المحسن السبط ::: 131 ـ 140
(131)
ثم قال ابن أبي الحديد : قلت : وهذا الخبر أيضاً قرأته على النقيب أبي جعفر ( رحمه الله ) فقال : إذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أباح دم هبّار بن الأسود لأنه روّع زينب فألقت ذا بطنها ، فظهر الحال أنه لو كان حياً لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها ، فقلت : أروي عنك ما يقوله قوم إنّ فاطمة رُوّعت فألقت المحسن؟ فقال : لا تروه عنّي ، ولا ترو عنّي بطلانه ، فإنّي متوقف في هذا الموضع ، لتعارض الأخبار عندي فيه.
     أقول : وإذا كان النقيب أبو جعفر متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عنده فيه ، فإنّا لسنا من المتوقفين فيه ، بل هو من الثابت عندنا لتواتر الخبر فيه عند الشيعة منذ عصر الحَدَث وحتى يومهم الحاضر ، وقد وردت روايات أهل البيت في ذلك ، بل لقد وردت رواية نبوية تشير إلى وقوع الحدث قبل وقوعه ، وهي في نفسها تكفي في الإثبات ، لأنّها من رواية الأثبات ، وحسبنا أنّها مما رواه ابن عباس ـ حبر الأمة وترجمان القرآن ـ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخرجها الحمويني الشافعي في كتابه فرائد السمطين (1) ، باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان جالساً إذ أقبل الحسن ، فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ يا بني ... ، ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ يا بني ... ، ثم أقبلت فاطمة ... فلما رآها بكى ، ثم قال : إليّ ... ، ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ ... ، فسأله أصحابه عن بكائه ، فقال ـ ثم ذكر ما سيجري على كل واحد منهم فكان مما قاله في حق ابنته فاطمة : ـ وأما ابنتي فاطمة فإنّها سيدة نساء العالمين ... وإنّي لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي ، كأنّي بها وقد دخل الذل بيتها ، وانتهكت حرمتها ، وغُصب حقها ،
1 ـ فرائد السمطين 2 : 34 ـ 35.

(132)
ومنعت إرثها ، وكسر جنبها ، وأسقطت جنينها ، وهي تنادي يا محمد فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية ....
     وهذا الخبر قد مرّ بتمامه قبل هذا في ص 121 فراجع.
     وقد رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسند معتبر عن ابن عباس أيضاً (1) ، كما رواه الفضل بن شاذان في الفضائل (2).
1 ـ راجع الأمالي : 99 ـ 101.
2 ـ الفضائل : 8 ـ 11.


(133)
الباب الثالث
     وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول :
1 ـ وقفة مع المؤرّخين. 2 ـ من ذا سنختار منهم. 3 ـ نظرة في المصادر.
الفصل الثاني :
1 ـ ما هي الأحداث. 2 ـ وقفة عند الأحداث. 3 ـ نتائج الأحداث.
الفصل الثالث :
1 ـ تمهيد. 2 ـ لكل سؤال جواب. 3 ـ نصوص ثابتة.


(134)

(135)
الفصل الأول
    ونقرأ فيه :
1 ـ وقفة مع المؤرّخين.
     وأعني بهم ، كل من روى لنا رواية تتعلق بالحدث ، سواء كان من المؤرّخين الأخباريين ، أو من المحدّثين أهل الحديث.
2 ـ من ذا سنختار منهم؟
3 ـ نظرة في المصادر.


(136)
    1 ـ وقفة مع المؤرّخين :
     والحاجة إليها لا لمحاسبتهم فقط على مواقفهم المتخاذلة في تسجيل الأحداث بصدق كما ينبغي ، وهذا هو جزء من الحساب عليه الثواب والعقاب يوم الحساب ، لكن الذي نقف عنده ونتساءل عنه تلك المعايير المزدوجة في تسجيلهم الأحداث ، وهو الذي يسترعي الإنتباه ، وهذا ما لمسناه عند مؤرخي الوقائع التي صاحبت شهادة ( المحسن السبط السقط ) من قبل ومن بعدُ.
     لذلك هم وحدهم يتحملون وزر ما يذكرون ، ولا يخفّف عنهم إصر التبعات ذكرهم اسناد الروايات ، فإنّ رجال السند أيضاً هم ناس أمثالهم ، فيهم الموثوق بروايته فيروي لنا ما يعرف ، وفيهم غير الموثوق بروايته ، فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف ، عن كل من هبّ ودبّ ، تبعاً لما عنده من أهواء وما لديه من انتماء ، فقد يميل عن سنن الحق وإن تلبس بلباس أهل الصدق ، غير آبهٍ أن يغضب لذلك مَن يغضب ، أو يرضى مَن يرضى ، والمهم عنده إرضاء نفسه وإشباع رغباته ون ـ زواته ، مما شب عليه من موروث.
     وهذه حال الناس في كلّ زمان ومكان ، إلاّ من صَانه الله بورع يحجزه عن اتباع الهوى ، ومهما احتطنا في أخذ الوقائع من كتب المؤرّخين ، سواء من وثّق تسجيله بإسناد ، أو أرسل ذكره ، فإنّا سنختار ثلّة تتفق رواياتهم ولو إجمالاً في أصل ذكر الحَدَث ، وإن اختلفوا في السند أو تفاصيل المتن ، ومن مختلفي الشرائح زماناً ومكاناً.
     كما إنّا سنقف على مجمل أحوالهم من خلال كتب الجرح والتعديل في تراجمهم ، لغرض التوثق في سياق الحجة واستبعاد التهمة عنهم.


(137)
ولا شك ليس كلهم على درجة واحدة في الإعتبار ، ومن ذا الذي يسلم من جرح ، وليس فيهم الأوحدي الذي خلصت سريرته فطهرت سيرته ، وقبلت روايته من دون تهميش بغمز أو بلمز.
     ولمّا كنّا أمام قراءة نصوص تحكي أخبار وقائع حدثت في الصدر الأول من عصر الصحابة ، وكان من رموزها ممّن تبوّأ مكان الصدارة في المجتمع ، بحق أو بغير حق ، بما فيهم من مهاجرين وأنصار الّذين تبوؤا الدار والإيمان ، إلاّ أنّهم أساؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خلافتهم إلى أهل بيته وعترته ، فلم يرعوا له فيهم حقاً ولا حرمة ، فعدوا عليهم بالإساءة وهو بعدُ بين ظهرانيهم ، لم يواروا الجدَثَ حتى أحدثوا الحدث.
     ومن الطبيعي أن يثير سلوكهم ذلك حفائظ الآخرين ممّن لم يزالوا مواظبين ومحافظين على ولائهم لأهل بيت نبيهم ، ولم يشيبوا إيمانهم بظلم أبداً.
     ومن هنا بدأت الفُرقة ، وتشرذمت الكلمة والجماعة ، وهُدّت دعائم الوحدة التي أقامها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمؤاخاة والمفادات.
     وصار التاريخ يروي لهؤلاء ولهؤلاء ، وفي المنقول بعض المعقول والمقبول كما فيه كثير من الهراء والافتراء ، فضاعت بعض الحقائق في ركام التقية لمصلحة المحكومين ، وضاعت أكثر في ضبابية التعتيم السياسي لمصلحة الحاكمين ، وفي إطار من العوامل النفسية العاصفة والمضطربة التي كانت سائدة حينذاك رويت ( قضية السقيفة ) التي هي أساس الفرقة والفجائع ، وما جرى هناك من غرائب الوقائع.
     وكلما ورد من الروايات عن تلك الفترة ، وما جرى فيها من أحداث رواها الرواة ، وسجّلها المؤرّخون ، فهي كما قال عنها الاستاذ عبد الفتاح مقصود المصري في كتابه ( السقيفة والخلافة ) (1) : ( إنك لتلمح في صور هذه الروايات
1 ـ السقيفة والخلافة : 34.

(138)
وأوضاعها ألواناً شتى من الدقائق والتفصيلات لها من ( الحبكة ) ما يظهرها _ لفرط إحكامها وتوثق نسجها _ وهي أشبه بما يقع في الأقاصيص الموضوعة منها بما يكون في واقع الحياة.
     ثم نعثر فيها على ( الصدفة ) التي تطرأ عفواً بلا مقدمات وعلى غير ميقات ، حتى ليوشك من يتحسّسها أن يحسبها قد أقحمت إقحاماً ، لتؤدي دوراً مرسوماً أريد لها أن تؤديه فأدّته بإحكام كما هو مرسوم.
     ثم تجد ( التعاقب الحَدَثي ) الذي ينساب في نسق منتظم طيّع ، إنسياب سلسلة لِدنةتماثلت حلقاتها كل التماثل ، طولاً وعرضاً ، وزناً وحجماً ، لوناً وهيئة ، أصلاً ومعدناً ، فلا تزيد منها حلقة أو تنقص حلقة عن أخواتها الأخريات بمثل ذرة من غبار ، حتى لتظهر حوادثها _ لدقة تواترها وانتظامها _ وهي أدنى إلى ما يجري على مسارح التمثيل.
     وليس من ريب في أنّ الإغراق كل الإغراق في التأليف بين هذه الجوانب والتفصيلات كفيل بأن يصيغها بصيغة الحقيقة ، ولكنها الصبغة التي لا يمكن أن تصنع من الزيف حقيقة.
     وليس أيضاً من ريب في أن الحرص البالغ على أن تبيّن بعض الأحداث المروية أمام الأفهام كأنها طبيعية ، خليق بأن يشي بأنها ليست طبيعية.
     ولسوف نتبيّن من بعد نماذج من ( الحبكة ) و ( الصدفة ) و ( التعاقب الحدثي ) المحكم الإنسياب ، وغيرها من سمات الروايات القصصية التي يدبّجها الابتداع ، واضحة جليّة في الروايات التاريخية التي جاءتنا بالسقيفة على ألسنة رواة الأخبار.
     لكن قطعة الزجاج المصقول المتلألئ ، لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها من مأسي ، وقطعة الماس الغشيم الخام لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها حصاة ، فالحقيقة ثابتة لا تضيع لأنها غير قابلة للذوبان في أحماض الترهات ، ولا للاحتراق في نيران المغالطات ).


(139)
أقول : فعلينا أن لا نتسرع في الحكم رعاية لرضا من يرضى ، أو اغاضة سخط من يسخط ، فلسنا قضاة موقف ، بل علينا أن نستعرض الأحداث بجميع حيثياتها من خلال قراءة رواياتها ، من مصادرها المقبولة لدى الراضي والساخط ، بعد الانتقاء مما شيب بالتلميع أو التشنيع.
     أما اختيارنا لمجموعة المؤرّخين ، فسيكون كما أشرنا من قبل من مختلفي المشارب والمذاهب ، بل وحتى من مختلفي البقاع والاصقاع في الشرق والغرب ، فمن الدينور إلى الأندلس.
     وهؤلاء ليس فيهم جميعاً من الشيعة أحد؛ لأنّهم سرعان ما تتناولهم ألسنة الطاعنين بأسنّة القدح والتجريح ، وأنّهم لا يحتج بهم في المقام لأنّهم رافضة؟!
     ومع كل هذه الحيطة ، لم نعدم زعم الزاعمة ولا تنطع راغم : إنّ المؤرّخ الفلاني لا يعتمد قوله لأنّه يميل إلى الرفض ، كما قيل عن ابن جرير الطبري ، والحاكم النيسابوري ، والمسعودي الشافعي ، وغيرهم.
     بل تتصاعد حمّى التجريح للمؤرّخ إذا روى ما يدين السلف ، ويجرح كبرياء الذات لدى الجارح ، ألم يقولوا عن الشهرستاني صاحب الملل والنحل الذي هو في أشعريته أشهر من أن يذكر ، وأظهر من نار على علم ، قالوا : بأنّه غال في التشيع؟
     والرجل في كتابيه ( الملل والنحل ) و ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) يحمل على الشيعة بلا هوادة ، وأحسب فيما أظن أتاه التجريح لأنّه روى في كتابه ( الملل والنحل ) قول النظام ـ من شيوخ المعتزلة ـ في الهجوم على بيت الزهراء ( عليها السلام ) ، وضربها وإسقاطها المحسن السبط.
     وإن عزّت تلك التهم في إلصاقها بالمؤرخ ، فثمة نفثة تسرب الشك في نسبة المصدر إلى صاحبه؛ ليسقط الكتاب الذي روى الحَدَث عن الإعتبار ما دام لم


(140)
تصح نسبته إلى مؤلفه ، كما قيل ذلك في ابن قتيبة وكتابه ( الإمامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين ) وسيأتي الحديث عنه مفصلاً ، واثبات صحة النسبة في الملحق الثالث في آخر الكتاب.
     وإذا أوصدت أبواب التجريح والشك في وجوه الباغين ، فثمة أبواب التصحيف والتحريف مفتوحة للراغبين ، وهذه الحال تسببت في ضياع كثير من الروايات ذات الدلالة على الإثبات ، كما وقع بعضه في كتاب ( المعارف ) لابن قتيبة ، وسيأتي ما ينفع في المقام في الملحق الثاني في آخر الكتاب.
     وما كان ذلك ليحدث لو كانت الذمم تراقب الله ورسوله وتخشى سوء الحساب ، ولكنّها عمدت وتعمّدت على إخفاء الحقائق انتصاراً لمن حادّ الله ورسوله ، وتضييعاً لمعالم الجريمة ، فضاعت حقائق كثيرة ، وما وصل إلينا فهو فلتة من فلتات الزمان ، وتبقى الإدانة مؤودة في سلة الخيانة :
كم حادث جلل في الكتب نقرؤه فضيّع الحق من يهوى لغير هدى لذي الكتاب وللراوين فيه هوى ومبلغ العذر أقصى ان ندين لمن روى
     فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
المحسن السبط ::: فهرس