كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 1 ـ 10
بحوث في
الملل والنحل
الجزء الثامن
في
الاِسماعليلية
وفرق
الفطحيّة ، الواقفية ، القرامطة ، الدروز والنصيرية
تأليف
جعفر السبحاني


(2)

(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
    أما بعد فهذا هو الجزء الثامن من موسوعة « بحوث في الملل والنحل » نقدمه للقراء الكرام حول الاِسماعيلية وغيرها من الفرق الشيعية وبه تنتهي سلسلة تلك البحوث نحمده سبحانه ونشكره أنّه بذلك حقيق.

تمهيد
    الاِسماعيلية فرقة من الشيعة القائلة بأنّ الاِمامة بالتنصيص من النبي أو الاِمام القائم مقامه ، غير انّ هناك خلافاً بين الزيدية والاِمامية في عدد الاَئمة ومفهوم التنصيص.
    فالاَئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبي عند الزيدية لا يتجاوز عن الثلاثة : عليّ أمير الموَمنين (عليه السّلام) ، والسبطين الكريمين : الحسن والحسين (عليهم السّلام) وبشهادة الاَخير غلقت دائرة التنصيص ، وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة على تفصيل مرّ في الجزء السابع.
    وأمّا الاَئمّة المنصوصون عند الاِمامية فاثنا عشر إماماً ، آخرهم غائبهم ، يُظهره اللّه سبحانه عندما يشاء وقد حُوِّل أمر الاَُمّة ـ في زمان غيبته ـ إلى الفقيه العارف بالاَحكام والسنن ، والواقف على مصالح المسلمين ، على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.


(4)
    وأمّا الاِسماعيلية فقد افترقت إلى فرق مختلفة :
    1 ـ القرامطة : القائلة بإمامة محمد بن إسماعيل ابن الاِمام الصادق و غيبته ، ثمّ دخلت الاِمامة في كهف الاستتار.
    2 ـ الدروز : وهم يسوقون الاِمامة إلى الاِمام الحادي عشر الحاكم بأمر اللّه ، ثمّ يقولون بغيبته وينتظرون ظهوره.
    3 ـ المستعلية : وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى الاِمام الثالث عشر المستنصر باللّه ، ويقولون بإمامة ابنه المستعلى باللّه بعده ، وهم المعروفون بالبهرة ، وقد انقسمت المستعلية سنة 999 هـ إلى فرقتين : داودية وسليمانية ، سيوافيك بيانها.
    4 ـ النزارية : وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى المستنصر باللّه ، ثمّ يقولون بإمامة ابنه الآخر نزار بن معد ، وقد انقسمت النزارية إلى : موَمنية وقاسمية المعروفة بالآغاخانية ، وسيأتي سبب الانقسام وزمانه والركب الاِمامي منقطع عن السير عند الجميع إلاّ القاسمية حيث يقولون باستمرار الاِمامة إلى العصر الحاضر.
    هذا كلّه حول اختلافهم في استمرار الاِمامة ، وأمّا اختلافهم مع الزيدية والاِمامية في مفهوم التنصيص ، فإنّه عند الفرقتين الاَخيرتين يرجع إلى تعيين الاِمام والقائم بالاَمر باللفظ والاشهاد ، بخلاف الاِسماعيلية فإنّها تنتقل عندهم من الآباء إلى الاَبناء ، ويكون انتقالُها عن طريق الميلاد الطبيعي ، فيكون ذلك بمثابة نص من الاَب بتعيين الابن ، وإذا كان للاَب عدة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الاِمام الذي وقع عليه النص. فالقول بأنّ الاِمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.
    وعلى كلّ تقدير فهذه الفرقة ، منشقة عن الشيعة ، معتقدة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد الاِمام الصادق (عليه السّلام) و هي متواجدة في كثير من الاَقطار ، منها : الهند ، وباكستان ، واليمن ونواحيها ، وسوريا ، ولبنان وأفغانستان ، وإفريقية وإيران ونحقّق مذهبهم وفرقهم وآثارهم في ضمن فصول :


(5)
الفصل الاَوّل
الخطوط العريضة
للمذهب الاِسماعيلي


(6)

(7)
إنّ للمذهب الاِسماعيلي آراءً وعقائداً ، ستوافيك تفاصيلها في الفصول الآتية نذكرها هنا على وجه الاِيجاز :

الاَُولى : إنتماوَهم إلى بيت الوحي والرسالة
    كانت الدعوة الاِسماعيلية يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى : إمامة المسلمين ، وخلافة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم؛ غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تُضمن لها البقاء ، وتستقطب أهواءَ الناس وميولهم.
    ومن تلك العوامل التي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة ، وكونهم من ذرية الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ، وكان المسلمون منذُ عهدِ الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ ، وقد كانت محبتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.
    وممّا يشير إلى ذلك انّ الثورات التي نشبتْ ضدّ الاَُمويين كانت تحمل شعار حب أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم ، ومن هذا المنطلق صارت الاِسماعيلية تفتخر بانتماء أئمتهم إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم ، اشتهروا بالفاطميين ، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجة انّ الاَبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر ، وانّتكريم ذرية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تكريم له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فشتان مابين بيت أُسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوانه ، وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم.


(8)
الثانية : تأويل الظواهر
    إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الاِسماعيلية ، وهي إحدى الدعائم الاَساسية بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر ، لم تتميز عن سائر الفرق الشيعية إلاّ بصَرف الاِمامة عن الاِمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر ، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة ، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الاِمامة وتصنيفها إلى أصناف ، سيوافيك بيانه.
    و لم يكن تأويل الظواهر أمراً مبتدعاً ، بل سبقهم ثلة من المندسّين في أصحاب الاِمام الصادق (عليه السّلام) الذين طردهم الاِمام ولعنهم وحذّر شيعته من الاختلاط بهم ، لصيانتهم عن التأثر بآرائهم والانجراف في متاهاتهم كأبي منصور ، وأبي الخطاب ، والمغيرة بن سعيد ، وغيرهم من ملاحدة عصره وزنادقة زمانه.
    إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالاَهواء والميول جعل المذهب الاِسماعيلي يتطور مع تطور الزمان ، ويتكيّف بمكيفاته ، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشرع أو الضرورة الدينية.

الثالثة : تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفية
    إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد ، كانت من أهمّ ميزات العصر العباسي حيث كانوا يرفضون كل بحثٍ عقلي خارج عن هذا الاِطار خاصّة في عهد المنصور والرشيد ، فقد طردوا حماة البحث الحرّ والانفتاح الفكري وضيّقوا عليهم.
    إنّ هذه الظاهرة على خلاف الشريعة ، التي تدعو إلى التفكّر والتعقّل. وكان


(9)
الاِمام علي (عليه السّلام) أوّل من فتحَ باب الاَبحاث العقلية على مصراعيه وبيّن الخطوط العريضة لكثير من العقائد على ضوء البرهان والدليل.
    إنّ ظاهرة الجمود في أوساط العباسيين ولّدت ردّ فعلٍ عند أئمة الاِسماعيليّة ، فانجرفوا في تيارات المسائل الفلسفية وجعلوها من صميم الدين وجذوره ، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن ، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الاِسلامية عيناً ولا أثراً.
    يقول الموَرّخ الاِسماعيلي المعاصر : إنّ كلمة « إسماعيلية » كانت في بادىَ الاَمر تدل على أنّها من إحدى الفرق الشيعية المعتدلة ، لكنّها صارت مع تطور الزمن حركة عقلية تدلّ على أصحاب مذاهب دينية مختلفة ، وأحزاب سياسية واجتماعية متعدّدة ، وآراء فلسفية وعلمية متنوعة. (1)

الرابعة : تنظيم الدعوة
    ظهرت الدعوة الاِسماعيلية في ظروف ساد فيها سلطانُ العباسيين شرقَ الاَرض وغربها ، ونشروا في كلّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الاَخبار ـ خاصة أخبار مخالفيهم ومناوئيهم ـ إلى مركز الخلافة الاِسلامية ، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يكتب النجاح لكلّدعوة تقوم ضد السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارَها ، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.
    وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم ، وبلغوا فيه الذروة بحيث لو قورنت مع أحدث التنظيمات الحزبية العصرية ، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار ، وقد ابتكروا
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 14 ، والموَلف سوري إسماعيلي وفي طليعة كُتّابهم.

(10)
أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم ، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.
    يقول الموَرخ الاِسماعيلي المعاصر : وبالحقيقة لم توجه أية دولة من الدول ، أو فرقة من الفرق ، اهتماماً خاصاً بالدعاية وتنظيمها ، كما اهتمّت بها الاِسماعيلية ، فجعلت منها الوسيلة الرئيسية لتحقيق نجاح الحركة في دور الستر والتخفّي ، ودور الظهور وا لبناء معاً. ولقد أحدث التخطيط الدعاوي المنظم تنظيماًعجيباً لم يسبقهم إليه أحد في العالم ، وابتكرت الاَساليب المبنية على أُسس مكينة مستوحاة من عقيدتها الصميمة.
    ولقد برعوا براعة لا توصف في تنظيم أجهزة الدعاية ـ على قِلّة الوسائل في ذلك العصر ـ واستطاعوا أن يشرفوا بسرعة فائقة على أقاصي بقاع البلدان الاِسلامية ، ويتنسمون أخبار أتباعهم في الاَبعاد المتناهية.وذلك بما نظموا من أساليب وأحدثوا من وسائل. وقد كان للحمام الزاجل ـ الذي برع في استخدامه دعاة الاِسماعيلية ـ أثره الفعّال في تنظيم نقل الاَخبار والمراسلات السرية الهامّة. (1)

الخامسة : إضفاء طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم
    شعرت الدعوة الاِسماعيلية أيام نشوئها بأنّه لا بقاء لها إلاّ إذا أضفتْ طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم بحيث توجب مخالفتهم مروقاً عن الدين وخروجاً عن طاعة الاِمام « والجدير بالاهتمام انّ الاِمام الاِسماعيلي ـ والذي يعتبر رئيساً للدعوة ـ جعل الدعاة من (حدود الدين) إمعاناً منه في إسباغ الفضائل عليهم ليتمكّنوا من نشر الدعوة وتوجيه الاَتباع والمريدين دونما أيّة معارضة أو مخالفة ،
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 37.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس