بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 231 ـ 240
(231)
    والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر :
واللّه ما فعلت اُميّة فيهم معشار ما فعلت بنو العباس
    1 ـ وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة ( 132 ) ومات سنة ( 136 ) ، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين ، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه « أبو العباس السفاح » : « إنّ أصل الدعوة كان لآل علي ، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي : ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي وينفون عنهم حقّ الخلافة ، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة » (1).
    2 ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة ، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال : إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه ، أطرق المنصور كالمنكسر ، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً ، قال لواعظه :
1 ـ أبو العباس السفاح 48 ، كما في الشيعة والحاكمون 139.

(232)
عظني!! (1).
    فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.
    وأمّا ما جرى منه على العلويّين ، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله : يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين ، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، واُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا (2).
    وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من اُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه ، حتّى بانت عورته ، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلاّد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبنى عليه اسطوانة ، وهو حي ، فمات فيها (3).
1 ـ العقد الفريد 1 / 41.
2 ـ مروج الذهب 3 / 310 طبع 1948.
3 ـ الكامل 4 / 375.


(233)
    3 ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقى في الحكم من سنة ( 158 ) إلى سنة ( 169 ) وكفى في ظلمه للعلويّين ، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسجنه فدسّ إليه السم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.
    4 ـ ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، وكفى فيه ظلمه ـ بالرغم من قصر أيّامه ـ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني : انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور ، أباها واخوتها ومومتها وزوجها علي بن الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ، ابنها الحسين ن وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينا وبينه شيئا حتى لحقت باللّه عزّ وجلّ (1).
    5 ـ ثم تولّى بعده الرشيد سنة ( 170 ) ومات ( 193 ) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً ، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، بني عليه اسطوانة وهو حي ، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً من جدّه المنصور (2) وأمّا ماجرى منه في حقّ الامام الكاظم فنذكره في المفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة.
    6 ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللّهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.
    7 ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد
1 ـ مقاتل الطالبيين 285 طبع النجف.
2 ـ مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف ، و روى في مقتله أمراً آخر.

(234)
أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ السمّ للإمام الرضا ، وسيوافيك تفصيله.
    8 ـ مات المأمون سنة ( 218 ) وجاء إلى الحكم النه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّ من السجن.
    9 ـ ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون.
    10 ـ وولى الحكم بعد الواثق ، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده علي آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئ الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (1) قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق ، مسالح له لا يجدرون أحداً زاره إلا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.
    و قال : : بعث برجل من أصحابه ( يقال له « الديزج » وكان يهودياً فأسلم ) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضى ذلك ، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه.
    و قال : حدثني محمّد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك
1 ـ الكرب : إثارة الأرض للزرع.
(235)
الأيّام خوفاً ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين ، نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمّه ( نتسمه ) ونتحرّى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، واُحرق واُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه .. فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه. و قال : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإنّ قلّ إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عوارى حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه (1). و ولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا. و أوّل ما أحدثه انّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي : إنّي اُجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ ، فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم ، إن شاء اللّه. قال : إذاً تسعد
1 ـ مقاتل الطالبيين 395 ـ 396.
(236)
بذلك عندي (1).
    وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما عزله المنتصر من االبرّ والإحسان ، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج : وكان ـ رضي اللّه عنه ـ رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد اللّه بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّي به.
    واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه.
    قال أبو الفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.
    هذا قليل من كثير من المجازر الدامية ، التي قام بها بنو العباس وأتوا بجرائم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر :
تا للّه إن كانت بنو اُميّة قد أتت فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا قتل ابن بنت نبيّها مظلوما هذا لعمرك قبره مهدوما في قتله فتتّبعوه رميما
    و من أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين ( الاموية والعباسية ) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :
1 ـ مقاتل الطالبيين 636.
(237)
    1 ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 هـ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت ( عليه السلام ) ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة.
    أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا ـ رضي اللّه عنه ـ :
مدارس آيات خلت من ثلاوةٍ ومنزل وحي مقفر العرصات
    قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة واقع يقوم على اسم اللّه والبركات
    وبكى الرضا بكاءً شديداً من هذه القصيدة قوله :
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه تراث بلا قربى وملك بلا هدى وما حكمه بالزور والشبهات و حكم بلا شورى بغير هدات
    و فيها أيضاً قوله :
لآل الرسول بالخيف من منى ديار علي والحسين وجعفر ديار عفاها جور كل منابذ و دار لعبد اللّه والفض صنوه منازل كانت للصلاة وللتقى منازل وحي اللّه معدن علمه منازل وحي اللّه ينزل حولها وبالبيت والتعريف والجمرات و حمزة والسجّاد ذي الثفنات ولم تعف للايّام والسنوات سليل رسول اللّه ذي الدعوات و للصوم والتطهير والحسنات سبيل رشاد واضح الطرقات على أحمد الروحات والغدوات
    إلى أن قال :
ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا و دار زياد أصبحت عمرات


(238)
و آل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهم و آل رسول اللّه تُدْمى نحورهم وآل زياد غلّظِ القصرات و آل زياد زيّنوا الحجلات
    و فيها أيضا :
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً إذاً للطمت الخد فاطم عنده أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي وقد مات عطشاناً بشطّ فرات و أجريت دمع العين والوجنات نجوم سماوات بأرض فلات (1)
    2 ـ ميميّة الأمير أبي الفراس الحمداني ( 320 ـ 357 هـ ) ، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، انشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكره العباسي التي مستهلّها :
بني علي دعوا مقالتكم لا ينقض الدر وضع من وضعه
    فقال الأمير في يجوابه ميميّته المعروفة وهي :
الحق مهتضم والدين مخترم و فيئ آل رسول اللّه مقتسم
    إلى أن قال :
يا للرجال أما للّه منتصر بنو علي رعايا في ديارهم من الطغاة ؟ أما للّه منتقم ؟ و الأمر تملكه النسوان والخدم ! (2)
    3 ـ جيميّة ابن الرومي التي رثا بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، وهي :
1 ـ لاحظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب 2 / 394 ، وروضة الواعظين للقتال النيسابوري 194 ، وكشف الغمة للاربلي 3 / 112 ـ 117 ، وقد ذكرها أكثر المؤرخين.
2 ـ نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها ، لاحظ 3 ، 399 ـ 402.

(239)
أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج ألا أيّ هذا الناس طال ضريركم أكلّ أوانٍ للنبي محمّد طريقان شتّى مستقيم وأعوج بآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجوا قتيل زكيّ بالدماء مضرّج (1)
    « واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، و جاهدت في سبيل الله حقَّ الجهاد من الاعصار ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا لاموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام.
    وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمّةً ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروي وخبراً يتناقل ، وقصصاً يقص ، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه » (2).
    كانت الشيعة حليف الضغط والكبت ، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك
1 ـ مقاتل الطالبيين 639 ـ 646.
2 ـ مقدّمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صفر : الصفحة ي ـ ك ، طبع دار المعرفة.

(240)
الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الاسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم ، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة ، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّاً ، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة.
    هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة ورد بغداد سنة 447 وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين (1).
    قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة (2).
    و كان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير (3).
    و حيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، أخذ العلماء يهدون إليه
1 ـ خطط الشام 3 / 185.
2 معجم البلدان 2 / 342.
3 ـ الكامل في التاريخ 10 / 3.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس