بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 71 ـ 80
(71)
سواء أكان حقّاً أو باطلا أو غثّاً أو سميناً ... (1).
    ألف ـ إنّ المراد من الولي في الآية ليس هو المتصرّف ، بل المراد الناصر والمحب ، بشهادة ما قبلها وما بعدها ، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنّه تعالى قال :(إنما وليّكم اللّه ورسوله والذّينَ آمنوا) وأما بعد هذه الآية فلقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) وليس المراد لاتتّخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرّفين في أرواحكم وأموالكم ، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم. بل المراد لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ، ثمّ لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) ـ المائدة/57 ـ (2).
    حاصل التشكيك هو أنّ الولي في الآية المتقدّمة والمتأخّرة بمعنى المحب والناصر فلو فسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك.
    والجواب أنّ الولي في الآية المتقدّمة عليها والمتأخّرة عنها ، وفي نفسها بمعنى واحد ليس له في جميع المقامات إلاّ معنى واحد وهو الأولى ، غير أنّه يختلف متعلّق الولاية جوهراً أوّلا وسعة وضيقاً ثانياً ، حسب اختلاف موصوفها ومن قامت به الولاية. فلو كان الولي هو اللّه والرسول فيكون متعلّق الولاية هو النفس والنفيس ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكيف بأموالهم ، فهما أولى بالتصرّف في كل مايمت إلى المؤمنين.
    ولو كان الولي من الأب والجد ، يكون المتعلّق شؤون الصغير ومصالحه ،
1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 4 / 148.
2 ـ مفاتيح الغيب 12 / 28.


(72)
من حفظ نفسه وعرضه وماله. فيكون أولى بالتصرّف من الصغير في أمواله وشؤونه ، ومنها تزويجه بالغير.
    ولو كان الموصوف رئيس القبيلة ، حيث كان الرائج في عهد الجاهلية ، عقد ولاء الدفاع بين القبيلتين ، فيكون هو أولى بالدفاع عن المنتمي في النوائب والنوازل ، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة حسب الموصوف.
    وبذلك يظهر أنّ المراد من الأولياء في قوله ( لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) هو الأولى لما ستعرف من أنّها نزلت في حق ( عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبيّ ) واليهود ، وكان بينهما وبين اليهود عقد ولاء الدفاع فكان كل من الطرفين وليّاً للآخر ، أي أولى بالدفاع والذب عن المولى عليه من غيره. قال المفسّرون : نزلت في حق عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبي بعد غزوة بدر ، حيث لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : آمنوا قبل أن يُصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر ، فقال مالك بن ضيف ( اليهودي ) : أغرّكم أن اصبتم رهطاً من قريش لاعلم لهم بالقتال ، أما لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يدان لقتالنا ، فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّ لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم قويّة أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وانّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلاّ اللّه ورسوله. فقال عبداللّه بن اُبي : لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأنّي أخاف الدوائر فلابد لي منهم. فقال رسول اللّه : « يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه » قال : اذن اقبل ، وأنزل اللّه الآية (1).
    فقد اتّخذ الرجلان اليهود أولياء ليتفرّع عليه النصرة والذبّ كما أنّه سبحانه
1 ـ مجمع البيان 2 / 206 وغيره.

(73)
جعل الأب والجد أولياء ليتفرّع عليه حفظ شؤون المولى عليه ، وعلى ضوء ذلك فالولي في جميع المقامات بمعنى واحد ، والاختلاف انّما هو فيما يتفرّع على الولاية ، لا أنّه تارة بمعنى الأولى وثانياً بمعنى الناصر وثالثاً بمعنى المحب.
    ب ـ والّذي يرشدك على أنّ الولي في قوله سبحانه : ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتََّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) ليس بمعنى الحب والمحبّة كما احتمله الرازي ، انّه ورد نظير هذا النص في قوله سبحانه : ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) وليس الولي بمعنى المحبوب. وذلك لأنّ حب الآباء والاخوان أمر فطري ، فطرالناس عليه من غير فرق بين الكافر والمسلم ، ولو كان المراد من التولّي هو الحب يلزم النهي عن أمر جبلّيّ ولأجل ذلك لا محيص عن تفسيره باتخاذهم أولياء على غرار اتخاذ الرسول والإمام أولياء ، بأن تكون ولايتهم على أعناق المؤمنين ، كما أنّه ليس أيضاً بمعنى النصرة لجواز طلب النصرة من الكافر وهذا هو القرآن يجعل شيئاً من الزكاة للمؤلّفة قلوبهم.
    ج ـ إنّ قوله ( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) يحكي عن أنّ التولّي على وجه يلحق المتولّي باليهود والنصارى ، وهو لا ينطبق على مجرّد الحب وطلب النصرة والحبّ لا لأجل كونهم كافرين ، بل لأسباب اُخرى من حسن الجوار وغيره.
    د ـ إنّه سبحانه يندّد ببعض المؤمنين بقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه ... ) وهذا يعرب عن أنّ التولّي كان على وجه ينتهي إلى ارتداد المتولّي.
1 ـ التوبة / 23.

(74)
    أفبعد هذه القرائن يصح للرازي أن يفسّر التولّي في هذه الآيات بالحب والنصرة. على أنّ تفسير ولاية اللّه والرسول بالحبّ والنصرة تفسير بأمر واضح لا يحتاج إلى زيادة تأكيد.
    هذه هي الشبهة المهمّة في كلامه ، وأمّا باقي الشبهات ، فليس بشيء ذي بال.
    مثلا يقول : لو نزلت الآية في حق علي ، يجب أن يكون نافذ التصرّف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال (1).
    والجواب : انّ هذا المقام كان ثابتاً لعلي كثبوته للّه سبحانه والرسول ، غير أنّه لا يقوم بتطبيقه على صعيد الحياة إلاّ عند الحاجة ، وهو عند ارتحال الرسول ومفارقته الاُمّة ، وهذا هو المفهوم من تعيين ولي العهد عند الاُمم.
    وأنت إذا قارنت الآية وما ورد حولها من شأن النزول ، وما نزل في حق علي من الآيات التي تعرّف طهارته من الذنب (2) ، وكون حبّه ومودّتهم أجراً للرسالة (3) ، وانّه نفس النبي الأكرم (4) ، وانّ بيته من أفضل البيوت التي قال في حقّها سبحانه : ( فِي بُيُوتٍ أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ ) ـ النور / 36 ـ (5) لوقفت على أنّ الذكر الحكيم يواكب السنّة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في مجال القيادة
1 ـ مفاتيح الغيب 12 / 28.
2 ـ اشاره إلى نزول قوله سبحانه : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) في حق علي وأهل بيته ـ الأحزاب / 33 ـ.
3 ـ اشاره إلى قوله سبحانه : ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى ) ـ الشورى / 23 ـ.
4 ـ إشاره إلى قوله سبحانه في أمر المباهلة مع نصارى نجران : ( فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) ـ آل عمران / 61 ـ.
5 ـ إشاره الى ما رواه السيوطي في الدر المنثور من قول أبي بكر للنبىّ بعد نزول الآية : قال يا رسول اللّه أهذا البيت منها ـ أي بيت علي وفاطمة ـ ؟ قال : هم من أفاضلها 5 / 50.


(75)
والخلافة وأنّه سبحانه ألقى مقاليد الزعامة إلى الإمام أميرالمؤمنين ، وبذلك أخرج الاُمّة من التنازع والاحتكاك بعد الرسول الأعظم.
    ونحن نكتفي من البرهنة على خلافة الإمام بهذه الآية ، وهناك آيات استدلّ بها الأصحاب على ولاية الإمام ، ونفي ولاية الغير ، أوضحنا مداليلها في مؤلفاتنا الكلامية ، فمن أراد فليرجع (1).
1 ـ الإلهيات 2 / 618 ـ 632.
(76)

(77)
الفصل الرابع
ما هو السرّ
في مخالفة الجمهور نص الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )


(78)

(79)
    لقد ظهرت الحقيقة بأجلى صورها وثبت أنّ الرسول لم يرحل عن أُمّته إلاّ بعد أن نصّب علياً للخلافة والقيادة ، ولكن هناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه لو كان الحق كما نطقت به النصوص كتاباً وسنّة ، فلماذا أعرض الجمهور عن ما اُمروا أن يتمسّكوا به ؟ وهذه هي الشبهة المهمّة في الباب وهذا هو السؤال الذي ترك العقول متحيرة تبحث عن جواب مقنع ، وقد اعتمد على ذلك بعض المنصفين من أهل السنّة في ردّه لمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقال : اُنظر إلى جمهور أهل القبلة والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فإذا هم مع أهل البيت على خلاف ما توجبه ظواهر تلك الأدلّة ، فانا اُؤامر منّي نفسين ، نفساً تنزع إلى متابعة الأدلّة واُخرى تفزع إلى الأكثرية من أهل القبلة (1).
    والاجابة عن الشبهة سهلة لمن راجع التاريخ وسيرة الصحابة في عصر الرسول وبعده. فإنّ القرآن الكريم رغم أمره باتباع الرسول وعدم التقدّم عليه (2) ، ورغم أمره
1 ـ من كلام شيخ الأزهر الشيخ سيلم البشري في رسالته إلى السيد شرف الدين ، لاحظ المراجعات ص 25 ، رقم المراجعة 11.
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ـ الحجرات / 1 ـ.


(80)
بالتسليم له وأنّ الايمان رهنه (1) ، ورغم أنّه يندّد ببعض المسلمين الذين كانوا يتمنّون طاعة الرسول لهم في بعض المواقف وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِِ لَعَنِتُّمْ ) (2). رغم كل ذلك نشاهد رجالاًٍ يقفون أمام النبي في غير واحد من المواقف ويخالفونه بعنف وقوّة ويقدّمون الاجتهاد والمصالح الشخصية على أوامر الرسول في مواطن كثيرة ، وإليك نزراً يسيراً منها وبالالمام بها تسهل عليك الاجابة عن السرّ في مخالفة عدّة من الأصحاب لأمر النبي في مسألة الوصاية والقيادة :

    1 ـ اختلافهم مع النبي في الأنفال والاُسرى :
    انتصر المسلمون في غزوة بدر وجمع غير واحد من المسلمين ما في معسكر العدو فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين يقاتلون العدوّ ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين يحرسون رسول اللّه : ما أنتم بأحقّ به منّا واللّه لقد رأينا أن نقتل العدوّ إن منحنا اللّه أكتافهم ، و قد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه فخفنا على رسول اللّه كرّة العدوّ فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منّا. فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِِن كُنتُم مُؤمِنينَ ) ـ الأنفال / 1 ـ (3).
    وأمّا اختلافهم في الأسرى فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أنْ
1 ـ ( فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوْا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ـ النساء / 65 ـ.
2 ـ الحجرات / 7.
3 ـ السيرة النبوية لابن هشام 1 / 641 ـ 662.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس