بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 21 ـ 30
(21)
موقفاً إيجابياً فيجعل القيمومة على الدعوة ممثّلة على أساس نظام الشورى الذي يضم مجموع المهاجرين والأنصار ، فهذا الجيل الممثّل للاُمّة هو الذي سيكون قاعدة للحكم ومحوراً لقيادة الدعوة في خط نُمُوّها. وفيما يلي ما يرد تلك الفكرة :
    1 ـ لو كان النبي قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً ايجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة ، واسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام ، لكان من أبده الأشياء التي يتطلّبها هذا الموقف الايجابي ، أن يقوم الرسول القائد بعملية توعية للاُمّة والدعاة ، على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله واعطائه طابعاً دينياً مقدّساً ، واعداد المجتمع الإسلامي اعداداً فكريّاً وروحيّاً لتقبّل هذا النظام ، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسياً على أساس الشورى وانّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبليّة وعشائريّة تتحكّم فيها القوّة والثروة وعامل الوراثة إلى حدّ كبير.
    ونستطيع بسهولة أن نُدرك أنّ النبيّ لم يمارس عمليّة التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية لأنّ هذه العملية لو كانت قد اُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، وفي ذهنية الاُمّة وعلى أقل تقدير في ذهنية الجيل الطبيعي منها ، الذي يضمّ المهاجرين والأنصار بوصفه ، وهو المكلّف بتطبيق نظام الشورى ، مع أنّنا لانجد في الأحاديث المأثورة عن النبي أيّ صورة تشريعية محدّدة عن نظام الشورى ، وأمّا ذهنية الاُمّة أو ذهنية الجيل الطبيعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذلك القبيل.
    ثمّ إنّه ( رحمه اللّه ) استشهد بفعل الخليفة الأوّل حيث لم يمارس نظام الشورى في حال حياته وقام بتنصيب عمر مكانه ، كما فعل ذلك أيضاً الخليفة الثاني في نطاق


(22)
خاص فجعله محصوراً في ستّة أشخاص ، وسيوافيك تفصيل ذلك في الفصل الثاني.
    الطريق الثالث : وهو الطريق الوحيد الذي بقى منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولاَ على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبيّ. وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً فيختار بأمر من اللّه سبحانه وتعالى شخصاً يرشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة ، فيعدّه اعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً تتمثّل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية ، وليواصل بعده ( بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار ) ، قيادة الاُمّة وبناءها عقائدياً وتقريبها باستمرار نحو المستوى الذي يؤهّلها لتحمّل المسؤوليات القيادية.
    وهكذا نجد أنّ هذا هو الطريق الوحيد الذي كان بالامكان أن يضمن سلامة مستقبل الدعوة وصيانة الحكم من الانحراف في خط نموّها وهكذا كان (1).
    وعلى ذلك فالقول بالتشيّع عبارة عن القول بوجود ضمان لاستمرار الدعوة بتعيين الوصيّ من جانب الرسول بأمر من اللّه ، وقد عرفت أنّ طبيعة الظروف في عصر الرسول كانت تقتضي ذلك على الوجه الكلّي ، أي كان يتطلّب تعيين القائد وأن لا يترك الأمر إلى الاُمّة ، وعدم اهماله وتركه للصدف ، وستعرف في الفصل الثالث أنّه قد صدّق الخبرُ الخبرَ ، وأنّ الرسول قد قام بتلك الوظيفة التي تضمن استمرار الدعوة وسلك هذا الطريق سلوكاً واضحاً.
    وهناك بيان ثالث يعطي نفس ما أعطاه الوجهان وهو دراسة طبيعة الحكم من زاوية طرؤ الفراغ الهائل بعد رحلة الرسول فيما يمت إلى صلب الدين وهداية الاُمّة إلى الحق والحقيقة :
1 ـ مقدّمة تاريخ الامامية 5 / 16 بتلخيص.

(23)
    لقد درسنا متطلّبات الظروف ومقتضيات عصر النبي في مجال القيادة وإدارة دفّة الحكم ووصلنا إلى أنّ مصالح المسلمين كانت تكمن في تعيين القائد دفعاً للأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين بوفاة النبيّ ، ومفاجأة الاُمّة بفراغ مكانه القيادي.
     ;ويمكن لنا دراسة طبيعة الحكم من زاوية اُخرى وهي ملاحظة الفراغات الهائلة الحاصلة بعد رحلة القائد ، لا من جهة القيادة السياسية والاجتماعية ، بل في جانب حاجة الاُمّة إلى قائد رسالي يسد تلك الفراغات المعنوية فيما يمت إلى صلب الدين وأمر هداية الاُمّة في مجال تفسير الكتاب وشرح مقاصده أوّلاَ ، وتبيين ما لم يبيّنه الرسول في مجال الأحكام ثانياً ، وصيانة الدين الحنيف من محاولات التحريف ثالثاً فالاُمّة تواجه وتفاجئ هذه الفراغات الثلاثة ، فمن الذي يسدّها ، فهل الاُمّة جميعاً أو المهاجرون والأنصار أو أهل الحل والعقد ؟ والجواب : لا ، لأن المفروض ـ كما سيأتي ـ قصورهم عن ملء الفراغ ، فما هو الحل لهذا المشكل ؟ وهذا هو الذي يستهدفه هذا البحث. فنقول :
    إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤولياته علي تلقّي الوحي الإلهي وابلاغ الآيات النازلة عليه بل كانت تتجاوز عن ذلك كثيراً فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه بالاضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف :
    1 ـ كان النبي الأكرم يفسّر الكتاب العزيز ويشرح مقاصده ويبيّن أهدافه ويكشف رموزه وأسراره.
    2 ـ وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الاسلاميّ عن طريق القرآن الكريم وسنَّته.
    3 ـ وكان يصون الدين من التحريف والدس ، فكان وجوده مدار الحق وتميزه عن الباطل ، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدس والترحيف إلى دينه.


(24)
    ولا شك أنّ موت النبيّ وفقدانه سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة فيجب اعداد قائد له القابلية والصلاحية في سد تلك الفراغات ، ولا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع بما كان يتمتّع به الرسول عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي ، فيكون وعاء علم النبي ومخزن أسراره ، ومودع حكمته ، حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.
    ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنوية لاتحصل لشخص بطريق عادي ولا بالتربية البشرية المتعارفة ، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص وتربية إلهية خاصّة هذا من جانب ، ومن جانب آخر لا يمكن للاُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.
    كل ذلك يثبت نظرية التنصيص وأنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من اللّه سبحانه ، أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات التي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول. وإليك تفاصيل هذه الفراغات ، ونكتفي في كل مورد بموجز القول :

    1 ـ القرآن الكريم والابهامات الطارئة :
    إنّ اللّه سبحانه يصف القرآن بأنّه نزل إلى النبيّ ليبيّن للناس ما نزل إليهم فيقول : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للِنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ ) (1) وقال : ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (2) فقد وصف النبي في هاتين الآيتين بأنّه مبيّن بما في الكتاب لا قارئ فقط ، فكم فرق بين أن يقول : « لتقرأ
1 ـ النحل / 44.
2 ـ النحل / 64.


(25)
للناس » وبين : ( لتبيّن لهم ).
    إنّ هذه الآيات تكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى ورغم أنّه منزّه عن مشابهة كتب الألغاز والطلاسم ، يحتاج إلى مبيّن ومفسّر بسببين :
    1 ـ وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.
    2 ـ غياب القرائن الحالية التي كانت الآيات محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومة للمخاطبين في ذلك الوقت.
    وقد كان النبيّ بنفسه يقوم بتفسير القرآن الكريم وتبيين مجمله وتقييد مطلقه وما أشبه ذلك. وكانت القرائن الحالية معلومة وواضحة لدى الأصحاب. ولمّا ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى وحصل الفصل الطويل بينه وبين اُمّته ، حدث هناك فراغ هائل في تفسير القرآن فلاترى آية من الآيات إلاّ وفي تفسيرها آراء متضاربة إلى حدّ اختلفوا في تفسير الآيات التي تتعلّق بأعمالهم اليومية :
    1 ـ قال سبحانه في آية الوضوء : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاَيْدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَاَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبِيْنِ ) (1) وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية وصارت الاُمّة إلى قولين : فمن عاطف لفظ « أَرجلكم » على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح ، ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.
    ومن المعلوم أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟
    2 ـ لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال :
1 ـ المائدة / 6.

(26)
( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (1) وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضعه : فمن قائل إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكف وترك الابهام كما عليه الإمامية ، وجماعة من السلف. ومن قائل إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. ومن قائل إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (2).
    3 ـ سئل أبوبكر عن الكلالة في قوله تعالى : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الكَلالَةِ إنِ امْرُؤاٌْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (3) فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان ، واللّه ورسوله بريئان ، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّهَ أن أردّ شيئاً قاله أبوبكر.
    4 ـ أمر اللّه سبحانه الورثة باعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِد مِنْهُمَا السُّدُسُ ) (4) وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه باعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَمْ
1 ـ المائدة / 38.
2 ـ راجع الخلاف للطوسي ( كتاب السرقة ) 184. أحكام القرآن للجصاص 421 : روي عن أبي هريرة انّ رسول اللّه قطع يد سارق من الكوع. ونقل ابن قدامة الخلاف إذا سرق ثانياً : فعن عطاء وربيعة وداود أنّه تقطع يده اليسرى ، وعن الآخرين : تقطع رجله اليسرى. المغني 10 / 264 ـ 265.
3 ـ النساء / 176.
4 ـ النساء / 12.


(27)
يَكُن لَهَا وَلَدٌ فَإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ ) (1).
    فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟ لا شك انّه لم يكن ثمّة ابهام في مورد هاتين الآيتين ، بل حدث الابهام في ذلك فيما بعد.
    ألا يدل هذا على ضرورة من يخلف النبي حتّى يرفع الستار عن وجه الحقّ بما عنده من علوم مستودعة.

    2 ـ الرسالة الإسلامية والحوادث المستجدّة :
    إنّ اتّساع رقعة الدولة الإسلامية ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة جعلهم أمام موضوعات مستجدّة ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة ولا معروفة في عهد النبي الأكرم الذي لم تكن فيه الدولة الإسلامية قد توسّعت كما توسّعت بعد وفاته ، والتحاقه بالرفيق الأعلى.
    وكان من الأمر المشكل أن يتحدّث النبي عن أحكام موضوعات لم يعرف المسلمون شيئاً من ماهياتها وتفصيلاتها ، ولم يشاهدوا لها نظيراً في حياتهم ، ولأجل ذلك كانوا يجهلون أحكام الموضوعات المستجدّة من دون أن يجدوا لها حلولا وأجوبة ، هذا من جانب.
    ومن جانب آخر أنّ الأحاديث التي رواها الصحابة والتابعون عن النبي الأكرم في مجال الأحكام لاتتجاوز عن خمسمائة حديث (2) حتّى قال الإمام الرازي : إنّ المنصوص حكمه من الموضوعات قليل جدّاً (3) ولنذكر للموضوع نماذج :
1 ـ النساء / 176.
2 ـ الوحي المحمدي 212 الطبعة السادسة.
3 ـ المنار 5 / 189.


(28)
    1 ـ شغلت مسألة العول بال الصحابة فترة من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول التي واجهها جهاز الحكم ، ويعنى منه قصور التركة عن سهام ذوي الفروض. مثال ذلك : إذا ترك الميّت زوجة وأبوين وبنتين ، ولمّا كان سهم الزوجة ـ حسب نص القرآن ـ الثمن وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين ، والتركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، فلمّا عرضت المسألة على عمر ابن الخطاب قال : واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن اُقسّم المال عليكم بالحصص ، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة (1).
    رجل طلّق امرأته قبل الإسلام مرّتين وفي الإسلام مرّة فهل تحرم عليه أو لا ؟ فقال عمر بن الخطاب للسائل : لا آمرك ولا أنهاك ، وقال عبدالرحمان بن عمر : ولكنّي آمرك ليس طلاقك قبل الإسلام بشيء (2).
    2 ـ إنّ الجيل المعاصر للرسول لم يكن يملك تصوّرات واضحة محدّدة حتّى في مجال القضايا الدينية التي كان يمارسها النبي مئات المرّات وعلى مرأى ومسمع من الصحابة ونذكر على سبيل المثال لذلك ، الصلاة على الميّت ، فإنّها عبادة ، كان النبي قد مارسها عادة مئات المرّات وأدّاها في مشهد عام من المشيّعين والمصلّين وبالرغم من ذلك يبدو أنّ الصحابة كانوا لا يجدون ضرورة لضبط صورة هذه العبادة مادام النبي يؤدّيها وماداموا يتابعون فيها النبي فصلاً بعد فصل ، ولهذا وقع الاختلاف بينهم بعد وفاة النبي في عدد التكبيرات في صلاة الميّت ، فقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قال : قبض رسول اللّه والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )
1 ـ أحكام القرآن للجصاص 2 / 109 ، مستدرك الحاكم 4 / 340.
2 ـ كنز العمال 5 / 161.


(29)
يكبّر سبعاً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر خمساً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر أربعاً ، فاختلفوا في ذلك حتّى قبض أبوبكر ، فلمّا ولّى عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك شقّ عليه جدّاً فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول اللّه ، فقال : إنّكم معاشر أصحاب رسول اللّه متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه فانظروا أمراً تجتمعون عليه ، فكأنّما أيقظهم ، فقالوا : نعم ما رأيت يا أميرالمؤمنين الخ (1).
    و لأجل هذا القصور ترى أنّ الخلفاء و من بعدهم تمسّكوا بمقاييس لاتمت إلى الكتال و السنّة ، فروى ميمون بن مهران أنّه : إذا ورد الخصم على أبي بكر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول اللّه ، جمع رؤوس الناس و خيراهم فاستشارهم ، و إذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (2).
    فقد لمس الخليفة أنّ الكتاب والسنّة النبوية غير وافيين بالحاجات الفقهية ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.
    فهذه تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولا في الكتاب والسنّة أو فيما تلقّوه من النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ولذلك كانوا يحاولون استنباط قواعد ومقاييس لاتستند على أىّ دليل ، فهل يصحّ هذا ؟ مع أنّه سبحانه يصرّح بأنه أكمل دينه ، وأتمّ نعمته فكيف يجتمع هذا الفراغ الفقهي في المسائل المستجدّة مع الإكمال ؟
1 ـ عمدة القارىء 4 / 129 ، ولاحظ مقدمة السيد الصدر على كتاب تاريخ الإمامية ، للدكتور عبداللّه فيّاض.
2 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 3 \ 212 (مادة جهد).

(30)
     3 ـ المسلمون وصيانة الدين من التحريف :
    إنّ أبرز ما كان يتمتّع به المسلمون في عصر الرسول هو صيانة الدين من الدسّ والتحريف وهو الخطر الذي تعرّضت له جميع المذاهب السالفة ، قال سبحانه : ( مِنَ الَّذِيَنَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَللِمَ عَن مَواضِعِه ) (1).
    إنّ الاُمّة الإسلامية قد وصلت عند رحلة الرسول بفضل جهود صاحب الدعوة إلى درجة مرموقة من الوعي حفظت كتابها عن محاولات الزيادة والنقصان ، نرى أنّ الصحابي الجليل أُبي بن كعب له موقف عظيم من عثمان في كيفيّة كتابة آية الكنز أعني قوله : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم ) (2) فإنّ عثمان اراد اثبات الآية في المصحف بلا واو فقال أُبي : « لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي » ، فألحقوها (3).
    ومع هذه المقدرة لم تستطع حفظ مفاهيمه وصيانة دينها عن الدس والتحريف فتفرّقت إلى مشبّهة ، تتخيّل أنّ لربّها أعضاءً كأعضاء الإنسان ، إلى جبري يرى الإنسان مسيّراً لامخيّراً ، ويصوّر بعث الأنبياء أمراً لاجدوى فيه ، إلى مرجئة لا ترى للعمل قيمة وتعطي للإيمان تمام القيمة ، إلى ناصبيّ ينصب العداء للعترة الطاهرة ، إلى إلى ... ، حتّى تفرّقت اُمّة النبي الأكرم كتفرّق الاُمم السالفة ، وهذا دليل واضح على أنّ الاُمّة الإسلامية ما بلغت يومذاك في الكفاءة والمقدرة العلمية إلى المستوى الذي يؤهّلها لحفظ الإسلام أصله ولبّه ، وقد مرّ في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة أنّ الوضّاعين والدجّالين من الأحبار والرهبان ، والمغترّين بهم
1 ـ النساء / 46.
2 ـ التوبة / 34.
3 ـ الدر المنثور 3 / 232.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس