بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 311 ـ 320
(311)
    الثّلاثة فقد قال هؤلاء الأشاعرة بقدماء كثيرين بحسب تعدّد الصفات.
    وبذلك تقف على أنّ الحافز على التركيز على نفي الصّفات الزائدة ، هو التحفّظ على التوحيد و وحدانيّة الواجب والقديم ، ونفي المثيل و النّظير له أخذاً بقوله سبحانه ( ليس كمثله شيء ) و ( قل هو الله أحد ).
    فمن المحتمل عند البعض أنّ المعتزلة أرادوا بهذا ، الردّ على فكرة الأقانيم لدى النّصارى ، فإنّ القول بأنّ الذات الإلهيّة جوهر يتقوّم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة ، قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر ، وإلى اعتبار الصّفات أشخاصاً ، وإلى تجسّد « الاقنوم الثاني » ـ اقنوم العلم ـ في الابن. فلموا جهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنّه جوهر واعتبروا الصّفات هي الذات غير مغايرة لها ، فصفات الله ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، ويمكن أن تختلف وجوه الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد دون أن يلزم من ذلك التعدّد في ذاته ، فيقال عالم و نعني إثبات علم هو ذاته ، ونفي الجهل عن ذاته ، ويقال: قادر ونعني إثبات ذاته ونفي العجز ، فالله حيّ عالم قادر بذاته لا بحياة وعلم وقدرة زائدة على ذاته (1).
    يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصح لو كانت الصّفات الذاتيّة منحصرة في الثلاث: العلم والقدرة و الحياة حتّى يقال إنّ الهدف من القول بالعينيّة نفي توهّم التثليث ، بل الصفات الذاتية أكثر من ذلك.
    أضف إلى ذلك أنّ تفسير عقيدة المعتزلة في باب الصّفات بأنّها ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، غير تامّة ناشئة من تفسير خصومهم بما ذكر ، بل الحقُّ أنّ مرادهم هو أنّ واقعيّة خارجيّة بسيطة تجمع هذه الواقعيات ببساطتها و وحدتها ، لا أنّها اعتبارات ذهنيّة ، و ليست للصفات واقعيّة خارجية ، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول بالنيابة.
    1 ـ نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني: ص 192 ـ 194 ، و « في علم الكلام » قسم المعتزلة للدكتور أحمد محمود صبحي ، ص 123.

(312)
محاولة الأشاعرة لتصحيح تثنية القديم
    لمّا كان ما استند إليه أهل الاعتزال من البرهان في نفي الصفات الزائدة برهاناًدامغاً قاطعاً للنزاع ، حاول أهل التفكير من الأشاعرة نقده ، ولكن أتوا بالعجب العجاب. فهذا هو القاضي عضد الدين الإيجي يجيب عن البرهان في مواقفه بقوله: « إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات » (1) وقد أقرّه شارحه الشريف الجرجاني.
    وهو من الوهن بمكان ، إذ هو أشبه بتخصيص القاعدة العقليّة ، والقاعدة العقليّة لا تخصّص. إذ لسائل أن يسأل: أيّ فرق بين الذات والوصف حتّى يكون القول بتعدّد الأوّل موجباً للكفر دون الثاني ، مع أنّ ملاك الكفر موجود في كلا الموضعين ، فإنّ القول بتعدّد القدماء قول بتعدّد الواجب ، قول بتعدد الغنيّ بالذات المستغني عن غيره ، قول بتعدّد من يكون وجوده عن ذاته لا عن غيره ، وهذا كلّه من صفات الباري عزّ اسمه ، فلو كانت صفاته غير ذاته و كانت قديمة ، تكون واجبة غنيّة عن كلّ شيء ، واجدة لوجودها.
    وهناك محاولة ثانية للتخلّص عن تعدّد القدماء وهي القول بأنّ الصفات لا هو ولا غيره (2) وهذا أشبه باللّغز مع أنّ العقائد الإسلاميّة تتّسم بسمة الوضوح والسهولة ، لا التعقيد والغموض الّذي ربّما ينتهي في المقام إلى رفع النقيضين.
    ولو قال بحدوث الصفات ـ ولن يقول أبداً ـ يكون الفساد أفحش ، والمصيبة أعظم ، لأنّ اتّصافه بالقدرة الحادثة مثلاً إمّا بالاختيار وإمّا بالإيجاب. والأوّل محال لاستلزامه محذور التسلسل في صفاته ، لأنّ الكلام ينتقل إلى القدرة الثانية. فهل اتّصافه بها عن اختيار أو بايجاب؟ فعلى الأول يعود السؤال فيلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم أن يكون فاعلاً موجباً بالذات ، وأىُّ نقص أعظم من تصوير مبدأ الكمال والجمال وخالق
    1 ـ المواقف: ص 280.
    2 ـ أوائل المقالات: ص 17.


(313)
    القدرة والاختيار في الإنسان ، فاعلاً موجباً في اتّصافه بصفاته ، فلو صحّ كونه موجباً في مورد ، فليصحّ في سائر الموارد ككونه فاعلاً موجباً بالقياس إلى مصنوعاته.
    وهذه الاُمور هي الحوافز الحقيقية الّتي دعت المعتزلة إلى القول بالتوحيد والتنزيه في باب الصفات ونفي الصفات الزائدة والمعاني القائمة بذاته ، ولم يكن الحافز إلاّ الفرار عن الثنويّة و توابعها.
    ومن الجسارة الواضحة بل الظلم الفاحش اتّهام هذه الفرقة بما كتبهم عنه أهل الملل والمقالات. فهذا الأشعري يتّهمهم بقوله « أرادت المعتزلة أن تنفي أنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير ، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك ، فأتوا بمعناه ، لأنّهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له ، فقد قالوا: إنّه ليس بعالم ولا قادر و وجب ذلك عليهم ، وهذا إنّما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل ، لأنّ الزنادقة قال كثير منهم إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير ، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه و قالت: إنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير من طريق التسمية ( الكتاب والسنّة ) من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسّمع والبصر.
    وحاصل (1)تحليل الشيخ أنّ المعتزلة كانت بصدد نفي الأسماء والصفات وفاقاً للزنادقة ، فلم يقدروا عليه خوفاً من السلطة ، ولكنّهم نفوا العلم والقدرة والحياة حتّى يتسنّى لهم نفي الأسماء والصفات ( العالم والقادر ) بالملازمة ، فمثلهم كمثل من خرج من الباب موهماً للانصراف ثمّ دخل من النافذة.
    تلك والله جرأة في الدين و جسارة بلا مبرّر ، والآثار الباقية من المعتزلة تبيّن لنا جهة إصرارهم على نفي الصفات الزائدة على الذات. وليست الغاية نفي أسمائه وصفاته وتصوير كونه سبحانه غير عالم ولا قادر ، بل الغاية نفي الثنويّة وتعدُّد الواجب.
    قال القاضي: « لو كان عالماً بعلم ، لكان لا يخلو إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً ،
    1 ـ الابانة: ص 107 ـ 108.

(314)
    لا يجوز أن يكون معدوماً ، وإن كان موجوداً فلا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو محدثاً ، والأقسام كلُّها باطلة ، فلم يبق إلاّ أن يكون عالماً بذاته على ما نقوله » (1).
    وقال أيضاً: « لو كان يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، وجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى...إلى آخر ما أفاده » (2).
    كلّ ذلك يعرب عن أنّ الداعي لنفي الصفات الأزليّة هو تنزيهه سبحانه عن المثل بل الأمثال. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
    نعم هناك حافزان آخران صارا سببين لنفي الصفات الزائدة على الذات نشير إليهما:
    1 ـ تركيب الذات مع الصّفات ، فإنّه سبحانه كما هو واحد لا نظير له ولا مثيل فهو عزّ وجلّ « أحد » بسيط لا جزء له ، والتركيب حليف الامكان ، لأنّ المركّب متقوّم بالأجزاء ، والمتقوّم لا يكون واجباً ولا غنياً.
    2 ـ استلزام القول بالصفات الزائدة على الذات كونه سبحانه ناقصاً مستكملاً بالخارج عن ذاته و حيطة وجوده ، مع أنّه سبحانه كلّ الجمال والكمال ، لا يشذُّ كمال عن حيطة وجوده ، ولاجمال عن حدِّ ذاته.
    ولأجل هذين الأمرين مع ما تقدّم من حديث تعدّد القدماء اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات « الصفات الزائدة على الذات » كما اشتهرت الأشاعرة بالصفاتية ، متظاهرين بأنّ هناك ذاتاً و وصفاً ، والذات غير الوصف ، وكلاهما قديمان.
    إذا عرفت موقف المعتزلة في نفي الصفات الزائدة على الذات ، فهلمّ معي نقرأ بحثاً آخر من هذا المقام وهو تبيين كيفيّة حمل الصّفات على ذاته سبحانه على مذهبهم ، إذ كيف يمكن توصيفه سبحانه بأنّه عالم و قادر مع القول بعدم الصفات الزائدة على
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 183.
    2 ـ المصدر نفسه: ص 195 ، ولاحظ ص 197. ولاحظ الملل والنحل: ج 1 ص 46 في تبيين القاعدة الأولى من القواعد الأربع الّتي اختارها واصل بن عطاء ، ترى فيها التصريح منه بأنّ الغاية لنفي الصفات هو التنزيه.


(315)
    الذات أي عدم العلم والقدرة المغايرين لها.
    وهذا هو البحث المهمّ في المقام ، فنقول: إنّ لهم في تبيين كيفيّة الحمل آراء مختلفة بين صحيح و زائف و إليك الاشارة إلى عناوين مذاهبهم إلى أن نأخذ بالتّفصيل.
    أ ـ مذهب أبي الهذيل: إنّه عالم بعلم هو هو.
    ب ـ مذهب أبي عليّ الجبّائي: إنّه يستحقُّ هذه الصفات الأربع الّتي هي كونه قادراً ، عالماً ، حيّاً ، موجوداً لذاته.
    ج ـ مذهب أبي هاشم: إنّه يستحقّها لما هو عليه في ذاته (1).
    هذه هي مذاهبهم الثلاثة في تبيين كيفيّة الحمل ، وقد حاق بها الابهام ، وإليك التوضيح:
توضيح مذهب أبي الهذيل
    إنّ أبا الهذيل من كبار رجال الاعتزال و أحد شيوخ مدرسة البصرة ، توفّي سنة 235 هـ ، و يعتبر أوّل من نظم قواعد الاعتزال و وضع اُصوله ، ولكنّ الزّمان عبث بكتبه ، ولأجل ذلك طرأ على مذهبه الابهام حتّى إنّ القاضي عبدالجبّار أرجعه إلى مذهب أبي عليّ الجبّائي و قال: « أراد أبو الهذيل ما ذكره الشيخ أبو عليّ إلاّ أنّه لم تتلخّص له العبارة » (2).
    لكن ما نقل عنه حول مذهبه في علم الباري يدفعنا إلى القول بأنّ مذهبه في باب الصفات يغاير مختار الجبّائي و إليك هذه الكلمات:
    قال الشيخ الأشعري: « والفرقة الهذيليّة يزعمون أنّ لله علماً هو هو ، وقدرة هي هو ، وحياة هي هو ، وسمعاً هو هو ، وكذلك قالوا في سائر صفات الذات » (3).
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 182.
    2 ـ المصدر نفسه: ص 183.
    3 ـ مقالات الاسلاميين: ص 179.


(316)
    قال الشهرستاني: « انفرد أبو الهذيل بعشر قواعد ، الاُولى: إنّ الباري تعالى عالم بعلم و علمه ذاته ، قادر بقدرة و قدرته ذاته ، حيّ بحياة و حياته ذاته ، وإنّما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه ، وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته » (1).
    ولو صحّ نقل هذه الكلمات عن أبي الهذيل فهو لا يهدف إلى إنكار أسمائه كالعالم و القادر والحيّ ، ولا إلى إنكار صفاته من العلم و القدرة والحياة ، بل يعترف بهما معاً ، غير أنّه يقول باتّحاد الصفات مع الذات وجوداً و عينيّة ، وتغايرهما مفهوماً دفعاً للاشكالات المتوجّهة إلى القول بالزيادة.
    ولأجل إيقاف القارئ على مرام الشيخ أبي الهذيل نأتي بالتوضيح التالي:
    إنّ المتبادر من قولنا « عالم ، قادر ، حيّ » في نظر أهل اللّسان هو الذات الموصوفة بالعلم والقدرة و الحياة ، بمعنى أنّه يتبادر مفهوم بسيط ينحلّ إلى ذلك المركّب مآلاً. فتكون هناك اثنينيّة باعتبار أنّ هناك موصوفاً و معروضاً و وصفاً و عرضاً.
    هذا هو المتبادر في الاستعمالات العرفيّة ، ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. ولكنّه بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله ، لاستلزامه تثنية الواجب أوّلاً ، وتركّبه من شيئين ثانياً ، واستكماله بغيره ثالثاً. فلأجل ذلك يجب أن يصار في توصيفه سبحانه إلى فرض آخر يحفظ معه أمران:كونه سبحانه واجداً لحقيقة العلم والقدرة و الحياة حتّى لا يلزم التّعطيل ، وكونه واحداً بسيطاً غير مركّب من شيء و شيء حتّى لا ترد الاشكالات الثلاثة الماضية ، والتحفّظ على هذين الأمرين لا يحصل إلاّ بالقول بأنّ أوصافه سبحانه و نعوته كلّها موجودة بوجود واحد وهو وجود الذات ، وهي بمفردها مصداق لهذه النعوت ، و يكفي نفس وجودها في حمل هذه الصفات الكماليّة عليها بلا طروء تعدُّد في مرحلة الذات. ولأجل تقريب المطلب وأنّه يمكن أن تحمل صفات كثيرة على شيء
    1 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 49 ـ 50.

(317)
    واحد ، وينتزع منه مفاهيم عديدة ، نأتي بمثال و إن كان الفرق بين المثل والممثّل عظيماً ، ولكنّ الهدف هو التقريب لا التشبيه.
    إذا تصوّرنا الإنسان الخارجي و فرضنا له ماهيّة ، فلها ذاتيات ـ كالحيوان والناطق ـ يعدّان من الاُمور الذاتية بالنسبة إلى ماهيته ، فهذه الذاتيات موجودة بوجود واحد شخصي من دون أن تكون حيثيّة الحيوان في الخارج غير حيثيّة الناطق ، بل الإنسان الخارجي كلّه بوحدته مصداق للحيوان ، كما هو كلّه مصداق للناطق.
    فهنا شيء واحد و هو الشخصية الخارجية الّتي هي مصداق الإنسان ، يصحّ أن ينتزع منه مفاهيم كثيرة من دون أن تنثلم وحدته.
    وعلى ضوء هذا المثال نقول : إنّ ذاته سبحانه بوحدتها و بساطتها ، مصداق لكونه عالماً وقادراً و حيّاً ، وليست حقيقة العلم في ذاته تغاير واقعيّة القدرة فيه. كما أنّ كليهما لا يغايران حقيقة الحياة. بل الذات الواحدة بما أنّها موجود بسيط ، مصداق لهذه الكمالات من دون أن تضمّ إلى الذات ضميمة أو تطرأ كثرة.
    وبهذا البيان تحفظ على بساطته ، كما تحفظ على كونه واجداً لحقيقة الصفات الكماليّة. ولا يهدف هذا البيان إلى إخلاء الذات عن حقيقة هذه الصّفات ، ولا تعطيلها عن الاتّصاف بها ، بل يريد أنّ الذات لأجل كونها كلّ الكمال و كلّ الجمال ، وليس فوقها موجود أكمل و أجمل ، بوحدتها و بساطتها واجدة لحقيقة هذه الصفات. والفرق بين كونه سبحانه عالماً و كون زيد عالماً ، بعد اشتراكهما في كونهما واجدين لحقيقة هذا الوصف ، هو أنّه سبحانه ببساطته واجد لهذا الكمال ، وذاته مصداق للعلم ، ولكنّ زيداً بذاته غير واجد لهذا الكمال و إنّما وصل إليه في مرتبة بعدها.
    نعم ، كونه سبحانه عالماً بهذا المعنى يخالف ما هو المتبادر منه لفظ « العالم » وأشباهه ، فإنّ المتبادر منه هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا الذات البسيطة المتحقّق فيها المبدأ ، والقسم الثاني مصداق جديد لم يتعرّف عليه العرف كما لم يتعرّف عليه الواضع ، وإنّما هو مصداق كشف عنه العقل بدقّته و غفل عنه العرف لمسامحته ، ولكنّه لا يضر


(318)
    بالاطلاق ، لأنّ العرف لا يتوجّه إلى هذه الدّقائق ، وأهل الدقّة غير غافلين عن هذا الفرق ، وارتكاب خلاف الظواهر بهذا المقدار فراراً عن الاشكالات العقليّة كثير النظير (1).
    ثمّ إنّ القائلين بوحدة الصّفات مع الذات لا يعنون منها الوحدة من حيث المفهوم والموضوع له ، بداهة أنّ ما يفهم من لفظ الجلالة في قولنا « الله عالم » غير ما يفهم من المحمول كلفظ « العالم » و إنّما يعنون بها الوحدة من حيث العينيّة والتحقّق ، بمعنى أنّ ما هو المصداق للفظ الجلالة هو المصداق للفظ العالم ، وهكذا سائر الصفات.
برهان بديع لاثبات الوحدة
    ثمّ إنّ لأهل التّحقيق في إثبات الوحدة العينيّة براهين دقيقة نكتفي بذكر واحد منها:
     « إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ ذاتاً ما إذا كان لها من الكمال ما هو بحسب نفس ذاتها ، فهي أفضل و أكمل من ذات لها كمال زائد على ذاتها ، لأنّ تجمّل الاُولى بذاتها ، وتجمّل الثانية بصفاتها. وما تجمّل بذاته أشرف ممّا يتجمّل بغير ذاته ، وإن كان ذلك الغير صفاته. وواجب الوجود يجب أن يكون في أعلى ما يتصوّر من البهاء و الشّرف والجمال ، لأنّ ذاته مبدأ سلسلة الوجودات و واهب كلّ الخيرات و الكمالات ، والواهب المفيض لا محالة أكرم و أمجد من الموهوب المفاض عليه ، فلو لم يكن كماله بنفس حقيقته المقدّسة ، بل مع اللّواحق لكان المجموع من الذات و اللّواحق أشرف من الذات المجرّدة ، والمجموع معلول فيلزم أن يكون المعلول أشرف و أكمل من علّته وهو محال بيّن الاستحالة » (2).
    هذا هو واقع النّظرية و حقيقتها ، وأنت إذا لاحظت دليلها وما أوضحناها به
    1 ـ قال سبحانه ( الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً ) ( الانفال / 66 ) فهل يمكن الأخذ بظاهره البدئي في أنّه لم يكن عالماً قبله.
    2 ـ الاسفار: ج 6 ، ص 134 ـ 135.


(319)
    تقف على أنّ ما ردّ به تلك النظرية ناش عن عدم الوقوف على مراد القائل ، ولو أنّهم كانوا واقفين على مصدر هذه النظريّة لما وجّهوا إليها سهامهم المرقوشة ، وإليك تلك الردود واحداً بعد الآخر.
    1 ـ قال الأشعري: « وألزم أبو الهذيل فقيل له: إذا قلت إنّ علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي و ارحمني فأبى ذلك ، فلزمته المناقضة ».
    2 ـ وقال: « إنّ من قال عالم ولا علم ، كان مناقضاً ، كما أنّ من قال علم ولا عالم كان مناقضاً » (1).
    يلاحظ عليه: أمّا أوّلاً: فإنّ أبا الهذيل لم يقل بالوحدة من حيث المفهوم و إنّما قال بالوحدة من حيث التحقق و العينيّة وما ذكره من النّقض إنّما يرد على الوجه الأوّل لا على الوجه الثاني. فلا يصحّ أن يقال « يا علم الله اغفرلي » ، لأنّ المفهوم من لفظ علم الله غير المفهوم من لفظ الجلالة ، فلا يصحّ أن يوضع « علم الله » من حيث المفهوم مكان لفظ « الله » و يدعى بمفهوم غيره ، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يقال يا موجود ، ويقصد به الله سبحانه ، بحجّة أنّ ماهيّته إنيّته ، ووجوده نفس ماهيّته.
    وأمّا ثانياً: فبأنّ الشيخ الأشعري خلط بين نظريّة أبي الهذيل و نظرية الجبّائي الّذي تتلمذ عليه الشيخ الأشعري سنين متمادية إلى أن رفضه و رفض مذهبه ، وانسلك في عداد الحنابلة. فتصوّر أنّ مذهب أبي عليّ نفس مذهب أبي الهذيل. ففي مذهب أبي عليّ ، الذات خالية من الصّفات الحقيقيّة ، غير أنّها نائبة منابها ، ولأجل هذه النيابة يصحّ الحمل ، ويجيء توضيحه عمّا قريب ، بخلافه على مذهب أبي الهذيل.
    3 ـ قال البغدادي: « الفضيحة الرابعة من فضائحه ( أبي الهذيل ) قوله بأنّ علم الله سبحانه و تعالى هو الله و قدرته هي هو ، ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علماً و قدرة ، ولو كان هو علماً وقدرة لاستحال أن يكون عالماً قادراً ، لأنّ العلم لا يكون
    1 ـ الابانة: ص 108.

(320)
    عالماً والقدرة لا تكون قادرة » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الاشكال مبنىُّ على اقتناص المعارف الإلهية من اللّغة والعرف ، أو من باب مقايسة الواجب بالممكن ، فيما أنّ العلم والقدرة في الإنسان عرض والإنسان معروض لهما ، تخيّل أنّ العلم والقدرة في جميع المراتب أعراض لا تخرج عن حدِّها ، ولكنّه غفل عن أنّ للعلم والقدرة والحياة مراتب و درجات. فالعلم منه عرض كعلمنا بالأشياء الخارجيّة ، و منه جوهر كعلمنا بذاتنا و حضور ذاتنا لدى ذاتنا ، ومنه واجب قائم بنفسه كعلم الله سبحانه بذاته. فعند ذلك لا مانع من أن يكون هناك علم قائم بالذات و قدرة مثلها و حياة كذلك.
    وهناك كلمة قيّمة للحكيم الفارابي حيث يقول: « يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات ، وفي العلم علم بالذات ، وفي القدرة قدرة بالذات ، وفي الارادة إرادة بالذات ، حتّى تكون هذه الاُمور في غيره لا بالذات ».
    ومصدر ه (2)ذه الكلمات العجيبة هو مقايسة الغائب بالشاهد و تصوّر أنّ علمه سبحانه أو قدرته و حياته كعلم الممكنات و قدرتها و حياتها. فذلك هو التشبيه الّذي هو الأساس لمذهب أهل الحديث ومن لفّ لفّهم.
    4 ـ ذكر الشهرستاني أنّ أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه (3).
    يلاحظ عليه: أنّه رجم بالغيب ومن الممكن أنّه وصل إليه من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما سيوافيك كلامه ، وقد عرفت أنّ المعتزلة في التوحيد والعدل عالة على خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
    5 ـ قال القاضي الايجي: « لو كان مفهوم كونه عالماً حيّاً قادراً نفس ذاته ، لم يفد
    1 ـ الفرق بين الفرق: ص 127.
    2 ـ تعاليق الاسفار: ج 6 ، ص 135.
    3 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 50.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس