بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 301 ـ 310
(301)
    الاُصول خمسة على الوجه الّذي عرفت ، وجعلها في « المغني » (1) اثنين: التوحيد والعدل. وجعل غيرهما داخلاً في ذينك الأصلين. وجعلها في كتاب « مختصر الحسنى » ، أربعة: التوحيد والعدل والنبوّات والشرائع ، وأدخل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرائع. ويظهر من كلمات تلاميذه الّذين أملى لهم القاضي كتاب « الاُصول الخمسة » أنّ ما فعله في « المغني » هو الأرجح ، قالوا:
    إنّ النبوّات والشرائع داخلان في العدل ، لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنافي بعثة الرُّسل و أن نتعبّد بالشريعة ، وجب أن يبعث ونتعبّد ، ومن العدل أن لا يُخلّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل. لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثّواب ، وتوعّد العصاة بالعقاب فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يُخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل ، لأنّه كلام في أنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا في أن يتعبّدنا بإجراء أسماء و أحكام على المكلّفين وجب أن يتعبّدنا به ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده « في المغني » (2).
    يلاحظ عليه:أوّلاً: ـ أنّه لو صحّ إدخال المنزلة بين المنزلتين في باب العدل ، حسب البيان الّذي سمعت ، لصحّ إدخال المعارف العقليّة كلّها تحته بنفس البيان ، بأن يقال إنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا أن يتعبّدنا بالمعارف وجب أن يتعبّدنا بها ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب ، ولا أرى أنّ واحداً من المعتزلة يقبل ذلك.
    وثانياً ـ إنّ الاُصول الاعتقاديّة على قسمين:
    قسم يجب الاعتقاد به بنفس عنوانه ولا يكفي الاعتقاد بالجامع البعيد الّذي يشمله ، وذلك كالاعتقاد بنبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وعموميّة رسالته وخاتميتها ، فالكلّ ممّا
    1 ـ من أبسط كتب القاضي وأهمها ، يقع في عشرين جزءاً ، طبع منه أربعة عشر جزءاً ولم يعثر على الباقي.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 123.


(302)
    تجب معرفته بنفس عنوانه ولا يكفي في معرفته عرفان عدله سبحانه ، بحجّة أنّ النبوّات والشرائع داخلة تحته ، فمن عرف الله سبحانه بالعدل كفى في معرفة ما يقع تحته.
    ولعلّ المعارف العقليّة الّتي يستقلّ العقل بعنوانها من مقولة القسم الأوّل.
    وقسم آخر يكفي فيه الاعتقاد بالعنوان البعيد ولا يلزم الاعتقاد بشخصه ، كالاعتقاد ببعض الخصوصيّات الواردة في الحياة البرزخيّة والأخروية.
2 ـ ما يلزم المكلّف عرفانه من اُصول الدين
    عرّف المتكلّمون اُصول الدين بـ « ما يجب الاعتقاد به على وجه التفصيل أو الاجمال » ويقابلها الفروع فهي ما يجب العمل به. ويظهر من القاضي أنّه يجب على كلّ مسلم ، عالماً كان أو غيره ، الاعتقاد بالاُصول الخمسة أمّا التوحيد و العدل فذلك لوجهين:
    1 ـ إنّ في ترك الاعتقاد بالتوحيد والعدل مظنّة الضرر ويخاف الإنسان من تركه.
    2 ـ إنّهُ لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبّحات.
    وأمّا الاُصول الاُخر فيجب الاعتقاد بها ، لأنّ العلم بكمال التوحيد والعدل موقوف على ذلك ، ألا ترى أنّ من جوّز على الله تعالى في وعده و وعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علّة المكلّفين و غيره فإنّه لا يتكامل له العلم بالعدل ، ولا فرق في ذلك بين من يسلك طريقة العلماء وبين من لا يكون كذلك ، لأنّ العامي أيضاً يلزمه معرفة هذه الاُصول على سبيل الجملة ، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التّفصيل ، لأنّ من لم يعرف هذه الاُصول ، لا على الجملة ، ولا على التّفصيل ، لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل (1).
    يلاحظ عليه أوّلاً : ـ أنّ القول بلزوم معرفة الاُصول الخمسة على النّحو الّذي
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 123 ـ 124.

(303)
    تسرده المعتزلة قول بلا دليل. كيف والنّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام من شهد الشهادتين وإن لم يشهد على بعض هذه الاُصول ، ومعنى الشهادة الثانية هو التصديق بكلّ ما جاء به وهذا يكفي في تسمية الشاهد مسلماً إذا اعترف بلسانه ، ومؤمناً إذا اعترف بقلبه. وعلى ضوء ذلك فلا يلزم عرفان هذه الاُصول ، لا على وجه التفصيل أي بالبرهنة والاستدلال ، ولا على وجه الاجمال أي تلقّيها اُصولاً مسلّمة.
    وثانياً: أنّه لو صحّ ما ذكره من البيان بطل الاقتصار على الاُصول الخمسة ، لأنّ الاعتقاد بالنبوّات والشرائع والمعاد وحشر الأجساد ممّا يتكامل به العلم بالعدل ، فمن لم يعرفها ، لا على وجه الجملة ولا على وجه التفصيل ، لم يتكامل اعتقاده بالتوحيد والعدل ، وقس عليه سائر الاُصول.
    والّذي يمكن أن يقال في المقام أنّ ما يجب تحصيله من هذه الاُصول الخمسة هو وجوب معرفة و حدانيّته على الوجه اللائق به ، وأمّا الاُصول الأربعة فلا دليل على وجوب عرفانها بعينها استدلالاً أو تعبّداً.

3 ـ سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة
    قد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة ، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول ، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال: « إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر و ربّما فسق و ربّما كان مخطئاً.
    أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته ، وأثبت ما يجب نفيه عنه ، فإنّه يكون كافراً.
    وأمّا من خالف في العدل و أضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب و إظهار المعجزات على الكذّابين و تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم


(304)
    والإخلال بالواجب ، فإنّه يكفّر أيضاً.
    وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال: إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب ، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.
    وكذا لو قال: إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده ، لأنّ الخلف في الوعيد كرم ، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.
    فان قال: إنّ الله تعالى وعد و توعّد ، ولا يجوز أن يخلف في وعده و وعيده ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى ، فإنّه يكون مخطئاً.
    وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين ، فقال: إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس و غيرهم فإنّه يكون كافراً ، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.
    فان قال: حكمه حكم المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى ، فإنّه يكون فاسقاً ، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.
    فان قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً ، فإنّه يكون مخطئاً.
    وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، وقال: إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ و دين الاُمّة.
    فان قال: إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف ، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء ، لاتختصّ
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص 125 ـ 126 ، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.

(305)
    بهذه الخمسة ، فهناك اُصول حالها حال الخمسة.فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شب فاسق ، ومعها مخطىء.
    وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال: « إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » (1).
    وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة ، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول ، وهو أن السابر في كتب الحنابلة و الأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية ، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.
    والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه ، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش ، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.
    وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول ، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة ، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية و غيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً ، « وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام » ، فإنّ السلفيّين و أهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها « قولهم
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص 124.

(306)
    الّذي يقولون به ، وديانتهم الّتي يدينون بها » (1). و بيّنوا « مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنّة ، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها ، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل ا (2)لحقّ ».
    وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع ، و صفت لدى الشيخين بعد عراك ، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن و كونه غير مخلوق ، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين و يتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة ، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين ، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء و اختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.
    إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً ، وصيّرتها فرقاً شتى ، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة ، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً ، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.
    وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة ، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى ، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من
    1 ـ هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في « الابانة » الباب الثاني ، ص 17.
    2 ـ وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه « السنة » ، ص 44.


(307)
    أهل النجاة و غيرهم من أهل النار ، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به ، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها ، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل ، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.
    هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري ( م 321 ) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة و خمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة: أبي حنيفة ، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني (1)وقد كتب على هذه الرسالة شروح و تعاليق ، واحتلّت مكانها ـ بعد زمن ـ « العقائد النسفية ». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة و نحلة ، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.
    ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة « سوسنه ديفلد » محقّقة كتاب « طبقات المعتزلة » لابن المرتضى عن الاُستاذ « هـ.ريتر »: « من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة ، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ « ضالّة » إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة » (2).
    فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة ، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق ، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.
    إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر:
    1 ـ شرح العقائد الطحاوية: ص 25.
    2 ـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى: المقدمة. ط بيروت.


(308)
الأصل الأوّل
التوحيد
    عرِّف التوحيد في مصطلح المتكلّمين بأنّه العلم بأنّ الله سبحانه واحد لا يشاركه غيره في الذات والصفات و الأفعال والعبادة وبالجملة ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) ( الشورى / 11 ). والّذي يصلح للبحث عنه في هذا الأصل عبارة عن الاُمور التالية:
    1 ـ إثبات وجوده سبحانه في مقابل الدهريّة والماديّة القائلين بأصالة المادّة وقدمها و غناها في الفعل والانفعال و إيجاد الأنواع عن قدرة خارجة عن نطاقها.
    2 ـ إنّه سبحانه واحد لا ثاني له ، بسيط لا جزء له ، فهو الواحد الأحد ، خلافاً للثنويّة والمانويّة في الواحديّة ، وللنّصارى في الأحديّة.
    3 ـ عرفان صفاته سبحانه سواء أكانت من صفات الذات ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً مدركاً ، أم من صفات الأفعال ككونه خالقاً رازقاً غافراً.
    4 ـ كيفيّة استحقاقه لهذه الصّفات وتبيّن وجه حملها عليه سبحانه ، فهل تحمل عليه كحملها على سائر الممكنات أو لا؟
    5 ـ تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به كالحاجة وكونه جسماً أو جسمانيّاً ، عرضاً أو جوهراً أو غير ذلك.
    6 ـ تنزيهه سبحانه عن إمكان الرؤية الّتي يتبنّاها أهل الحديث والأشاعرة


(309)
    بحماس.
    فمع أنّ هذه الأبحاث الستّة صالحة للبحث في هذا الأصل ، لكن نرى أنّ المعتزلة يركّزون على البحث عن الرابع والسادس أكثر من غيرهما ، و يمرّون على الأبحاث الباقية مروراً إجمالياً. وما هذا إلاّ لأنّ أهل الحديث والأشاعرة متّفقون معهم فيها. وهذا أيضاً يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الاُصول العقائدية إنّما رتّبت ونظمت بين كلّ فرقة لأجل الردّ على مخالفيها لا لبيان الاُصول الّتي يناط بها الإسلام والإيمان في عصر النّبيّ والصحابة.
    و لأجل ذلك صار التوحيد عند المعتزلة رمزاً للتنزيه ، فكلّما أطلقت هذه الكلمة ، انصرفت أذهانهم إلى تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به في باب الصّفات و مجال الروية.
    وبما أنّهم ينفون الصفات الزائدة على ذاته سبحانه ، وتثبته الأشاعرة و قبلهم أهل الحديث ، صارت الصفاتية شعاراً لهذه الفرقة.
    إذا وقفت على ذلك فلنركّز على النّقاط الّتي يرجى تبيينها في زاوية فكر الاعتزال ونطوي الكلام عن غيرها لعدم الخلاف ، فنقول:
    إنّ البحث عن صفاته سبحانه يتمركز على نقاط ثلاث:
    الاُولى: تبيين كيفيّة استحقاقه سبحانه لصفاته الكماليّة وحملها عليه ، فهل هذه الصّفات حادثة أو قديمة ، زائدة على الذات أم لا؟
    الثانية: تبيين كيفية حمل الصفات الخبرية عليه الواردة في الذكر الحكيم من اليد والوجه والعين ، فهل تحمل على الله سبحانه بظواهرها الحرفيّة كما عليه السّلفية والأشاعرة ، أو تحمل عليه بظواهرها التصديقيّة ، أو لا هذا ولا ذاك بل تؤوّل لقرائن عقليّة؟
    الثالثة: نفي الرؤية الحسية الّتي يدّعيها أهل الحديث.
    فلنرجع إلى تبيين النقطة الاُولى أعني تبيين كيفيّة حمل الصّفات عليه.


(310)
    أ ـ نفي الصفات الزائدة على ذاته
    اتّفق أهل الحديث والكلابيّة وتبعهم الشيخ الأشعري على أنّ لله سبحانه صفات ذات كماليّة قديمة ، زائدة على ذاته.
    قال القاضي: « وعند الكلابيّة إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة ، وأراد بالأزلي القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري و أطلق القول بأنّه تعالى يستحقُّ هذه الصّفات لمعان قديمة لوقاحته و قلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (1) ورائدهم في هذه العقيدة هو الظّواهر القرآنية. قال سبحانه: ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) ( النساء / 166 ) ، وقال تعالى: ( وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ ) ( فاطر / 11 ). وقال عزّ من قائل: ( ذو القوّة المتين ) ( الذاريات / 58 ).
    قالوا: إنّ ظواهر هذه الآيات تعرب عن أنّ هنا ذاتاً ولها علم ولها قدرة كلاهما يغايران ذاته. ولو كانا نفس ذاته لما صحّ التعبير بقوله ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) أو ( ذُو القوة المتين ) ومثلها سائر الآيات الظاهرة في مغايرة الصّفات للذات (2).
    هذا دليل أهل الحديث و الكلابيّة و الأشاعرة و نرجع إلى تبيين مفاد الآيات بعد الفراغ من دليل المعتزلة.
تثنية القديم في نظريّة أهل الحديث
    إنّ هذه النظريّة الّتي يتبنّاها أهل الحديث اغتراراً بظواهر النّصوص ، تؤدّي إلى تعدّد القديم المنتهي إلى تعدّد الواجب حسب عدد الصفات ، وأيّ ثنويّة أسوأ من هذه؟ فلو قالت الثنويّة بأصلين أزليّين هما النور و الظلمة ، وقالت المانويّة بأنّ العالم مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، أو قالت النّصارى بالأقانيم
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 183.
    2 ـ لاحظ: الابانة للشيخ الأشعري: ص 107.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس