بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 251 ـ 260
(251)
آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيّها الناس من كان خرج ، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا ، ونحن منه ، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب : إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الاَهواز ، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه ، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، وكان قولهم عند ضريحه : « اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم ، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاغفر لنا ما مضى ، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين وإنّا نشهدك أنّا على دينهم ، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.
    ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له ، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الاَسود ، ثم أخذوا على الاَنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه ، فكتب إليه جواباً ـ بعد أن شكره وأثنى عليه ـ : أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم ، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.


(252)
    ثم ساروا حتى انتهوا إلى « قرقيسيا » على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فردّ المال وأخذ الفرس وقال : لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي ، وبعث « زفر » إليهم ، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.
    ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج « زفر » يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم : الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي ، وعبيد اللّه بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين ، فإذا جاءنا هذا العدو ، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال : قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.
    وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال : إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة ، فإن قتل ، فالاَمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، فإن قتل ، فالاَمير عبد اللّه بن وال ، فإن قتل ، فالاَمير رفاعة بن شداد ، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.
    كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون ، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّـى الشاميون عسكرهم وانهزموا ، فغنم


(253)
منه أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.
    وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً ، فخرج أصحاب سليمان إليه لاَربع بقين من جمادي الاَُولى ، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد ، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب ، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (1) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الاَمر إلى أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأبى كل منهم ، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين ، والميسرة أيضاً على الميمنة ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم ، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم ، وما زال الظفر لاَصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
    فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف ، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد ، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار ، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة ، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين ، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.
    فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى ، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ، ورأى سليمان ما لقي أصحابه ، فنزل ونادى : عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه ، فقاتلوهم ، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّـا رأى الحُصين صبرهم
    1 ـ كذا في النسخة.

(254)
وبأسهم ، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال ، فقتل سليمان ، رحمه اللّه ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.
    فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً ، ثم قتل ، رحمه اللّه ، بعد أن قتل رجالاً.
    فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما ، ثم قرأ : « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا » وحفّ به من كان معه من الاَزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة ، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة ، فسرّ الناس فقال عبد اللّه بن سعد : ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.
    فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم ، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق ، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف ، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً ، وبقيت الراية ليس عندها أحد ، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لاَصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ، والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين ، والرواح إلى الجنّة ، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.
    ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى قتالهم


(255)
أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : « ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً » الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه ، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال : بئس ما ظننت ، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الاَجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً ، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.
    فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا : لتأخذ الراية. فقال : إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الاَحمر : هلكنا واللّه ، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة : نعم ما رأيت ، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم ، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الاَمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
    وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الاَمان ، قال : قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة ، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.
    فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد


(256)
عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم ، فلم يبعث في آثارهم ، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة ، فأقاموا ثلاثاً ، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.
    ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ « هيت » فأتاه الخبر ، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء ، فأخبره ، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه ، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا ، فسار كل طائفة إلى بلدهم.
    ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً ، فأرسل إليه : أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الاَجر ، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا ، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ، ولا ربا ربوة ، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفّاه اللّه ، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، إنّي أنا الاَمير المأمور ، والاَمين المأمون ، وقاتل الجبارين ، والمنتقم من أعداء الدين ، المقيّد من الاَوتار ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، أدعوكم إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيه ، والطلب بدم أهل البيت ، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين ، والسلام » (1).
    هذه هي ثورة التوابين ، المشرقة ، وهممهم العالية ، وتفاديهم في سبيل الهدى ، وقد بُذل لهم الاَمان فلم يقبلوا فقد : « صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه » (2) فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية ، على عاتقهم.
    وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها : « لقد اعتبر التوابون أنّ
    1 ـ الجزري : الكامل : 4/175 ـ 186.
    2 ـ الاَحزاب : 23.


(257)
المسوَول الاَوّل والاَهم عن قتل الحسين ( عليه السلام ) هو النظام ، وليس الاَشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين ( عليه السلام ) (1).
    إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم ، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم ، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم ، والرغبة الحارة عن التكفير ، وكونها صادرة عن هذه البواعث ، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير ـ ومع ذلك ـ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم ، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاَموي.
    1 ـ محمد مهدي شمس الدين : ثورة الحسين : 264.

(258)
ثورة المختار
    المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي ، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي ( عليه السلام ) وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه : « ياكيّس! ياكيّس! » ولذا لُقّبَ بالكيسان (1).
    إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت ، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته ، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال : الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (2).
    وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لاَهل البيت ( عليهم السلام ) فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام ( عليه السلام ) ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال ، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.
    1 ـ الكشي : الرجال : 116.
    2 ـ المصدر نفسه.


(259)
    يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) خرج قبل الاَجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة ، وكان في قرية تدعى « لقفا » فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر ، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما ، ففعلا وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل ، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (1) عينه ، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين ( عليه السلام ) فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (2).
    خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الاَمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه ، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير ، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الاَمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي :
    مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الاَوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم ، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء ، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة
    1 ـ شتر : قلب جفنه.
    2 ـ اليعقوبي : التاريخ : 2/258 ، ط دار صادر ـ بيروت ، الطبري : التاريخ : 4/441 ـ 442.


(260)
ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، نادى المختار : يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود ، وأنا ابن الكرار لا الفرار ، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الاَوتار ، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت ، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الاَوّل سنة 64هـ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه ، فإذا استراح نهض فقاتل ، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (1).
    وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.

مغادرته مكة إلى الكوفة :
    ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لاَنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه ، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة ، يقول المسعودي : نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم ، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (2) ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده ، وقد كان العراق تحت قدرته ، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله ، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة ، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه ، ولما قدم صعد
    1 ـ الطبري : التاريخ : 4/445 ـ 446.
    2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/73 ـ 74.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس