المحسن السبط ::: 11 ـ 20
(11)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
     الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
     اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
     اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك ، وبارك عليهم بأفضل بركاتك إنّك حميد مجيد.
     اللهم والعن من حادّك وحادّ رسولك ، وناصبه العداوة والبغضاء في أهل بيته ( عليهم السلام ).
     وبعد ، فهذه سطور ما كنت أحسب أنّي أكتبها لوضوح الرؤية عندي فيما تضمّنته ، إلاّ أنّي وجدت وضوح الرؤية عندي لا يعني ولا يُغني عند الآخرين شيئاً ، فالناس يتفاوتون إدراكاً ومشارباً ، كما يختلفون عقائداً ومذاهباً.
     وكثير منهم يرى تقديس الموروث بحجة أو بغير حجة ، فهو يعيش في كيانه على تراث موبوء ، أخذه الخلف عن السلف ، فضاعت عنده معالم الحقائق لتراكم المخلّفات ، وبقي النشّؤ الجديد يدور في حلقة مُفْرَغة ، لم يمسك بطرف يهديه الطريق ، ولم يجد الملجأ الوثيق ، وكلّ ما حاول ـ إذا ما حاول ـ فلا يجد سوى الاجترار والتكرار ، ومقولة ( عدالة الصحابة ) التي أصبحت هي الذكر الخفي ، ويجب إسدال الستار على ما حدث بينهم ، فما من دخان إلاّ من وراء نار. فالسكوت عمّا حدث أولى؟!


(12)
    وهكذا ضاعت معالم الاهتداء بين تركة الموروث من تاريخنا ، والذي تلقيناه محاطاً بسياج من الحصانة وهالة من العنعنة ، تنفي ـ في نظر القاصر طبعاً _ عنه معرّة النقد الخارجي وهو السند ، كما تضفي عليه نسجاً كثيفاً يغطّي تبعة النقد الداخلي وهو المتن.
     وبين هذا وذاك كادت تضيع معالم الدلالة ، وبالتالي نبقى مع الحدَث نتحدّث عنه وكأنّه من أحاديث السمر.
     لذلك ـ ولا أكون مغالياً _ فقد وجدت صعوبة بالغة في تفهيم القارئ صورة الحدَث وملابساته ، وهو يعيش عنده كموروث في الذاكرة ، وشجت عليه أصوله ونمت عليه فروعه ، أما أنا فأعيش معه من خلال عالم التصور عندي لطبيعة الحدَث وملابساته ، ومن خلال المقروء في نصوص التاريخ المقبول عند العامة والخاصة ، لذلك كان لزاماً عليّ وأنا أريد التحدث عن ( المحسن السبط ) أن أستعرض ما يمتّ إلى الحديث عنه بصلة ، وأعني ما ينفع في الجواب على السؤال المذكور في عنوان الرسالة ، هل هو مولود أم سقط؟ وذلك لما أثير حوله في هذه الأيّام من نقض وإبرام.
     ولقد كنت أحسب أنّي بالغ ما أريد في بعض صفحات قد لا تتجاوز العشرة ، ولكن نتيجة الترابط بين الأحداث التي كانت يوم حدث السقط للسبط بدءاً وختاماً ، حرباً وسلاماً ، عنفاً وانتقاماً ، فقد تلاحقت في الحضور السطور والكلمات ، وتتابعت في الظهور صفحات وصفحات ، لذلك جاوزت القدر المظنون ، فبلغت ما يراه القارئ.
     ولا تزال هناك جوانب أخرى لم تبحث ، وإن كان لها الدور الفاعل في تهيئة أجواء الحدَث ، والحديث عن ملابسات ذلك الحدَث الخطير ، لابد أن يدخلنا في متاهات من ركام التاريخ ، تترتب على الخوض فيها نتائج ذات مرارة بالغة ، ولكنّها شفاء لما في الصدور ، فكثير من الدواء مرّ الطعم ولكن فيه الشفاء ، وفي


(13)
اعتقادي أنّ ما قدمته في هذه الأوراق يسدّ حاجة في نفس يعقوب ، ويروي من ظمأ التساؤل كما يسدّ من لغوب السغوب ، وبالتالي يقلّل من معاناة الذبذبة الفكرية التي يعيشها الشباب ، من جراء انغلاقهم على جوانب ملؤها تقديس الموروث ، وقد صكّت أسماعهم تلاوة : « بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا » (1).
     ومن جهة أخرى لما تفتح الوعي عندهم فانفتحوا على نوافذ في التاريخ ، فأخذوا يحدقون من خلالها لينظروا إلى الأحداث على حقيقتها ، فساورتهم الشكوك في أمانة التسجيل ، فهم يرون الصورة ليست واقعية ، بل ومشوّهة ومبتورة عفّى على وجهها غبار السنين ، لذلك فهم يعانون الكثير من الصعوبات ، من جرّاء التذبذب بين ذلك الانغلاق الموروث وهذا الانفتاح المكتسب ، وهم في دوامة البلبلة ، وهم.. وهم.. وهم.. مع ذلك لا يزالون ينشدون السلامة الفكرية بنشدانهم الحقيقة الواقعية ، تخلصاً من ويلات العويل الذي أصمّ أسماعهم من محيطهم ، بل وحتى من داخل أنفسهم فهم يتلون : « تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ » (2) ؛ وهم يقرأون قوله تعالى : « أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (3).
     فهذه الأوراق فيها إقامة الشاهد تلو الشاهد على أنّ ( المحسن السبط ) ليس مولوداً بل هو سقط ، وبالأصح فقد أسقط.
     وعلى القارئ الذي يضيق ذرعاً من مواجهة الحقيقة المُرّة ، أن لا يزعج نفسه كثيراً ، بل ليلوم من أوقع الحدث بكل ما فيه من تمرّد وعنفوان حتى كان ما كان.
1 ـ لقمان : 21.
2 ـ البقرة : 134.
3 ـ يونس : 35.


(14)
    وأخيراً أسأل الله تعالى أن ينفع الضال والمضلَّل بما سيقرأ : « وَيَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً » (1).
     ماذا في هذه الرسالة؟
     إنّ فيها ثلاثة أبواب وخاتمة :
     الباب الأول : نبحث فيه ما دلّ على صحة السلب عن حديث إكتناء الإمام بأبي حرب. وذلك في ثلاثة فصول :
     الفصل الأول : في مصادر الحديث.
     الفصل الثاني : في رجال الإسناد.
     الفصل الثالث : في متن الحديث ، ونبحث فيه النقاط التالية :
     1 ـ التعريف بحرب ، وهل هو اسم علم؟ أم اسم معنى؟ ومن المراد منهما؟
     2 ـ هل كان اسم حرب من الأسماء المحبوبة أم الأسماء المبغوضة؟
     3 ـ ماذا كان يعني إصرار الإمام ـ إن صدقت الأحلام ـ في تسمية أبنائه بحرب ، اسم المعنى؟
     4 ـ ما هي الدوافع المغرية في اسم حرب ، اسم العلم؟
     5 ـ في كُنى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وما هي أحبّ كُناه إليه؟
     6 ـ ماذا وراء الأكمة من تعتيم لتضليل الأمة؟
     الباب الثاني : ونبحث فيه عن ( المحسن السبط ) هل هو مولود أم سقط؟
     وذلك من خلال ثلاثة فصول نستعرض فيها ما قاله المؤرخون والنسّابون من أهل السنة خاصة.
     الفصل الأول : فيمن ذكر ( المحسن السبط ) ولم يذكر شيئاً عن ولادته ولا عن موته.
     الفصل الثاني : فيمن ذكر ( المحسن السبط ) وأنّه مات صغيراً.
1 ـ مريم : 76.

(15)
الفصل الثالث : فيمن ذكر ( المحسن السبط ) وأنّه سقط.
     وفي خلال هذا الفصل قد نمرُّ ببعض المصادر الشيعية لأنّها تسلّط الضوء على ما أُبهم ذكره واستُبْهِم ـ عن عمد ـ أمره.
     الباب الثالث : ونبحث فيه عن مسيرة الأحداث التي رافقت حدَث السقط للمحسن السبط ، وذلك من خلال ثلاثة فصول :
     الفصل الأول : وقفة مع الأحداث ، ونظرة في المصادر.
     الفصل الثاني : مسيرة مع المؤرّخين جرحاً وتعديلاً.
     الفصل الثالث : نصوص ثابتة في الإدانة.
     الخاتمة : في نتائج البحث وأنّ المحسن السبط هو أول ضحايا العُنف في أحداث السقيفة ، وقد أجهز عليه وهو حمل وأنّه المحسن السقط.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
15 ذي الحجة الحرام
1416 هـ


(16)

(17)
الباب الأول
في صحة السلب عن حديث إكتناء
الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأبي حرب
وفيه ثلاثة فصول :
    الفصل الأول : في مصادر الحديث
    الفصل الثاني : في رجال الحديث
    الفصل الثالث : في متن الحديث


(18)

(19)
    تمهيد
     إنّ حديث إكتناء الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) بأبي حرب ، حديث حسبه بعضهم من المفاخر ، فشاع ذكره في المصادر ، ورواه الحاضر عن الغابر ، من معاندٍ وناصرٍ.
     وبين هذا وذاك ضاعت آثار الزيف ، وبين أولا وهؤلاء خفيت معالم الحقيقة ، وسط قرع الطبول ، وتزمير الزامر ، حتى صكت الأذان ، وكثر حوار الطرشان.
     أتدرون أيّها القرّاء الكرام ماذا يعني ذلك الحديث؟
     إنّه يعكس رغبة الإمام أميرالمؤمنين أن يسمّي أحد أولاده ( حرباً ) !! إنّه يصوّر لنا تهافته ليكنّى بأبي حرب!!
     إنّه كرّر تجربة فاشلة ثلاث مرّات فلم ينجح!!
     وإن صدقت أحلام الوضّاعين فسيفصح ذلك عن مدى تعلّقه بتلك الكنية ـ البغيضة ـ وهيامه بذلك الاسم ، لكن لم تتحقق له رغبته الملحّة ، حيث كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يغيّر كلّ مرّة حاول الإمام فيها تنفيذ رغبته فيما زعم الرواة.
     وتبقى بعدُ في الحديث سمات ذات دلالات ، تبعث على التساؤل وتُثير الشكوك ، فهذا هو الباعث لي على النظر في الحديث سنداً ومتناً ودلالة ، لعلّي


(20)
أستطيع أن أنفع القارئ بشيء عن ذلك ، يُلقي الضوء على مخبئات الدسّ الذي جاء متراكماً في كثير من المصادر حول هذا الحديث المزعوم.
     وبالتالي فـ « هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ » (1).
     وقبل الخوض في الحديث سنداً ومتناً ودلالةً ، أودّ تنبيه القارئ على أمرٍ هو من الخطورة بمكان ، وذلك هو تسرّب الحديث على علاّته وسماته إلى المصادر الشيعية نقلاً عن المصادر السنيّة ، وفي غفلة عمّا فيه من هنات ، وإلى القارئ أسماء تلك المصادر :
     المصادر الشيعية التي تسرّب إليها الحديث المزعوم :
     1 ـ صحيفة الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، والحديث عنها مذكور في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) (2) ، وفي مستدرك الوسائل (3) إسناده عن عليّ بن الحسين قال : حدثتني أسماء بنت عميس قالت : قبّلت جدتك فاطمة ( عليها السلام ) بالحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، فلما ولد الحسن ( عليه السلام ) جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : ياأسماء هاتي ابني ، فدفعته إليه في خرقة صفراء ، فرمى بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : يا أسماء ألم أعهد إليكم أن لا تلفّوا المولود في خرقة صفراء ، فلففته في خرقة بيضاء فدفعته إليه ، فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى.
     ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : بأيّ شيء سمّيت ابني هذا؟ ، قال عليّ ( عليه السلام ) : ما كنت لأسبقك باسمه يارسول الله ـ وقد كنت أحب أسميه حرباً _ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وأنا لا أسبق باسمه ربي ( عزّ وجلّ ) ، فهبط جبرئيل وقال : العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول : عليّ منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك ، فسمّ ابنك هذا بابن هارون ،
1 ـ آل عمران : 138.
2 ـ عيون أخبار الرضا 2 : 25.
3 ـ مستدرك الوسائل 2 : 621.
المحسن السبط ::: فهرس