم و مشايخهم مثل هشام بن سالم ، وشيطان الطاق ، وعليّ بن ميثم ، وهشام بن الحكم بن منصور ، والسكاك فقولهم ما حكيت عنهم.
    2 ـ فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إنّ لله صورة ، ويروى في ذلك الروايات و يحتجّ فيه بالأحاديث عن أئمّتهم ، إلاّ من صحب المعتزلة منهم قديماً ، فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقربه.
    3 ـ يرون الرافضة أن يطأ المرأة الواحدة في اليوم الواحد مائة رجل من غير
    1 ـ المنية والأمل: تصحيح توما أرنلد ، ص 49 و 50.
    2 ـ لاحظ: الامامة والسياسة ، ص 11 لابن قتبية وغيرها.


(287)
    استبراء ولا قضاء عدّة وهذا خلاف ما عليه اُمّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1).
    نحن لا نعلّق على تلك الأساطير شيئاً و إنّما نمرّ عليها كراماً.

10 ـ أبو القاسم البلخي الكعبي ( ت 273 ـ م 317 أو 319 ) خريج مدرسة بغداد
    عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين ، صنّف في الكلام كتباً كثيرة و أقام ببغداد مدّة طويلة و انتشرت بها كتبه ، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري ، ( حدّثنا ) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني ، قال: كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده ، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا ، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة » (2).
    وقال ابن خلّكان: « العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم « الكعبيّة » وهو صاحب مقالات ، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة ، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها ، وكان من كبار المتكلّمين ، وله اختيارات في علم الكلام ، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة و ثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب ، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان » (3).
    وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه ، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه ، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل
    1 ـ لاحظ: الانتصار ص 8 ، 144 ، 89.
    2 ـ تاريخ بغداد: ج 9 ، ص 384.
    3 ـ وفيات الاعيان: ج 3 ، ص 45 رقم الترجمة 330.


(288)
    الطبيعية ، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة ، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله ، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.
    وبعبارة واضحة: إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي ، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة ، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار ، وآية الحرّيّة ، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في « عيون التواريخ » ما هذا لفظه ، قال: « كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً ، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله: إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته ، ولا هو يريد إرادته و ( لا ) إرادته حادثة في محلّ ، بل إذا أطلق عليه: إنّه يريد ، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل: إنّه مريد لأفعاله ، فالمراد أنّه خالق لها على وفق علمه ، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده ، فالمراد أنّه راض بما أمر به » (1).
مؤلفّاته
    قال ابن حجر في « لسان الميزان »: « عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه » (2).
    غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان و أضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب « ذكر المعتزلة » لأبي القاسم
    1 ـ باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين ، لأبي القاسم البلخي ، المقدمة ص 44 ، نقلاً عن عيون التواريخ ج 7 ، ص 106 مخطوطة دار الكتب.
    2 ـ لسان الميزان: ج 3 ص 252.


(289)
    البلخي أسماء كتبه و أنهاها إلى ستّة و أربعين كتاباً.
    وقال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة: « وأخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسه وقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة ، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي » ثمّ قال: « سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي ـ رضي الله عنهـ يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى و هناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ رحمهم الله أجمعين ـ : سمعت أبا الحسين السوسنجردي ـ رحمه الله ـ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة ـ يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا ( عليه السلام ) بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً ، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف ، فوقف عليه ونقضه بـ « المسترشد في الإمامة » فعدت إلى الري ، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بـ « المستثبت في الإمامة » فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ « نقض المستثبت » فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات ـ رحمه الله ـ » (1).

مناظرته مع رجل سوفسطائي
    حكى في كتابه « مقالات أبي القاسم » أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل ، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات و يلحقها بالخيالات ، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه ، فأخذ البغل و ذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث ، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده ، فرجع إلى أبي القاسم وقال: إنّي لم أجد البغل ، فقال أبوالقاسم: لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه ، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره ، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل و إنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه
    1 ـ فهرس النجاشي: الرقم 1023.

(290)
    بأنواع من هذا الكلام ، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه (1).
    تلك عشرة كاملة من أعلام المعتزلة و فطاحلهم. ولعلّ هذا المقدار في ترجمة أئمّتهم و مشايخهم يوقفنا على موقفهم في الفضل و الفضيلة و هذا البحث الضافي يوقفك على أنّ تدمير تلك الطائفة ـ مع ما فيها ، ما فيها ـ كانت خسارة لا تجبر.
    1 ـ المنية والامل: ص 51.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس