بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 31 ـ 40
(31)
دسّوا بين المسلمين أحاديث موضوعة واسرائيليات ومسيحيات ومجوسيات كثيرة ، ولقد عرفت الموضوعات الهائلة في عصر البخاري وشيوخه وتلاميذه ، حتّى انّه أخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث (1).
    جاء في مسند أحمد ثلاثون ألف حديث وقد انتخبها من سبعمائة وخمسين ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (2).
    نحن نفترض أنّ متوسّط عدد الكلمات في الحديث عشرون كلمة فيكون مجموع ما صدر عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عشرين مليون كلمة في هذه الفترة القصيرة أي العشرة أعوام بالاضافة إلى ما كان لديه من أعمال ووظائف ، وحروب وغزوات ، واتفاقيات مع شيوخ القبائل ، وارتياد إلى الأرياف ، وتسيير دفّة الحكم ، فهل كان بإمكانه أن يتكلّم بهذا العدد من الكلمات ، سبحان اللّه ، ما أجرأهم على البهتان! ولو رجعت أنت إلى قائمة الموضوعات والمقلوبات الّتي عرضناها لك في الجزء الأوّل (3) لجزمت بعدم كفاءة الاُمّة لصيانة الدين من الدس والتحريف.
    هذه هي الفراغات الحاصلة بعد وفاة النبي الأكرم ، فمقتضى الحكمة وتجسيد اكمال الدين الذي جاء به الكتاب الكريم في قوله : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) (4) أن تعالج هذه المشاكل أي تفسير الكتاب العزيز برفع الستار والابهامات الطارئة على مفاهيمه ، والإجابة على المسائل المستجدّة ، والدفاع عن حمى الشريعة ولاتحل عقدة المشكلة ولا
1 ـ الهدى الساري ، مقدمة فتح الباري 54.
2 ـ طبقات الذهبي 9 / 17.
3 ـ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة / 74.
4 ـ المائدة / 3.


(32)
تسدّ تلك الفراغات إلاّ بإمام تمتّع بتربية إلهية ، وإعداد غيبي ، ولا تصل إليه الاُمّة إلاّ بتعيين الرسول أو بتعيين من عيّنه كما في الأئمة الباقين ، فعندئذ يتجسّد قوله سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً ) وإلاّ لبقيت تلك الفراغات الهائلة وجرّت على الاُمّة الويل والويلات كما جرّتها ـ وللأسف ـ لأجل اعراض الاُمّة عن الإمام المنصوب.
    هذا هو الذي نفهمه من معنى الإمام وهو ميزان الحق والباطل وأنّه يرجع إليه في التعرّف على الصحيح والزائف.
    وأمّا إذا كان الرجل على حدّ يقول : ولّيتكم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني وإن زِغْت فقوّموني فلا يصلح أن يكون إماماً بل يكون مأموماً فتصبح الرعية إماما ، والامام ماموما ، ونعم ما يقول الشاعر الشيعي ابن حماد العبدي :
وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده أقمنا إماماً إن أقام على الهدى فقلنا إذا أنتم إمام إمامكم ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترنا أطعنا وإن ضلّ الهداية قوَّمنا بحمد من الرحمن تُهْتم وما تُهْنا لنا يوم خم ما اعتدينا ولا جُرنا
    وهناك كلمة قيّمة للفيلسوف ابن سينا تشير إلى فائدة تنصيب الإمام فيقول : « ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبي ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كل وقت ، فإنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً (1) ـ إلى أن قال ـ والاستخلاف بالنص أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب (2) والتشاغب
1 ـ اشارة إلى سدّ الفراغات الحاصلة بعد وفاته.
2 ـ اشارة إلى أنّ مصالح الإسلام تكمن في النص.


(33)
والاختلاف » (1).
    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : انّ مصالح الإسلام والمسلمين كانت تكمن في تعيين الإمام ، لا تفويض الأمر إلى الاُمّة ، وترك الأمر للظروف والصدف لترسيه على أي شاطىء تختاره.
1 ـ الشفاء 2 ( الفن الثالث عشر من الالهيات الفصل الثالث والخامس ) 558 ـ 564 طبع ايران.

(34)

(35)
الفصل الثاني
ماهو المرتكز في أمر القيادة في
ذهن الرسول والاُمّة


(36)

(37)
    قد عرفت أنّ مقتضيات الظروف ومتطلّباتها كانت تستدعي تعيين الإمام من جانب الرسول ، كما أنّ كمال الدين في أبعاده الثلاثة المختلفة المذكورة آنفاً تستدعي ذلك أيضاً ، فهلمّ معي ندخل في الموضوع الثاني الذي ألمحنا إليه في بداية البحث ضمن الاُمور الّتي لا مناص للمحقّق إلاّ دراستها ، وهو تبيين المرتكز في الأذهان في أمر الزعامة يوم بعث الرسول وبعده.
    إنّ النصوص التاريخية تشهد بأنّ الرسول الأكرم خيّب آمال الطامحين في تولّي الخلافة من بعده وقال بأنّه بيد اللّه ، يعني لابيدي ولا بيد الناس ، ويكفي في ذلك ما نتلوه :
    1 ـ لمّا عرض الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) نفسه على بني عامر في موسم الحج ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : « أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ » فقال النبي : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » (1).
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 424 فلو كان الأمر ملقىً على عاتق الاُمّة فما معنى كون الأمر إلى اللّه ؟

(38)
    ولم يكن ذلك الأمر مختصّاً بالنبي الأكرم ، بل الامعان في تاريخ أصحابه والخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبي يدلّ على أنّهم انتهجوا أيضاً نهج تنصيب الخليفة ، لا تفويض أمره إلى الاُمّة. فلو أغمضنا النظر عن خلافة أبي بكر وما جرى حولها من لغط وشغب ، وضرب وشتم وارعاب وارهاب وغير ذلك من الاُمور الّتي تجعلها بعيدة كل البعد عن الشورى والانتخاب النزيه ، فلنا في انتخاب الخليفتين الآخرين دليل واضح على أنّ المتصوّر من الخلافة عندهم هو تعيين الخليفة شخصاً لا تفويض أمر انتخابه للظروف والاُمّة.
    2 ـ قال ابن قتيبة : دعا أبوبكر عثمان بن عفّان فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها و أوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، انّي أستخلف علكيم عمر بن الخطاب ... (1).
    ويظهر من ابن الأثير في كامله أنّه غشي على الخليفة أثناء الاملاء وانّما أكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثم أفاق أبوبكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبوبكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي (2).
    فهل يمكن للخليفة أن يلتفت إلى الخطر الكامن في ترك الاُمّة دون خليفة ، ولا يلتفت إليه النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
    3 ـ وأمّا استخلاف عثمان ، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ عمر طلب ستة أشخاص من أصحاب النبي وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيداللّه ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقّاص ،
1 ـ الامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 18 طبع مصر.
2 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 292 ، الطبقات الكبرى 3 / 200 طبع بيروت.


(39)
وعبدالرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.
    فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، انّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً ، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيّام فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرّقوا في اليوم الثالث حتّى تستخلفوا (1). حتّى قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس » (2).
    وهناك كلمات صدرت من الصحابة في ثنايا خلافة الخلفاء وبعدهم تعرب عن أنّ الرأي السائد والمرتكز في أذهانهم هو تعيين الخليفة وانّ مسألة نظام الشورى شعار رفعه معاوية مقابل علي ( عليه السلام ) على الرغم من أنّه استخلف عندما مات ، ولم يعتدّ بمنطقه وإنّما جرّده سلاحاً على عليّ ، وإن كنت في ريب من هذا الأمر نتلو عليك كلماتهم الّتي صدرت عفواً وارتجالاً عند موت الخليفة وارتحاله :
    4 ـ نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحسّ بالموت قال لابنه عبداللّه : اذهب إلى عائشة وأقرأها منّي السلام ، واستأذن منها أن اُقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر ، فأتاها عبداللّه بن عمر فأعلمها ... فقالت : نعم وكرامة. ثمّ قالت : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع اُمّة محمّد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم
1 ـ الامامة و السياسة 1 / 23 ـ
2 ـ الكامل لابن الأثير 3 / 35.


(40)
بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة (1) فأتى عبداللّه ( إلى أبيه ) فأعلمه (2).
    5 ـ نقل الحافظ أبو نعيم الاصفهاني المتوفّى عام 430 انّ عبداللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثم جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد (3).
    6 ـ قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر فأتاه و خلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع اُمّة محمّد بعدي كالضأن لاراعي لها (4).
    هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتّفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدّمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين ، وسيوافيك الكلام في استخلاف الصحابة بعضهم لبعض.
    ولو دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الأصل الذي كان يعتقد به جميع الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة كان هو التنصيص والتعيين وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.
1 ـ وهل يمكن أن تلتفت اُمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) !
2 ـ الامامة و السياسة للدينوري 1 / 32.
3 ـ حلية الأولياء 1 / 44.
4 ـ الامامة والسياسة 1 / 168 طبع مصر.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس