بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 241 ـ 250
(241)
مؤلّفاتهم ، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد ، وقد احترقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال كرخ عند مجيئ طغرل بيك وتوسّعت الفتنة حتى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.
    و قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 :
    و هرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ، ثمّ قال في حوادث سنة 449 : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي المتكلّم الشيعة في الكرخ ، واُخذ ما وجد من دفاتره وكرسيّ يجلس إليه للكلام ، واُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فاُحرق الجميع (1).
    و أنت إذا سبرت غضون التأريخ المؤلّف في عصور الامويّين والعباسيّين ومن بعدهم ـ مع أنّه قد لعبت به الهوى ودسّ فيها أشياء وأشياء ـ تقف على أنّ بقاء الشيعة إلى العصر الحاضر من المعاجز والكرامات وخوارق العادات ، وكيف وانّ تاريخهم هو الذبح ، والقتل ، والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تضافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات ، ومعاهد وكلّيّات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيّون ، ويشكلون اليوم خمس المسلمون أو ربعهم ، إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ
1 ـ المنتظم 8 / 173 ـ 179 ، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش ، لاحظ الصفحة هـ ـ ومن المقدمة.
(242)
و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه : ( إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفروا بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) (1).
    و لا يفوتنّك انّ ثوراتهم المتعاقبة أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية ، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكن ثوراتهم لم تكن عنصريّة أو قوميّة أو طلباً للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى اعلاء كلمة اللّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين.
1 ـ الأنفال / 65.
(243)
الفصل العاشر
في عقائد الشيعة الإمامية


(244)

(245)
    إنّ المناهج الكلامية التي فرّقت المسلمين إلى مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري ، واستمرّت في القرون التالية ، نجمت عنها فرق اسلامية كالمرجئة ، والجهمية ، والمعتزلة ، والحشوية ، والأشعرية ، والكرامية بفرقهم المتشعّبة ، فأكثر الفرق الإسلامية أو جميعها نتاج البحث والمذاكرة بالاضافة إلى الإحتكاك الفكري بين المسلمين والاُمم الاُخرى التي حملت إليهم مسائل وموضوعات جديدة ، فلا تجد لأكثرها أو جميعها تأريخاً متّصلاً بزمن النبيّ الأكرم ، ويقف على صدق ما ذكرنا من سبر أجزاء كتابنا هذا.
    مثلاً الخوارج ـ مضافاً إلى أنّها كانت فرقة سياسيّة نجمت عام 37 من الهجرة أثناء حرب صفين ـ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني.
    والمرجئة ظهرت على الأوساط الإسلاميّة عند اختلاف الناس في الخليفتين عثمان وعلي ، ثمّ تطوّرت إلى معنى آخر وكانت حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان وتأخير العمل.
    والجهمية نتيجة أفكار « جهم بن صفوان » المتوفّى سنة 128 ، والمعتزلة تستمد من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى عام 130 ، وهكذا القدريّة


(246)
والكراميّة والظاهريّة والأشعريّة كلّها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون ، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلا بالنبيّ الأكرم.
    وأمّا عقائد الشيعة الإماميّة ، فليست حصيلة الاحتكاك بالثقافات الأجنبيّة ولا ما أنتجته البحوث الكلاميّة طوال القرون ، وإنّما هي عقائد مأخوذة من الذكر الحكيم أوّلا ، والسنّة النبويّة ثانياً ، وخطب الامام علي وكلمات العترة الطاهرة المأخوذة من النبيّ الأكرم ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين.
    وهذا لا يعني أنّ الشيعة تتعبّد بالنصوص في اُوصلها من دون تحليل وتفكير ، بل يعني أنّ اُصول العقائد الواردة في المصادر المذكورة ، أخذها علماؤهم منها ، وحرّروها بأوضح الوجوه ، ودعموها بالبرهنة ، نعم لا يعتمدون في مجال العقيدة على آحاد الروايات بل يشترط فيها أن تكون متواترة ، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم واليقين ، إذ ليس المطلوب في باب الاعتقاد مجرّد العمل ، بل المطلوب هو الاذعان والإيمان ولا يحصل بآحاد الروايات.
    وهنا نكتة جديرة بالتنبيه ، وهي أنّ قوام التشيّع عبارة عن الاعتقاد بأنّ الإمام عليّاً منصوص عليه بالوصاية على لسان النبيّ الأكرم ، وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الوحيد بعد الذكر الحكيم. هذا هو العنصر المقوّم للتشيّع وأمّا سائر الاُصول فإنّها عقائد اسلامية لا تتّصل بالتشيّع دون غيرهم.
    وها نحن نذكر قصاصات من عقائد الشيعة الامامية ، الواردة في أحاديث أئمّتهم تارة ، وكلمات علمائهم الأقدمين ثانياً ، حتّى يقف القارئ على جذور تلك العقائد وأنّها مأخوذة عن أئمّتهم الطاهرين ، وفي مقدّمتهم خطب الامام علي ( عليه السلام ).


(247)
    1 ـ ما كتبه الامام الرضا ( عليه السلام ) للمأمون في محض الإسلام :
    روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار ، فكتب ( عليه السلام ) له : « إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً قيّوما ، سميعاً ، بصيراً ، قديراً ، قديماً ، قائماً ، باقياً ، عالماً لا يجهل ، قادراً لا يعجز ، غنيّاً لا يحتاج ، عدلا لا يجور ، وانّه خالق كلّ شيء ، ليس كمثله شيء ، لا شبه له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا كفو له ، وانّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.
    وانّ محمّداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه ، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين ، لا نبيّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته ، وانّ جميع ما جاء به محمّد بن عبداللّه هو الحقّ المبين ، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللّه ، وأنبيائه ، وحججه ، والتصديق بكتابه ، الصادق العزيز الذي ( لا يأْْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد ) (1) وانّه المهيمن على الكتب كلّها ، وانّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته ، نؤمن بمحكمه ومتشابهه ، وخاصّه وعامّه ، ووعده ووعيده ، وناسخه ومنسوخه ، وقصصه واخباره ، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله.
    وانّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين ، والناطق عن القرآن ، والعالم بأحكامه ، أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه ، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى : علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أميرالمؤمنين ، وإمام
1 ـ فصّلت / 42.

(248)
المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وأفضل الوصيّين ووارث علم النبيّين والمرسلين ، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين ، ثمّ محمّد بن علي باقر علم النبيّين ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين ، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمّ علي بن موسى الرضا ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ الحجّة القائم المنتظر ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ.
    أشهد لهم بالوصيّة والإمامة ، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان ، وانّهم العروة الوثقى ، وأئمّة الهدى ، والحجّة على أهل الدنيا ، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، وانّ كل من خالفهم ضال ، مضل ، باطل ، تارك للحقّ والهدى ، وانّهم المعبّرون عن القرآن ، والناطقون عن الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) بالبيان ، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية ، وانّ من دينهم الورع ، والفقه ، والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد ، واداء الأمانة إلى البر والفاجر ، وطول السجود وصيام النهار وقيام الليل واجتناب المحارم ، وانتظار الفرج بالصبر ، وحسن العزاء وكرم الصحبة (1).
    ثمّ ذكر الامام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر.

    2 ـ عرض السيّد عبدالعظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي :
    روى الصدوق عن عبدالعظيم الحسني (2) قال : دخلت على سيدي علي بن
1 ـ عيون أخبار الرضا 2 / 121 ـ 122.
2 ـ عبدالعظيم بن عبداللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب

(249)
محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) فلمّأ بَصُرَبي ، قال لي : « مرحباً بك يا أباالقاسم أنت وليّنا حقّا » قال : فقلت له : ياابن رسول اللّه إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضيّاً ثبتّ عليه حتّى ألقى اللّه عزّوجلّ. فقال : « هاتها أبا القاسم ».
    فقلت : إنّي أقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج من الحدّين : حدّ الابطال ، وحدّ التشبيه ، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور ، وخالق الاعراض والجواهر ، وربَّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وانّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيّين ، فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وأقول : إنّ الامام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى ابن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ أنت يا مولاي.
    فقال ( عليه السلام ) : « ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده ؟ قال : فقلت : وكيف ذلك يا مولاي ؟ قال : لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل
( عليهم السلام ) من أصحاب الإمام الهادي ، قال النجاشي : له كتاب خطب أميرالمؤمنين ورد الري هارباً من السلطان وسكن سربا في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي ، فكان يعبد اللّه في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله ، فكان يخرج مستتراً ، فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فلم يزل بأوى إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمّد عليهم السلام حتى عرفه اكثرهم. رجال النجاشي 2 / 65 ـ 66 ، ومات عبد العظيم بالري وقبره مزار. يزوروه الناس. وذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري تحت رقم 1 و20. وذكره أيضاً عمدة الطالب 94.
(250)
ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.
    قال : فقلت : أقررت وأقول : إنّ وليّهم وليّ اللّه ، وعدوّهم عدوّ اللّه ، وطاعتهم طاعة اللّه ومعصيتهم معصية اللّه ، وأقول : إنّ المعراج حقّ ، والمساءلة في القبر حقّ ، وانّ الجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والميزان حقّ ، وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللّه يبعث من في القبور ، وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    فقال علي بن محمّد ( عليه السلام ) : يا أبا القاسم : « هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » (1).
    و قد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين ، أحدهما قولي ، والآخر امضائي ، وقد أخذوا عقائدهم عن آبائهم الطاهرين.

    3 ـ رسالة الصدوق 306 ـ 381 في عقائد الإمامية :
    إنّ لمشايخنا الإمامية قصاصات في بيان عقائد الشيعة ومعارفهم ، ونختار في المقام رسائل موجزة ، من المتقدّمين :
    صنّف الشيخ الصدوق 306 ـ 381 رسالة موجزة في عقائد الإمامية ، قال : اعلم انّ اعتقادنا في التوحيد ، أنّ اللّه تعالى واحد ، أحد ، ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، سميعاً بصراً ، عليماً حكيماً ، حيّاً قيّوماً ، عزيزاً قدّوساً ، عالماً قادراً ، غنيّاً ، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض إلى أن قال : ـ وأنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه ، خارج عن الحدّين ، حد الأبطال ، وحدّ التشبيه ،
1 ـ التوحيد : باب التوحيد والتشبيه 81 رقم الحديث 37.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس