بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 81 ـ 90
(81)
يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللّهُ عِزِيزٌ حَكِيمٌ * لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ) (1). نحن نضرب الصفح عمّا ذكره المفسّرون حول الآية من القصص غير أنّ قوله سبحانه ( لولا كتاب ... ) يعرب عن أنّهم اختلفوا إلى حدّ كانوا مستحقّين لنزول العذاب لولا سبق كتاب من اللّه ، ومن الجرأة ما يظهر عن بعض المفسّرين (2) من أنّ العتاب يعم النبي أيضاً مع أنّ نبيّ العظمة أجلّ من أن يشاركهم في العتاب فضلاًً عن العقاب وحاشا ساحة الحق أن يهدّد نبيّه بعذاب عظيم وقد عصمه من المعاصي ، والعذاب العظيم لا ينزل إلاّ على عمل اجرامي كبير ، ونحن لا نفسّر الآية ولا نريد أن نخوض في خصوصيّات القصة ويكفينا أنّها تكشف عن تباعد المؤمنين عن النبىّ في مسألة الأسرى إلى حدّ استحقّوا هذا التنديد.

    2 ـ مخالفتهم الأمر الرسول في اُحد :
    ورد رسول اللّه اُحد حين بلغه أنّ أباسفيان يريد شنّ هجوم على المدينة ، واستقبل الرسول المدينة وجعل جبل عينين عن يساره ، ونصب خمسين رجلاً نبّالاً على جبل عينين وأمَّر عليهم عبداللّه بن جبير وقال له : « انضح الخيل عنّا بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك لا تؤتين من قبلك ».
    ولمّا صار الانتصار حليف المسلمين وأخذ العدو بالانسحاب عن ساحة القتال مولّياً نحو مكّة ، خالف الرماة أمر الرسول وأخلوا مكانهم طمعاً في الغنائم ، فكلّما نصحهم أميرهم بالبقاء وعدم ترك العينين خالفوه.
1 ـ الأنفال / 67 ـ 68.
2 ـ لاحظ الأقوال في الميزان 9 / 137.


(82)
    ولمّا رأى العدو المنهزم أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة ، وكان جبل العينين يقع على ضفتين يتخلّلهما معبر ، فاستغل العدو الفرصة فأدار خالد بن الوليد من معه من وراء المسلمين ، فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة منهم ، فوضع السيوف فيهم فقتل منهم لفيفاً إلى أن تحوّل النصر إلى هزيمة ، وكان ذلك نتيجة مخالفة المسلمين لوصيّة الرسول ، وتقديماً للاجتهاد على النص ، والرأي الخاطئ على الدليل ، وكم له من نظير في حياة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبعد وفاته.

    3 ـ مخالفتهم في صلح الحديبية :
    دخلت السنة الثالثة للهجرة واشتاق النبي إلى زيارة بيت اللّه فأعدّ العدّة للعمرة ومعه جمع من أصحابه وليس معهم من السلاح إلاّ سلاح المسافر فلمّا وصلوا إلى أرض الحديبية ، منعوا من مواصلة السير ، فبعد تبادل الرسل بينه وبين رؤساء قريش اصطلحوا على وثيقة ذكرها أصحاب السيرة في كتبهم. فكانت نتيجة تلك الوثيقة رجوع النبي إلى المدينة ومجيئه في العام القابل للزيارة ، وقد ذكر فيها شروط للصلح أثارت حفيظة بعض المسلمين ، حتّى أنّ عمر بن الخطاب وثب فأتى أبابكر فقال : « أليس برسول اللّه ؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ، قال : فعلان نعطى الدنيّة في ديننا » (1).
    فقد زعم الرجل أنّ البنود الواردة في صلح النبي تعني اعطاء الدنية في الدين ، حتّى أنّ النبي أخبرهم حين الشخوص من المدينة أنّ اللّه سبحانه أراه في المنام أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فلمّا انصرفوا ولم يدخلوا مكّة ، قالوا : ما حلقنا ولا
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 316 ـ 317.

(83)
قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه سبحانه قوله : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الَحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنينن ) (1).
    ولو أراد المتتبّع أن يتعمّق في السيرو التفاسير يجد أنّ مخالفة القوم للرسول لم تكن مختصّة بموضوع دون موضوع ، فكان تقديم الاجتهاد على النص شيئاً رائجاً عندهم ولنكتف في المقام بالمخالفتين الأخيرتين أيّام مرض وفاته.

    4 ـ مخالفتهم في تجهيز جيش اُسامة :
    اتّفق المؤرّخون على أنّ النبي الأكرم أمر بتجهيز جيش اُسامة فقال : « جهّزوا جيش اُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه » فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره » واُسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : « قد اشتدّ مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه ، فنصبر حتّى ننظر أي شيء يكون من أمره » (2).
    هذا ما يذكره الشهرستاني ملخّصاً ، وذكره المؤرّخون على وجه التفصيل ، فقال الطبري في أحداث سنة احدى عشرة : « وضرب على الناس بعثاً وأمّر عليهم اُسامة بن زيد ، وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشام الأرض بالأردن ، فقال المنافقون في ذلك ، وردّ عليهم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إنّه لخليق لها أي حقيق بالامارة وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل ، وإن كان لخليقاً لها » فطار الأخبار بتحلل السير بالنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (3).
    ويقول أيضاً : « لقد ضرب بعث اُسامة ، فلم يستتبّ لوجع رسول اللّه وقد أكثر
1 ـ الفتح / 27.
2 ـ الملل والنحل للشهرستاني 1 / 29 ـ 30 ( تحقيق محمّد بن فتح اللّه بدران ).
3 ـ تاريخ الطبري 2 / 429.


(84)
المنافقون في تأمير اُسامة ، فخرج النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك وقال : « وقد بلغني أنّ أقواماً يقولون في أمارة أُسامة ، ولعمري لئن قالوا في أمارته لقد قالوا في أمارة أبيه من قبله ، وإن كان أبوه لخليقاً للامارة وانّه لخليق لها بعد اُسامة » وقال : « لعن اللّه الذين يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد » (1) فضرب بالجرف وأنشأ الناس في العسكر ، ونجم طليحة وتمهّل الناس وثقل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فلم يستتم الأمر ينظرون أوّلهم آخرهم حتّى توفّى اللّه نبيّه » (2).
    وقد ذكر القصة ابن سعد في طبقاته (3) ، والحلبي في سيرته (4) ، ومن أراد التوسّع فليرجع إليهما.

    5 ـ مخالفتهم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في احضار القلم والدواة :
    عن ابن عباس قال : « لمّا اشتدّ بالنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وجعه ، قال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده » قال عمر : إنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع » فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبين كتابه (5).
1 ـ لا يخفى أنّه لاصلة لهذه الجملة لما قبل القصة وما بعده ولعلّه تحريف لما نقلناه عن الشهرستاني من أنه لعن المتخلّفين فبدّله الراوي بهذا.
2 ـ تاريخ الطبري 2 / 430.
3 ـ الطبقات 2 / 189 ـ 190.
4 ـ السيرة 3 / 227 ـ 228.
5 ـ صحيح البخاري 1 باب كتابة العلم 30 ، الطبقات الكبرى 2 / 242 وجاء فيه : فقال بعض من كان عنده انّ نبي اللّه ليهجر.


(85)
    إنّ الراوي نقل الرواية بالمعنى كي يخفف من شدة الصدمة التي تحصل فيما لو نقل الرواية بألفاظها والشاهد على ما نقول أنّ البخاري نفسه روى الرواية بشكل آخر أيضاً ، فروى عن ابن عباس إنّه كان يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت : ياابن عباس ما يوم الخميس ؟ قال : اشتدّ برسول اللّه وجعه فقال : « ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً » فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما له ؟ أهجر ، استفهموه ، فقال : « ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه » فأمرهم بثلاث قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » والثالثة خير إمّا أن سكت عنها وإمّا أن قالها فنسيتها » (1).
    ولعلّ الثالثة التي نسيها الراوي هو الذي كان أراد النبي أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ولكن ذكره شفاهاً عوض كتابته ، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه.
    ولعلّ النبي أراد أن يكتب في مرضه تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين وتشهد بذلك وحدة لفظهما ، حيث جاء في الثاني : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي ».
    وقد فهم الخليفة ما يريده رسول الإسلام وحدّث به بعد مدة من الزمن لابن عباس فقال له يوماً : يا عبداللّه إنّ عليك دماء البدن إن كتمتها ، هل بقي في نفس علي شيء من الخلافة ؟ قال ابن عباس : قلت : نعم ، قال : أو يزعم أنّ رسول اللّه نصّ عليه ؟ قلت : نعم ، فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه في أمره ذروة من قول لا تثبت حجّة ، ولا تقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه
1 ـ صحيح البخاري 4 باب اخراج اليهود من جزيرة العرب 99.

(86)
فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام ، فعلم رسول اللّه انّي علمت ما في نفسه فأمسك (1).
    والعجب أنّ أحمد أمين مع ما يكن على الشيعة من عداء وقسوه يعترف بما ذكرنا بصراحة.
    أراد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في مرضه الذي مات فيه أن يعيّن من يلي الأمر بعده ففي الصححين : البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه لمّا اصفرّ قال : هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع (2) وعندكم القرآن. حسبنا كتاب اللّه فاختلف القوم واختصموا فمنهم من قال : قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من قال القول ما قاله عمر فلمّا أكثروا اللغو (3) والاختلاف عنده ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : قوموا فقاموا. وترك الأمر خصوصاً لمن جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتّى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين (4).
    هذه نماذج من مخالفة القوم لصريح النصوص الصادرة عن النبي الأكرم ، وكل ذلك يعرب عن فقدانهم روح التسليم للنبي ولأحكامه ، فلم يكونوا ملتزمين بما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم من النصوص ، نعم ، ربّما يوجد بينهم من كان أطوع
1 ـ شرح نهج البلاغة 3 / 17 ، وكأنَّ الرجل كان أشفق على الإسلام من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
2 ـ وفي موضع آخر في صحيح البخاري : أنّه قال « إنّ الرجل ليهجر ».
3 ـ والصحيح : اللغط.
4 ـ أحمد أمين يوم الإسلام : 41.


(87)
للنبي من الظل لذي الظل ، ولكن المتنفّذين لم يكونوا متعبّدين بالنصوص فضلاًً عن تعبّدهم بالاشارات والرموز ، وربّما كانوا يقابلون النبي بكلمات عنيفة يقابل بها من هو أقل منه شأناً.
    وياليت انّهم اكتفوا في مجال المخالفة للنصوص أثناء حياته ، ولكنّهم خالفوها بعد وفاته أكثر ممّا خالفوها أيّام حياته ، يقف على ذلك من سبر التاريخ وسيرة الخلفاء في غير واحد من المجالات.
    ولقد حاول الشهرستاني في ملله ونحله (1) ، والسيد الشريف في شرح المواقف (2) تحديد بدء الخلاف بين المسلمين بأيّام مرض النبي عندما كان طريح فراشه. ولكن ذلك التحديد من حسن ظنّهما بالصحابة وأنّهم كلّهم عدول ، غير أنّك عرفت أنّ تاريخ الخلاف يرجع إلى بدايات الهجرة ، وقد اكتفينا بموارد خمسة وضربنا الصفح عن ذكر موارد اُخرى.
    هذا كلّه يرجع إلى مخالفتهم الرسول فيما يأمر وينهى أيّام حياته ، وأمّا مخالفتهم لنصوص الرسول بعد رحلته فحدّث عنها ولا حرج.

    1 ـ التصرّف في أذان الفجر :
    أخرج الإمام مالك في موطئه : انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح ، فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.
    وقال الزرقاني في تعليقته على هذه الكلمة من شرحه للموطأ ما هذا لفظه : هذا
1 ـ الملل و النحل 1 / 29 ، ولاحظ التبصير في الدين للاسفرائيني 19.
2 ـ شرح المواقف 8 / 372.


(88)
البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنّفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنّه قال لمؤذّنه : إذا بلغت حيّ على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم (1).

    2 ـ الحيلولة بين فاطمة وميراثها :
    استفاضت الآيات باطلاقاتها تارة ونصوصها تارة اُخرى على أنّ أولاد الأنبياء يرثون آباءهم كسائر الناس أمّا الاطلاقات فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (2) وأمّا النصوص فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ ) (3) وقال سبحانه ناقلا عن زكريا : ( فَهَبْ لِى مِن لَدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (4).
    إنّ طلب زكريا من اللّه سبحانه أن يهبه ولداً وأن يجعله رضيّاً لأوضح دليل على أنّ المراد من الوراثة ، الوراثة في المال لا النبوّة ، لبداهة أنّ الانسان لا يكون نبيّاً إلاّ أن يكون رضيّاً ، على أنّ لفظ الوراثة وما يشتق منه ظاهر في الوراثة في المال ولا يستعمل في غيره إلاّ توسّعاً ومجازاً ومع ذلك فقد خالفت القيادة بعد رسول اللّه هذا النص وحرّمت فاطمة من ميراث أبيها بحجّة أنّه سمع من النبي قوله : نحن الأنبياء لا نورث ، مع أنّه لو صحّ هذا الحديث لكان على النبي أن يذكره لورّاثه حتّى لا يقعوا في الخطأ ولا يطلبوا شيئاً ليس لهم ، فهل أنّ النبي أهمل هذا البيان اللازم وذكره لغير
1 ـ الموطأ باب ما جاء من النداء في الصلاة الحديث 8 ، والموطأ مع شرح الزرقاني 1 / 150 طبع مصر.
2 ـ النساء / 11.
3 ـ النمل / 16.
4 ـ مريم / 5 ـ 6.


(89)
وارثه ؟
    روى البخاري عن عائشة : انّ فاطمة ـ عليها السلام ـ بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبوبكر : « إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : « لا نورث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال » ، وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه » فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر ، فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلا ، فلم يؤذِن بها أبابكر ، وصلّى عليها (1).
    وقال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر ـ رضى اللّه عنهما ـ : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقاجميعاً فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّاً فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها فلم ترد السلام ، فتكلّم أبوبكر وقال : يا حبيبة رسول اللّه ، واللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ اليّ من قرابتي ، وانّك لأحبّ اليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا ابقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنَعْك حقّك وميراثك من رسول ، إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللّه يقول : « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » (2).
    يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الرسول الأعظم وكذا كل من يتولّى الحكومة الإسلامية تكون له ملكيتين : ملكية شخصية تتعلّق بنفسه ويتصرّف فيها بما أنّها ماله الشخصي ، وملكية تتعلّق بمقام الرسالة ويتصرّف فيها بما أنّه رسول وممثّل
1 ـ صحيح البخاري 5 باب غزوة خيبر 139.
2 ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 13.


(90)
الدولة الإلهية ، والقسم الثاني من الملكيتين لا تورث بل تنتقل إلى من يمارس المسؤولية بعده. ونحن نربأ بفاطمة أن تطالب أبابكر بالأموال التي تعد من شؤون الدولة الإسلامية وانّما جاءت لتطلب ما كان ملكاً خاصّاً لأبيها ، بما أنّه أحد الناس والمسلمين ، يملك ما شاء باحدى الطرق الشرعية ويرثه أولاده بعده.
    ثانياً : أنّ ما يرويه البخاري عن الخليفة أنّه قال : « وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها » واقع في غير محلّه لأن حبيبة رسول اللّه لم تطلب منه صدقات أبيها حتّى تجاب بأنّ الصدقة لا تتغيّر ولا تتبدّل و إنّما سألته أن يدفع لها ما ملكه رسول اللّه ونحله لبنته أعني فدك أيّام حياته عندما نزل قوله سبحانه : ( وَآتِ ذَالقُرْبى حَقَّهُ وَ المِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (1).
    نحن نفترض أنّ الرسول قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، ولكن من المحتمل جدّاً ، أنّ الفعل « لا نورث » فعل معلوم لا مجهول ومعناه نحن معاشر الأنبياء لا نورث الأشياء التي تركناها صدقة ، فيكون لفظة ما مفعولاً للفعل المبني على الفاعل وعند ذلك لاصلة للحديث بكل ما يتركه النبي حتّى أمواله الشخصية والمقصود النهائي هو أنّ الصدقة لا تورث كالزكاة وأمثالها.

    3 ـ النهي عن متعة الحج :
    قال سبحانه : ( فَمَنْ تَمَتَّع بِالعُمْرَةِ اِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ (2) فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِى الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ
1 ـ الاسراء / 26.
2 ـ أي فعليه ما يتيسّر له من الهدي ، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج ، وهي يوم السابع من ذي الحجّة وتنتهي بيوم عرفة ، والتمتّع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكّة ومن يجري مجراهم في القرب إليها.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس