بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 201 ـ 210
(201)
فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه : « اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره ، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ، وحقّه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المتطلّع لأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا » (1).
    فأي بيان أروع من هذا البيان ، وأيّ بلاغ أصرح منه ، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية : « 1 ـ ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، 2 ـ الفقيه في دين اللّه ، 3 ـ العالم بسنن رسول اللّه ، 4 ـ المتطلّع لأمر الرعيّة ، 5 ـ الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، 6 ـ القاسم بينهم بالسويّة » : ومعني ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات.
    2 ـ لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السقيفة قال ( ع ) : « ما قالت الأنصار ؟ » قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير ، فقال : « فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم ؟ » قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم ؟! فقال ( عليه السلام ) : « لو كانت الامامة فيهم ، لم تكن الوصيّة بهم ـ ثم قال : ـ فماذا قالت قريش ؟ » قالوا : « احتجّت بأنّها شجرة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فقال ( عليه السلام ) : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة » (2).
1 ـ الامة والسياسة 1 / 11 ـ 12.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 67.

(202)
    و روى الرضي في المقام شعراً للإمام :
فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهم و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فكيف بهذا والمشيرون غيّب فغيرك أولى بالنبي وأقرب (1)
3 ـ الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر ، بل استمر على بيان الحق بأساليب مختلفة منها أحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة 23 ، قال عمر بن واثلة : كنت على الباب يوم الشورى مع علي ( عليه السلام ) في البيت ، فسمعته يقول : « لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك ـ ثمّ قال : ـ أنشدكم اللّه ، أفيكم من وحّد اللّه قبلي ؟ » قالوا : لا ... ـ إلى أن قال : ـ « فأنشدكم باللّه ، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري ؟ » قالوا : اللّهمّ لا (2).
    4 ـ كما ناشد يوم الرحبة سنة 35 ، روى الأصبغ قال : نشد علي الناس في الرحبة : « من سمع النبيّ يوم غدير خم ما قال ، إلا قام ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّه » يقول : فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم أبو أيّوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد اللّه بن ثابت الأنصاري ... فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول : « ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأعن من أعانه » (3).
    و لم تكن المناشدة ، منحصرة بهذين الموردين ، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجة الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير ، وبعده
1 ـ نهج البلاغة ( قسم الحكم ) برقم 190.
2 ـ الصواعق لابن حجر 75 ، المناقب للخوارزمي 135 برقم 152 طبع النشر الاسلامي.
3 ـ اُسد الغابة 3 / 307 و5 / 205.

(203)
الحسنان السبطان ، وعبد اللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر ، حتى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية (1).
    وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه ، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته ، ويتّضح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية التي ألقاها في آخر خلافته.
    وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة ، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة ، ولم يكن يومذاك أيّ منعة وقدرة للإمام ، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة : « فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه » (2).
    ولو افترضنا وجود القدرة ، لكن مصالح الاسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم ، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح ، أمّا الأوّل فيقول : « أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.
    فإن أقل ، يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت ، يقولوا : جزع من الموت ، هيهات بعد اللّتيَّا والتي. واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدث اُمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويِّ
1 ـ راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير 1 / 159 ـ 213.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3.

(204)
البعيدة » (1).
    وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون ، وهو إشارة إلى الوصيّة التي خصّ بها ( عليه السلام ) وانّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (2).
    وقد أوضح ما ذكره مجملاً في هذه الخطبة التي ألقاها بعد وفاة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بخطبته التي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح ـ بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبيّ ، فقال ( عليه السلام ) : « إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمّا مضى ( عليه السلام ) ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده ! فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 5.
2 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 215.

(205)
وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (1).
    ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبد اللّه بن جنادة ، قال : قدمت من الحجاز اُريد الطريق في أوّل إمارة علي ( عليه السلام ) فمررت بمكّة فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه ، إذ نودي : الصلاة جامعة ؛ فاجتمع الناس وخرج علي ( عليه السلام ) متقلّداً سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فحمد اللّه و صلّى على رسوله ، ثم قال : أمّا بعد ، فلمّا قبض اللّه نبيّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قلنا : نحن أهله وورثته ، وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا ، فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الإمرة لغيرنا ـ إلى أن قال : ـ وأيم اللّه ، لو لا مخافة الفرقة بين السلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا » (2).
    كان الامام ( عليه السلام ) يرى انّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الاسلام إلى الأخطار المهلكة.
    روى الزبير بن بكار ، قال : روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة ، قال : وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال :
ما كنت أحسِب أنّ الأمر منصرف أليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أقرب الناس عهداً بالنبيّ وَ من عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن و أعلم الناس بالقرآن والسنن ؟ جبريل عون له في الغسل والكفن

1 ـ نهج البلاغة ، قصم الكتب 62.
2 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 307 ، والكلمتان متقاربتان.

(206)
ما فيه ما فيهم لا يمترون به ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمه ؟ و ليس في القوم ما فيه من الحسن ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن !
    قال الزبير : فبعث إليه علي فنهاه ، أمراً لا يعود وقال : لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره.
    فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوثام والسلام بين المسلمين وانّه لو لا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير ، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه.
    « ولو لا مراعاة عليّ للأوضاع والظروف التي أحاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه ، لحدثت تطوّرات في تاريخ الاسلام لا نستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة ، ولكنّه أدركت ذلك ، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام » (1).
    كان الامام ينطر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الاسلام ، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الاسلام وإحياء الجاهلية ، فلم ير بدّاً من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء ، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى غير ذلك من الاُمور التي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته ، إلى عام 35 الذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الاسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به ، وكان
1 ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28.
(207)
الخليفة الثاني متنبّئاً به ، فقال له : لئن وليتها ( الخلافة ) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم ، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع ، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره.

    تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن :
    كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته ، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الاسلام والمسلمين ، إلى أن قُتِل عثمان وانثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين : لا يصلح للخلافة إلا علي. فقال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ».
    روى الطبري نقلاً عن محمّد بن الحنفية : كنت مع أبي ، حين قتل عثمان فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول اللّه ، فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقال : « لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا » فقالوا : « واللّه ما نحن فاعلين حتى نبايعك » فقال : « ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين » ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد اللّه بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد. فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار ، فبايعوه ، ثم بايعه الناس (1).
    وفي رواية اُخرى : غشى الناس عليّاً ، فقالوا : نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى ، فقال علي : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول » فقالوا : ننشدك اللّه ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى الاسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف اللّه ،
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 450.
(208)
فقال : « قد أجبتكم لما أرى ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فانّما أنا كأحدكم ، إلا أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم » (1).
    هذا ما يذكره الطبري ، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول : « فتداكّوا عليّ ، تداكّ الإبل اليهم يوم وِرْدِها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ » (2).
    وفي خطبة اُخرى : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » (3).
    ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا ، مثلما شهدته في ذلك الزمان ، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار ، والتابعون لهم ئإحسان على المبايعة ، ولم يتخلّف إلا قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول : بايعت الأنصار علياً إلا نفراً يسيراً ، منهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبد اللّه بن حسن : كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية ، فقال : أمّا حسّان ، فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 456.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 53 ، تداكوا : ازدحموا ، والهيم : العطاش ، يوم رودها : يوم شربها ، والمثاني : الحبال.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3 ، عُرْف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، يضرب به المثل الكثرة ، ينثالون : يتتابعون ، شقّ عطفاي : خدش جانباه من الاصطكاك.

(209)
ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار اللّه ـ مرتين ـ فقال أبو أيّوب : ما تنصروه إلا إنّه كثر لك من العضدان (1) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة « مُزِينة » وترك ما أخذ منهم له (2).
    قام الامام بواجبه ، وهمَّ بالاصلاح ، وحوله حُسّاد حاقدون ، وأعداء يترقّبون الفرص ، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم ، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد ، وهو يصف ذلك بقوله : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ) (3) بلى ! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حَلِيتْ الدنيا في أعينهم ، وراقهم زِبْرجها. أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة (4) ظالم ، ولا سغب (5) مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز » (6).
    فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث ، فالناكثون هم أصحاب الجمل ، الذين لم يجدوا عند الاما إلا الحقّ ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة وأمانتهم في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع
1 ـ العضاد : كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 452.
3 ـ القصص / 83.
4 ـ الكظّة : البِطْنَة ( ما يعتري الآكل عند امتلاءه بالطعام ) والمراد : استئثار الظالم بالحقوق.
5 ـ السغب : شدة الجوع.
6 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3.

(210)
أنّهم هم المحرّضون على قتله ، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك ، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة ، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار ، حتى نزلوا البصرة ، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلا الحرب فدارت الدوائر على الناكثين ، فقتل رؤوس الفتنة ، واُرسلت اُمّ المؤمنين إلى المدينة بتكريم واحترام.
    ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد ، فقام ابن آكلة الأكباد ، الطليق ابن الطليق الذي خَذَلَ هثمان ، ولم ينصره ، ثم انتحل دمه وطلب ثأره ، فجمع حوله الهمج والرعاع ، وتحالف مع عمرو بن العاص الذي عزله عثمان عن ولاية مصر ، فألّب عليه كل راع رآه في البادية ، وساومه معاوية على ولاية مصر ، فقابلهم الامام في أرض صفين ، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لو لا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح ، وانطلت الحيلة على عسكر الامام ، وقالوا : له أجب القوم ، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع ، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة ، فطلب منهم المهلة فما أجابوه ، بل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب ، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال ، حتى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس ، فما وافقوه ، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب ، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة ، وكانت نهاية الأمر ، عزل مندوب الامام ( أبو موسى الأشعري ) خليفة المسلمين ، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة ، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى ، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان.
    ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي ، ندموا على ذلك ، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين ، فخرجوا عن طاعة علي ، وعن جيشه ، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتى بعد ما دعاهم الامام لاعادة الحرب على
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس