بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 211 ـ 220
(211)
معاوية ، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة ، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره ، كما هم تابوا من كفرهم ، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين ، ولم يكتفوا بذلك ، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء ، ويسفكون الدماء ، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين ، فلم يجد الامام بدّاً من قتالهم ، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، وفي الوقت نفسه هم المارقون ، والمعاندون لله ورسوله ، وفي حقّهم يقول الامام :
    « إنّي فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها (1) ، واشتدّ كلبها (2) » (3).
    هذه حياة الامام على وجه الاجمال ، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبيّ منذ صباه في موطنه ومهجره ، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلا غزوة تبوك ، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه.
    و مع الأزمات التي خلّفت عثمان وعمّاله ، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس « استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة التي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه ، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب ، التجسيد الكامل للشريعة الاسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه ، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف ، وثبّت للاسلام دعائمه ، وأعاد إلى النفوس
1 ـ الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها.
2 ـ الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 93.

(212)
المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الاسلامية الخالدة » (1).
    قام الامام بالخلافة ، وتقلّدها بعد مقتل عثمان ، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس ، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً ، وأوّل ما قام به ، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين ، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة ، وملكوا العقارات والمواشي ، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث وقاسط ، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب ، والانتقام ، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شافتهم في الحروب والغزوات ، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول ، بل حتى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالاً ولكنّه ـ يا للأسف ـ أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات.

    إغارة معاوية على البلاد الآمنة :
    هذا ابن أبي سفيان ، لمّا رأى انّ الأمصار الاسلامية عامدا الشام في طاعة الامام ، جمع حوله الأشقياء والبغاة ، يغيرون على البلاد الآمنة ، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد.
    1 ـ فأرسل سفيان عوف الغامدي ، وقال : إنّي موجّهك في جيش كثيف ، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات ، حتى تمر بهيت (2) فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها ، وامض ، حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً ، فامض حتى توغل المدائن ، فكأنّك غرت على الكوفة ، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق
1 ـ الزيدية نظرية وتطبيق 19.
2 ـ هيت : بلد على الفرات فوق الأنبار.

(213)
ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له فينا هوى منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال ـ أي سلبها ـ شبيهة بالقتل ، وهو أوجع للقلب » (1).
    و لمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل ، خطب خطبته المعروفة وقال :
    « فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة ـ إلى أن قال : ـ وهذا أخو غامد ، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها ، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثمّ انسرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا اُريق لهم دم ، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا » (2).
    2 ـ هذا بسر بن أرطاة ، بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ( عليه السلام ) فقتل خلقاً كثيراً ، وقتل فيمن قتل ابني عبيى اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، وكانا غلامين صغيرين ، فقالت اُمّهما ترثيهما :
يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف (3)
وقد خطب الامام بعدما بلغه النبأ بقوله : « اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن ، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم
1 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 85.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 27.
3 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 340 ، تشظّا : تفرّق شظايا ، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 2 / 13.

(214)
عن حقّكم ، وبمعصيتكم أمامكم بالحق ، وطاعتهم إمامهم بالباطل ، وبأَدائهم الأمانة إلى صاجهم ، وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم ، وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب ، لخشيت أن يذهب بعلاقته » (1).
    3 ـ دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري ، وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي ، فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا ، فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى ، ولا تقيمن لخلي بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها » ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.
    فأقبل الضحاك ، فنهب الأموال ، وقتل من لقي من الأعراب ، حتى مرّ بالثعلبية (2) ، فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود ، صاحب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة (3). وقتل معه ناساً من أصحابه (4).
    4 ـ ولم يكتف معاوية بهذه الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة ، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية ، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد : كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة ، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف ، قال له : سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا ، فمن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم انّه لا براءة لهم عندك
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 25.
2 ـ الثعلبية : من منازل طريق مكّة إلى الكوفة.
3 ـ بالضم ثم السكون : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف.
4 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 116 ـ 117.

(215)
و لا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة ، فشتم أهلها وتهدّدهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيراً ، منها دار زرارة بن حرون ، ودار عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ، ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (1).
    و قال المسعودي : قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها ، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان ، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا (2).
    و كانت هذه العصابات الاجرامية ، تأتي إلى العراق فتقتل وتحرق وتدمّر ، إلى آخر حياة الامام ، الذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها. يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الذي نطرحه في الفصل التالي :
1 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 10 ، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.
2 ـ مروج الذهب 3 / 31 طبعة 1948.

(216)

(217)
الفصل التاسع
الشيعة في العصرين الأموي والعباسي


(218)

(219)
    لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، وهو يصلّي في محراب عبادته ، فلمّا بلغ عائشة قتل علي ، فرحت وقالت :
    فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالاباب المسافر
    ثم قالت : من قتله ؟ فقيل : رجلٌ من مراد ، فقالت :
    فان يك نائيا فلقد نعاه نعي ليس في فيه التراب
    فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعلي ؟ فقالت : إنّي أنسى ، فإذا نسيت فذكّروني ... !! (1).
    ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال : إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد :
    قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل (2)
    فلمّا مات الامام ، خطب الحسن في مسجد الكوفة ، وقال : « ألا انّه قد مضى ، في هذه الليلة ، رجل لم يدركه الأوّلون ، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل
1 ـ الكامل لابن الاثير 3 / 394 طبع دار صادر.
2 ـ ناسخ التواريخ ، القسم المختص بحياة الامام 692.


(220)
    وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » (1).
    ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري ، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل ( عليه السلام ). وبايع هؤلاء ولده الحسن ، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه ، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية (2).
    وهل وفى هؤلاء للحسن ( عليه السلام ) وكانوا صادقين في بيعتهم ؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح ، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب ، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين ، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً ، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً ، إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية ، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه ، قام وخطب : إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 213.
2 ـ الكامل 3 / 404 طبع دار صادر.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس