بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 431 ـ 440
(431)
جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.
    ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب (1).
    وقال العلامة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وسنّة رسوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أو خروج من حكم العقل والاعتبار.
    وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال
1 ـ الأرض والتربة الحسينية 24.

(432)
المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (1).
    هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم.
    1 ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 1295 ـ 1373 في كتابه الأرض والتربة الحسينية.
    2 ـ العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير 1320 ـ 1390 فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا.
    3-السجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.
    فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.
1 ـ سيرتنا وسنّتنا 166 ـ 167 طبع النجف الأشرف.
(433)
الفصل الحادي عشر
في الأئمّة الإثني عشر


(434)

(435)
    إنّ الشيعة الامامية هي الفرقة المعروفة بالإثني عشرية. فهم يعتقدون باثني عشر إماماً من بني هاشم وقد نصّ الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على إمامتهم وقيادتهم واحداً بعد الآخر كما نصّ كلّ إمام على إمامة من بعده نصّاً يخلو من الابهام.
    وقد عرفت فيما مضى أنّه تضافر عن الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أنّه يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وذكرنا هناك أن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة « وإذا كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزائنه ، وشارع الدين وهم حفظته وصاحب الكتاب وهم حملته » (1) فيلزم علينا معرفتهم ، كيف وهم احد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسول ، قدوة للاُمّة ونوراً على جبين الدهر.
    ونحن نعرض في هذا الفصل ، موجزاً عن أحوالهم وحياتهم حتّى يكون القارئ ملمّاً بهم عن كثب. ونعيد كلمتنا بأن الغرض هو الالمام والايجاز بل الاشارة والالماح لا التفصيل والتطويل. وإلاّ فإنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين
1 ـ اقتباس ممّا ذكره أمين الاسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى 3.

(436)
موسوعة كبيرة. وقد قام بذلك شطر كبير من علماء الإسلام ونحن نستضيئ من أنوار كلامهم فنقول :


(437)
    الامام الأوّل :
الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )
    إنّ الامام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه وخطبه وقصار كلماته. وسياسته وحروبه مع الناكثين والقاسطين ، فالأولى لنا الاكتفاء بهذا المقدار واحالة القارئ إلى تلك الموسوعات بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول :
    هو أميرالمؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين ، وأوّل القوم إيماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأعظمهم مزيّة ، وأقومهم بأمر اللّه ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الايمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات اللّه ، خليفة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرّفة ومُطهِّرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي


(438)
( جامع الكوفة ) في محرابه حال الصلاة سنة 40.
    كل من هذه الجمل الخمس عشر ، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة (1).
    وكفى في حقّه ما قاله رسول اللّه :
    « عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب » (2).
    وقال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « من سرّه أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (3).
    وقال الامام أحمد : ما لأحمد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي ( رضي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عنه ) (4).
    وقال الامام الرازي : من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (5).
    ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، لقول النبي : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (6).
    وقال شبلي شميّل : « الامام علىّ بن أبي طالب ، عظيم العظماء ، مسخة مفردة ،
1 ـ راجع مسند أحمد 1 / 331 ، 5 / 182 ـ 189 ، حلية الأولياء 1 / 62 ـ 68 ، ولاحظ الغدير 2 / 33.
2 ـ الخطيب البغدادي التاريخ 4 / 40.
3 ـ أبو نعيم : حلية الأولياء 1 / 86.
4 ـ ابن الجوزي الحنبلي : مناقب أحمد 163.
5 و 6 الرازي : التفسير 1 / 207.


(439)
لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل ، لا قديماً ولا حديثاً » (1).
    وقال جورج جرداق : « وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله ، وقلبه ، ولسانه وذي فقاره » (2).

    فصول حياته الخمسة :
    إنّ الامام ( عليه السلام ) ولد في الكعبة بعد مضي ثلاثين عاماً من واقعة الفيل وفي الحقيقة ولد بعشر سنين قبل البعثة وتوفّي في العام الأربعين من الهجرة فيكون عمره الشريف ثلاثة وستين عاما.
    فلو أردنا أن نقسم حياته إلى فصول نجد أنّ هناك فصولا خمسة تشكّل مجموع حياته ( عليه السلام ).
    1 ـ حياته قبل البعثة وهي لا تتجاوز عن عشر سنين ، وقد تكفّله النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهو حين ذاك لا يتجاوز عمره عن أربعة أو خمسة سنين وجاء به إلى داره وعاش في بيته ، وقد لازمه طيلة تلك الأعوام حتّى الأيام التي كان النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يعتكف فيها في غار حراء كما هو المحقق في التاريخ.
    2 ـ حياته بعد البعثة وقبل هجرة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إلى المدينة المنوّرة ، ولقد هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهي لا تزيد على ثلاثة عشر عاماً.
    3 ـ حياته بعد الهجرة وقبل وفاة النبي الأكرم وهي عشر سنوات حافلة بالجهاد والتضحيات.
    4 ـ حياته بعد رحلة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وقبل الخلافة وتبلغ
1 و2 ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 37 ـ 49.

(440)
25 سنة ولقد قدّم خدمات ثقافية عظيمة للاُمّة خلالها. ولم تكن خالية عن الحوادث المريرة.
    5 ـ حياته بعد الخلافة إلى شهادته في محراب مسجد الكوفة ، وهي حافلة بحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين. ولقد أخذ بمقاليد الخلافة. بعد أن صارت أموية. وبعد أن سلّط عثمان بني اُميّة ، على العباد والبلاد وسادت عبادة الدينار والدرهم وملأ حبّ الدنيا قلوب كثير من الناس فسعى ( عليه السلام ) في اخراج الاُمّة من هذه الأزمة وارجاعهم إلى ما كانوا عليه في عصر النبي الأكرم. ولقى في طريق اُمنيته ما لقى إلى أستشهد في محراب عبادته لشدّة عدله.
    فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيّا.
    وقد كتب حول حياة الإمام ما لا تعد ولا تحصى من الكتب والرسائل والموسوعات ، فلا محيص ، عن احالة القرّاء إليها غير انّا نشير هنا إلى بعض خصائصه.

    بعض خصائصه :
    يطيب لي أن اُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة ، فنقول : إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد :
    1 ـ السابق إلى الإسلام.
    2 ـ ولد في الكعبة.
    3 ـ تربّى منذ صغره في حجر رسول اللّه.
    4 ـ مؤاخاته مع النبي.
    5 ـ إنّ النبي حمله حتّى طرح الأصنام من الكعبة.
    6 ـ إنّ ذرّية رسول اللّه منه.
    7 ـ إنّ النبي تفل في عينيه يوم خيبر ، ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس