المحسن السبط ::: 341 ـ 350
(341)
يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك ، وعُذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة ( عليها السلام ) من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة.
     أقول : إذن كيف يقول العمريون انّ بيعة أبي بكر كانت بالاختيار والإجماع ، وهذا قول أحدهم وهو يذكر الإكراه لمن كان في السقيفة أو كان خارجها حتى ولو كان في بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، فأين الإجماع المزعوم؟!
     النص الثاني : قال (1) : اختلفت الروايات في قصة السقيفة ، فالذي تقوله الشيعة ـ وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه ـ : إنّ علياً ( عليه السلام ) امتنع من البيعة حتى أخرج كُرهاً ، وإنّ الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال : لا أبايع إلاّ علياً ( عليه السلام ) ، وكذلك أبو سفيان بن حرب ، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، والعباس بن عبد المطلب وبنوه ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وجميع بني هاشم.
     وقالوا : إنّ الزبير شهر سيفه ، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم ، قال في جملة ما قال : خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر ، ويقال : إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجراً فكسره ، وساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر ، فحملهم على بيعته ، ولم يتخلّف إلاّ علي ( عليه السلام ) وحده ، فإنّه اعتصم ببيت فاطمة ( عليها السلام ) ، فتحاموا إخراجه منه قسراً وقامت فاطمة ( عليها السلام ) إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه ، فتفرقوا وعلموا أنه بمفرده لا يضرّ شيئاً فتركوه.
     وقيل : إنّهم أخرجوه فيمن أخرج وحمل إلى أبي بكر فبايعه ، وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيراً من هذا (2).
1 ـ المصدر نفسه 2 : 21.
2 ـ تاريخ الطبري 3 : 199 ، وما بعده.


(342)
فأمّا حديث التحريق وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة ، وقول من قال إنهم أخذوا علياً ( عليه السلام ) يقاد بعمامته والناس حوله ، فأمر بعيد والشيعة تنفرد به ، على أنّ جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه ، وسنذكر ذلك.
     النص الثالث : قال (1) : فأما امتناع علي ( عليه السلام ) من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه ، فقد ذكره المحدثون ورواه أهل السير ، وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب ، وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين ، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة.
     فأمّا الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، وأنّه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت ، وأنّ عمر أضغطها بين الباب والجدار ، فصاحت يا أبتاه يا رسول الله ، وألقت جنيناً ميتاً ، وجُعل في عنق علي ( عليه السلام ) حبل يقاد به وهو يعتلّ ، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور ، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان ، وأنّ علياً لما أحضر ساموه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل ، فقال : اذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ، فقالوا : أما عبد الله فنعم وأما أخو رسول الله فلا ، وأنّه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق ، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها ، وبأنّهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة العقبة ، فكلّه لا أصل له عند أصحابنا ، ولا يثبته أحد منهم ، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه ، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله.
     النص الرابع : قال (2) وهو يذكر خبر السقيفة عن الجوهري إلى أن قال : وكثر الناس على أبي بكر ، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم ، واجتمعت بنو هاشم
1 ـ شرح النهج 2 : 59 ـ 60.
2 ـ المصدر نفسه 6 : 11 ـ 13.


(343)
إلى بيت علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير ، وكان يعدّ نفسه رجلاً من بني هاشم ، كان علي يقول : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ بنوه فصرفوه عنّا.
     واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان ، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن ، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة ، فقال : مالي أراكم ملتاثين؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار ، فقام عثمان ومن معه ، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر.
     وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة ، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقال لهم : انطلقوا فبايعوا ، فأبوا عليه ، وخرج إليهم الزبير بسيفه ، فقال عمر : عليكم الكلب ، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم ، وعلي يقول : أنا عبد الله وأخو رسول الله حتى انتهوا به إلى أبي بكر ، فقيل له : بايع ، فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم ، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.
     فقال عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : احلب يا عمر حلباً لك شطره ، أشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً ، ألا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه ، فقال أبو بكر : فإن لم تبايعني لم أكرهك ، فقال أبو عبيدة : يا أبا الحسن إنك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قريش قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً له واضطلاعاً به ، فسلّم له هذا الأمر وارض به ، فإنّك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الامر خليق وبه حقيق ، في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك.


(344)
فقال علي : يا معشر المهاجرين ، الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن ـ أهل البيت _ أحق بهذا الأمر منكم ، أما كان منّا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنّة ، المضطلع بأمر الرعية ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بُعداً.
     فقال بشير بن سعد : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ، ولكنهم قد بايعوا ، وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع ، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع.
     قلت : ـ والقائل هو ابن أبي الحديد ـ : هذا الحديث يدل على بطلان ما يدعى من النص على أمير المؤمنين وغيره ، لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به ، ولم يجر للنص ذكر ، وإنما كان الاحتجاج منه ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقرب ، فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر أيضاً على الأنصار ، ولاحتج به أمير المؤمنين على أبي بكر ، فإنّ هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة ، يدل على أنه قد كان كاشفهم وهتك القناع بينه وبينهم ، ألا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه ، وتمنّع من طاعتهم وأسمعهم من الكلام أشده وأغلظه ، فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره بعض من كان من شيعته وحزبه ، لأنّه لا عطر بعد عروس.
     وهذا أيضاً يدل على أنّ الخبر المروي في أبي بكر في صحيحي البخاري ومسلم غير صحيح ، وهو ما روي من قوله ( عليه السلام ) لعائشة في مرضه : ( ادعي لي أباك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً فإنّي أخاف أن يقول قائل ، أو يتمنى متمنٍ ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) وهذا هو نص المعتزلة.


(345)
النص الخامس : قال (1) : ويقال : انّه ( عليه السلام ) لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه ، وكان يحمل فاطمة ( عليها السلام ) ليلاً على حمار ، وابناها بين يدي الحمار ، وهو ( عليه السلام ) يسوقه ، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ، ويسألهم النصرة والمعونة ، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلّقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافقه منهم إلاّ أربعة : الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان.
     ثم أتاهم من الليل فناشدهم ، فقالوا : نصبّحك غدوة ، فما جاء منهم إلاّ الأربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ، وكان الزبير أشدهم له نصرة ، وأنفذهم في طاعته بصيرة ، حلق رأسه وجاء مراراً وفي عنقه سيفه ، وكذلك الثلاثة الباقون ، إلاّ أنّ الزبير هو كان الرأس فيهم.
     النص السادس : قال (2) : في شرح قول الإمام ( عليه السلام ) :
     اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش ، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي ، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي ، وَأجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي ، وَقَالُوا : أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً ، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً. فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ ، إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي ، فَضَنْنتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى ، وَجَرعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا ، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْم الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَم ِ ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْز ِالشِّفَار.
     واعلم أنّ هذا الكلام قد نُقل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما يناسبه ، ويجري مجراه ، ولم يؤرّخ الوقت الذي قاله فيه ، ولا الحال التي عناها به ، وأصحابنا يحملون ذلك على أنّه ( عليه السلام ) قاله عَقِيب الشّورى وبيعة عثمان ، فإنه ليس يرتاب أحدٌ من
1 ـ المصدر نفسه 11 : 14.
2 ـ المصدر نفسه 11 : 109 ـ 114.


(346)
أصحابنا على أنّه تظلّم وتألّم حينئذٍ ، ويكره أكثر أصحابنا حمل أمثال هذا الكلام على التألّم من يوم السقيفة.
     ولقائل أن يقول لهم : أتقولون إنّ بيعة عثمان لم تكن صحيحة؟ فيقولون : لا ، فيقال لهم : فعلى ماذا تحملون كلامه ( عليه السلام ) ، مع تعظيمكم له وتصديقكم لأقواله؟ فيقولون : نحمل ذلك على تألّمه منهم إذ تركوا الأولى والأفضل. فيقال لهم : فلا تكرهوا قول مَنْ يقول من الشيعة وغيرهم : إنّ هذا الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة ، وحملوه على أنّه تألم وتظلّم من كونهم تركوا الأولى والأفضل ، فإنكم لستم تنكرون أنّه كان الأفضل والأحق بالأمر ، بل تعترفون بذلك ، وتقولون : ساغت إمامة غيره ، وصحّت لمانع كان فيه ( عليه السلام ) ، وهو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر من أنّ العرب لا تطيعه ، فإنّه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي الخلافة؛ لأسباب يذكرونها ويعدّونها.
     وقد روى كثير من المحدّثين أنّه عقيب يوم السقيفة تألّم وتظلّم ، واستنجد واستصرخ ، حيث ساموه الحضور والبيعة ، وأنّه قال وهو يشير إلى القبر : ي ـ « ابْنَ اُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي » (1) وأنّه قال : واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزة لي اليوم!
     وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدّم ، وكلّ ذلك محمول عندنا على أنّه طلب الأمر من جهة الفضل والقرابة ، وليس بدالٍّ عندنا على وجود النصّ ، لأنّه لو كان هناك نصّ لكان أقلّ كلفةً وأسهل طريقاً ، وأيسر لما يريد تناولاً أن يقول : يا هؤلاء إنّ العهد لم يطل ، وإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمركم بطاعتي ، واستخلفني عليكم بعده ، ولم يقع منه ( عليه السلام ) بعد ما علمتموه نصّ ينسخ ذلك ولا يرفعه ، فما الموجب لتركي ، والعدول عني!
1 ـ الأعراف : 150.

(347)
     فإن قالت الإمامية : كان يخاف القتل لو ذكر ذلك ، قيل لهم : فهلا يخاف القتل وهو يعتلّ ويدفع ليبايع ، وهو يمتنع ، ويستصرخ تارة بقبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتارة بعمّه حمزة وأخيه جعفر _ وهما ميّتان ـ وتارة بالأنصار ، وتارة ببني عبد مناف ، ويجمع الجموع في داره ، ويبث الرسل والدعاة ليلاً ونهاراً إلى الناس ، يذكّرهم فضله وقرابته ، ويقول للمهاجرين : خَصَمْتُم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنا أخصِمكم بما خَصَمْتُم به الأنصار ، لأنّ القرابة إن كانت هي المعتبرة ، فأنا أقرب منكم.
     وهلا خاف من هذا الامتناع ، ومن هذا الاحتجاج ، ومن الخلوة في داره بأصحابه ، ومِنْ تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذٍ لمن عقدت له!
     وكلّ هذا إذا تأمّله المنصِف علم أنّ الشيعة أصابت في أمرٍ ، وأخطأت في أمرٍ ، أمّا الأمرُ الذي أصابت فيه فقولها : إنه امتنع وتلكّأ ، وأراد الأمر لنفسه ، وأمّا الأمرُ الذي أخطأت فيه ، فقولها : إنّه كان منصوصاً عليه نصّاً جليّاً بالخلافة ، تعلمه الصحابة كلّها أو أكثرها ، وإنّ ذلك النص خولف طلباً للرئاسة الدنيويّة ، وإيثاراً للعاجلة ، وإنّ حال المخالفين للنصّ لا تعدو أحد أمرين : إمّا الكفر أو الفسق.
     فإنّ قرائن الأحوال وأماراتها لا تدلّ على ذلك ، وإنّما تدلّ وتشهد بخلافه ، وهذا يقتضي أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان في مبدأ الأمر يظنّ أنّ العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة ، وأنّه لم يقصد به إلاّ صرف الأمر عنه ، والاستئثار عليه ، فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته ، إلى أن صحّ عنده ، وثبت في نفسه ، أنهم أصابوا فيما فعلوه ، وأنّهم لم يميلوا إلى هوًى ، ولا أرادوا الدنيا ، وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم ، لأنّه رأى من بغض الناس له ، وانحرافهم عنه ، وميلهم عليه ، وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم ، واحتدام النيران التي كانت في قلوبهم ، وتذكروا الترات التي وترهم فيما قبل بها ، والدماء التي سفكها منهم وأراقها.


(348)
     وتعلّل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنّه ، واستهجانهم تقديم الشباب على الكهول والشيوخ.
     وتعلّل طائفة أخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوّة والخلافة في بيت واحد ، فيجفَخُون (1) على الناس كما قاله من قاله. واستصعاب قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته ، وعلمهم بأنّه لا يداجي ولا يحابي ، ولا يراقب ولا يجامل في الدين ، وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه ، ويعمل بموجب استصلاحه.
     وانحراف قوم آخرين عنه للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لشدّة اختصاصه له ، وتعظيمه إياه ، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالّة على رفعة شأنه وعلوّ مكانه ، وما اختصّ به من مصاهرته وإخوّته ، ونحو ذلك من أحواله معه.
     وتنكر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العُجب والتيه ، كما زعموا ، واحتقاره العرب ، واستصغاره الناس كما عددوه عليه ، وإن كانوا عندنا كاذبين ، ولكنّه قول قيل ، وأمر ذُكر ، وحال نُسبت إليه ، وأعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال تُوهم مثل هذا ، نحو قوله : فإنّا صنائعُ ربّنا ، والناس بعد صنائع لنا ، وما صحّ به عنده أنّ الأمر لم يكن ليستقيم له يوماً واحداً ، ولا ينتظم ولا يستمرّ ، وأنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقاً يكون فيه استئصال شأفة الإسلام ، وهدم أركانه ، فأذعن بالبيعة ، وجنح إلى الطاعة ، وأمسك عن طلب الإمرة ، وإن كان على مضض ورَمَضَ.
     وقد روي عنه ( عليه السلام ) أنّ فاطمة ( عليها السلام ) حرضته يوماً على النهوض والوثوب ، فسمع صوت المؤذّن : أشهد أنّ محمداً رسول الله فقال لها : أيسرّكِ زوال هذا النداء من الأرض! قالت : لا ، قال : فإنّه ما أقول لكِ.
1 ـ يجفخون : يفخرون ويتكبرون ، وهذا ما صرّح به عمر في محاورة له مع ابن عباس.

(349)
     وهذا المذهب هو أقصد المذاهب وأصحّها ، وإليه يذهب أصحابنا المتأخّرون من البغداديين ، وبه نقول.
     واعلم أنّ حال علي ( عليه السلام ) في هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الاسهاب والإطناب ، فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بخمسٍ وعشرين سنة ، وفي دون هذه المدّة تنسى الأحقاد ، وتموت الترات ، وتبرد الأكباد الحامية ، وتسلو القلوب الواجدة ، ويعدم قرن من الناس ، ويوجد قرن ، ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلاّ الأقل.
     فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه ( صلى الله عليه وآله ) ، من إظهار ما في النفوس ، وهيجان ما في القلوب ، حتى إنّ الاخلاف من قريش ، والأحداث والفتيان اللذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم ، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياءً لقصرت عن فعله ، وتقاعست عن بلوغ شأوِه ، فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة ، وسيفه بعد يقطر دماً من مهج العرب ، لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي ـ لو دهمه خطب ـ أن يعتضد ، وعليهم كان يجب أن يعتمد! إذن كانت تدرس أعلام الملة وتنعفي رسوم الشريعة ، وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها ، ويفسد ما أصلحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ثلاث وعشرين سنة في شهر واحد ، فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه ، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.
     أقول : رحم الله من قال عن ابن أبي الحديد : لو أوقف خصوم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين يدي الله للحساب ، ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد.
     وهذا غيض من فيض مما ملأ به كتابه شرح نهج البلاغة ، وهو بحق نعم الشرح ، فهو موسوعة من خيرة الموسوعات التاريخية والأدبية بل وحتى الكلامية ،


(350)
والكتاب على حد قول المرحوم الشيخ كاشف الغطاء كما كتبه بخطه على نسخته الطبعة الحجرية : ( نعم المؤلَّف لولا عناد المؤلِّف ).
     النص السابع : قال ابن أبي الحديد (1) ما يلي ـ وهذا النص حكى فيه ما قاله قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ورد الشريف المرتضى ـ ( رحمه الله ) _ عليه كما ساق في أوله عدّة نصوص من كتاب السقيفة للجوهري ، ونحن نذكر جميع ما ذكره بطوله لغرض اطلاع القارئ على مدى تفانيه في الدفاع عن الشيخين بما لا فائدة معه ـ فقال في شرح كلام الإمام ( عليه السلام ) :
     بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم ٍ ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا ، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا ، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا ، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا ، لاََضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الاَْكْبَرِ ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ.
     واعلم أنّا نتكلّم في شرح هذه الكلمات بثلاثة أقسام :
     القسم الأوّل : فيما ورد في الحديث والسّيَر من أمرِ فَدَك ، والقسم الثاني : في هل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يورّث أم لا؟ ، والقسم الثالث : في أنّ فَدَك هل صحّ كونها نِحْلة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة أم لا؟
     القسم الأول : فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم ، لا مِنْ كتب الشيعة ورجالهم ، لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك ،
1 ـ المصدر نفسه 16 : 208 ـ 285.
المحسن السبط ::: فهرس