المحسن السبط ::: 491 ـ 500
(491)
     وأخرج السيوطي أيضاً في الجامع الصغير نقلاً عن ابن عساكر عن علي مرفوعاً : ( من آذى شعرة منّي فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ) قال المناوي في فيض القدير (1) : أي أحداً من أبعاضي وإن صغر ، كنى به عن ذلك ، كما قال : فاطمة بضعة منّي. وقال : زاد أبو نعيم والديلمي : ( فعليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض ).
     أقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فما دام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك ، فلا عتاب على من اتبع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلعن من عليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض.
     فبماذا يفسر العمريون مجيئ عمر بقبس من نار ليحرق بيت علي وفاطمة ( عليهما السلام ) على من فيه ، فاستنكر بعض أصحاب الضمائر الحيّة ذلك ، فقالوا له : إنّ في الدار فاطمة! قال : وإن ، _ كما مرّ _.
     وهذا أمر ثابت تاريخياً ، مع هذا كله وقد تبجح حافظ إبراهيم في عمريته حيث قال بكل صلف :
وقولة لعلي قالها عمرٌ حرّقت دارك لا أبقي عليك بها ما كان غير أبي حفص يفوه بها أكرم بسامعها أعظم بملقيها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها أمام فارس عدنان وحاميها
     فهل إنّ ذلك كان يرضي الله ورسوله ، لنكفّ ألسنتنا وأقلامنا عن الخوض في تلك الجريمة الشنعاء؟
     أولم تصرخ فاطمة ( عليها السلام ) مستغيثة بأبيها : ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب ؟ أوليس هذا من شدة الأذى الذي لحق بها.
     ألم يخرجوا علياً بأعنف العنف ملببّاً يتلونه تلا ، وأوقفوه حافياً حاسراً بين يدي أبي بكر وقالوا له : بايع ، قال : فإن لم أفعل فهددوه بالقتل ، قال : تقتلون
1 ـ المصدر نفسه 6 : 18.

(492)
عبداً لله وأخا رسوله ؟ فقالوا : أما عبد الله فنعم ، وأما أخا رسوله فلا ، فانعطف إلى قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صارخاً : يابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ؟.
     وهل هذا ليس فيه شيء من الأذى؟ إذن ما هو الأذى الذي يستوجب لعنة الله ملء السماء وملء الأرض؟ ولا شك أنّهم كانوا من الصحابة ، وسمعوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيمن آذى علياً وآذى فاطمة ، فما الجواب؟
     وما داموا هم صحابة فلا شك أنّهم سمعوا قوله تعالى : « إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً » (1) ، فلا ضير على من يلعن من لعنه الله سبحانه في الدنيا والآخرة ، وأعد له عذاباً مهيناً.
     وسؤال ثامن ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل كانت بيعة أبي بكر بالاختيار ، كما يزعم البكريون؟ فلماذا إذن المساومة والرشوة؟ ألم تقل الأنصارية ، وقد ردت ما بعث بها إليها أبو بكر : أتراشونني عن ديني؟ كما مرت الإشارة إليه (2).
     ألم يقل عمر لأبي بكر ، وقد بلغه مجيئ أبي سفيان بن حرب ، وكان جابياً لبعض الصدقات قد بعثه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فعاد بعد موت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاستنكر خلافة أبي بكر وقال : ما بال هذا الأمر في أرذل حي من قريش؟ لأملأنّها خيلاً ورجالاً ، وسماه أبا فصيل تحقيراً له ، فقال عمر لأبي بكر أن يعطيه المال الذي جاء به ليسكت ، وقد تم ذلك ، وزاد بتولية ابنه يزيد بن أبي سفيان أن قال : وصلته رحم ، وهذا كله مذكور في التاريخ.
     ألم يعطوا معاذ بن جبل المال الذي أتى به من اليمن بعد أن ساومه عمر على ذلك (3) ، حتى أصبح معاذ ممن يشار إليه في القضاء؟ لأنهم أخذوا بضبعه.
1 ـ الأحزاب : 57.
2 ـ كنز العمّال 5 : 353 ، نقلاً عن ابن سعد وابن جرير.
3 ـ كنز العمّال 5 : 342 ـ 343 ، نقلاً عن عبد الرزاق وابن راهويه.


(493)
     وسؤال تاسع ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : لقد مرّ بنا مكرراً حديث الفلتة ، وانّ عمر نفسه قال ذلك عن بيعة أبي بكر بأنّها فلتة ، وقد روى ذلك البخاري في باب رجم الحبلى ، ورواه غيره كما مرّ ، ولما كانت الفلتة وفيها شر ولكن وقى الله شرها ، فكيف لصاحب تلك البيعة الفلتة وفيها شر ، الحق بأن يستخلف غيره ، وهي باطلة لما فيها من شر ، وما بني على الباطل باطل؟ وقد سمّاها أحمد أمين المصري ( غلطة ) (1).
     وسؤال عاشر ، وآخر وآخر وتبقى الأسئلة تترى ، ولا جواب على صواب غير المكابرة من الاتباع والأذناب ، الا فمن هو أوّل من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت؟ فليجيبوا على هذا السؤال بفصيح المقال.
     إن المسلم البصير بأمر دينه ، لا يخشى من قراءة تاريخية تكشف له الصفحات المزوّرة ، والأمجاد المفتعلة لشخصيات مهزوزة عقائدياً ومهزومة تاريخياً ، ما دام من حقه النظر بعقل واع ، ومدرك موازين الحق ، فلا يخدعه التقديس الأعمى للموروث ، الذي يخلط الحابل بالنابل ويساوي المظلوم بالظالم ، وآخر دعواه ( عفا الله عما سلف ) وهذه بلية أكثر المسلمين في الأرض ، ولابدّ من إعادة قراءة التاريخ قراءة واعية كي يمكن لنا تلافي ما قرأناه وسمعناه من أخطاء غيّرت كثيراً من المفاهيم الصحيحة ، فأضفينا الشرعية على حكم كل حاكم ظالم ، لأنّا قرأنا حديثاً مكذوباً : أطعه وإن ضربك وأخذ مالك.
     وبالتالي تولى سلاطين الجور والحكام الطغاة ، فأحاطوا أنفسهم بحثالات لا تسوى شروى نقير ، فصاروا يروون لهم ما يشاؤون من أكاذيب تدعم سلطانهم حسب الأهواء والشهوات.
1 ـ قال في كتابه يوم الإسلام : 54 ، فلما مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصل هذا الاختلاف ، فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس ، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى ، ولذلك قال عمر : إنها غلطة ( كذا ) وقى الله المسلمين شرها ، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر.

(494)
     وفيما نحن بصدده لا استغناء لنا عن قراءة التاريخ بصفحاته ، لغربلة ما فيه من كذب فاضح ببصماته ، وادانة من أحدث الانحراف وتنكب الطريق الجدد فابتعد عن الصواب ، فأورد الأمة ـ شارب ـ بوءة ، فثارت الفتن حتى اليوم ، وتوالت المآسي يتبعها بعضها بعض كقطع الليل المظلم ، ولا شك أنه سوف يتحمل وزر فعله ووزر من تابعه وشايعه لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (1).
     وبتحديد المواقف تتضح هوية الأشخاص قرباً وبعداً من الدين ، وهذا أمر طبيعي لمعرفة المحق من المبطل ، وفيصل الحكم انّما هو القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً وتقريراً ، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التخلّي عن هذين العمودين : ( القرآن والسنة ) ومتى تخلّينا عنهما أو عن أحدهما فلسنا بمسلمين عملاً ، وإن كانت بطاقة الهوية فيما يكتب فيها الديانة مسلم ، فذلك لا يجدي يوم القيامة عند الحساب بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
     ولما كان النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) قد جاء برسالة فبلّغها ، وشريعة شرّعها ، وترك أمته على النهج الواضح والطريق المستقيم ، ليس من حق أيّ إنسان تبديل حكم من الأحكام ، ولا تعدي حدّ من حدود الإسلام ، لأنه ( صلى الله عليه وآله ) : « وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى » (2).
     لذلك يجب على من كان مسلماً صحيح العقيدة الإذعان لما جاء به ، قال الله تعالى : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » (3) ، وقال تعالى : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ » (4).
1 ـ المصنف لابن أبي شيبة 3 : 109, وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 8 : 319 ، لمعرفة بقية المصادر.
2 ـ النجم : 3 ـ 4.
3 ـ الحشر : 7.
4 ـ النور : 63.


(495)
     هذا النبي العظيم الذي أنقذ الأمة من حيرة الجهالة إلى نور الحق والعدالة ، لم يسأل أمته أجراً على جهوده وجهاده طيلة ثلاثة وعشرين عاماً ، سوى مودة أهل بيته ، كما قال تعالى : « قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى » (1).
     وأقرب الناس إليه هم أهل بيته : ( علي وفاطمة والحسن والحسين ) الذين جللهم بالكساء ، وفيهم نزلت آية التطهير : « إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (2) ، وعرفوا بأهل الكساء ، وقد روى أبو بكر خبر الخيمة التي ضربها عليهم النبي أمام المسلمين وقال : ( رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ رديء الولادة ) وقد مر هذا برواية المحب الطبري فراجع النص الثامن.
     فماذا كان الموقف المحزن المخزي من المسلمين أزاء أهل بيته أولئك؟ ومَن هو أول من أسس أساس الظلم عليهم ، وبنى عليه بنيانه؟ ألم يكن أبو بكر هو الذي قال لعمر : إئتني به ـ بعلي ـ بأعنف العنف؟ ألم يكن هو الذي قال لعمر : فإن أبوا فقاتلهم؟
     ألم يكن هو الذي ندم بعد ما اقترف في حق أهل البيت ، وذلك عند حضور أجله ، فقال في مثلثاته وقد مرّ ذكرها وذكر مصادرها وفيها : ( ليتني لم أكشف عن بيت فاطمة وإن اشتمل على حرب ).
     ألم يكن هو الذي كان ينضض بلسانه عند موته ويقول : ( هذا الذي أوردني الموارد ) ؟
1 ـ الشورى : 23.
2 ـ الأحزاب : 33.


(496)
     وهل تجدي ليتني؟ قال الشاعر :
ليت وهل تجدي شيئاً ليت ليت شباباً بوع فاشتريت
     وكيف ينفعه الندم بعدما سمعت اذناه ووعاه قلبه ما قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) مِن لعن مَنْ آذى عترته ، وهو ـ أبو بكر _ يقول : ( علي عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ).
     ألم يقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : اشتد غضب الله ، وغضب رسوله ، وغضب ملائكته على من هراق دم نبي وآذاه في عترته (1). ألم يقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (2). ألم يقل ( صلى الله عليه وآله ) : فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني.
     وهنا يقفز إلى الذهن السؤال الطويل العريض :
     هل إنّ فاطمة الزهراء ماتت وهي غضبى على أحد؟ فيكون ذلك فيمن غضب الله تعالى عليه ، وغضب عليه رسوله ، ومن غضب الله عليه ورسوله فمأواه جهنم وساءت مصيراً.
     فهل لنا بعد هذا أن نتولّى من أغضب فاطمة ( عليها السلام ) حتى ماتت وهي غضبى عليه؟ والله سبحانه يقول في كتابه : « يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَ ـ ئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أصْحَابِ القُ ـ بُورِ » (3).
     وأخيراً فهل يجوز لعن من آذى فاطمة ( عليها السلام ) لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى والله سبحانه يقول : « إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وأعدَّ لَهُم عَذاباً مُهِينَاً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً » (4).
1 ـ ذخائر العقبى : 39.
2 ـ نفس المصدر : 39.
3 ـ الممتحنة : 13.
4 ـ الأحزاب : 57 ـ 58.


(497)
     ولتكن لدى القارئ صراحة الحق وجرأة الإيمان ، فيجيب ولا يجمجم في الجواب ، ففاطمة الزهراء ( عليها السلام ) جابهت وجبهت الشيخين بذلك حين أتياها معتذرين ، فلم تعذرهما وقالت لهما : أرأيتكما إن حدثتكما حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تعرفانه وتعملان به ؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قالت : فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأشكونكما إليه ، فبكى أبو بكر حتى كانت نفسه تزهق وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليكما في كل صلاة أصليها (1).
     فمن غضبت عليه وضلّت تدعو الله عليه لا يجوز لنا أن نتولاه أيّاً كان ذلك الإنسان.

    مواقف متباينة وأقوال متضاربة :
     قالت عائشة : ما رأيت أحداً كان أصدق منها _ أي فاطمة ـ الا أن يكون الذي ولدها ( صلى الله عليه وآله ) (2).
     وقالت أيضاً : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (3).
     قالت : وكانت إذا دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه (4).
1 ـ راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 13 ـ 14.
2 ـ أخرجه أبو عمر وعنه في ذخائر العقبى : 44.
3 ـ نفس المصدر : 40.
4 ـ ذخائر العقبى : 41 ، خرّجه الترمذي وأبو داود والنسائي.


(498)
     هذا قول عائشة لكن أباها أبا بكر أبى تصديق فاطمة ( عليها السلام ) حين طالبته بفدك بل وطالبها بالبينة.
     روى البلاذري في فتوح البلدان (1) : إنّ فاطمة ( رضي الله عنها ) قالت لأبي بكر الصديق : أعطني فَدَك فقد جعلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ، فسألها البينة ، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشهدا لها بذلك ، فقال : إن هذا الأمر لاتجوز فيه إلاّ شهادة رجل ( وامرأتين ).
     فعش رجباً ترى عجباً ، فاطمة الزهراء بضعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المطهرة المعصومة بنص آية التطهير ، لم يصدّقها أبو بكر ، وقالوا عنه انه الصديق لأنه صدّق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وها هو يغتصب من ابنته فدكاً نحلتها من أبيها ثم يطالبها بالبينة ، فمن هو الكاذب والصادق؟ عائشة أم أبوها؟ ومن هو المحق؟ ومن هو المبطل؟
     ولا نبتعد عن الجواب إذ لا نجانب الصواب ، ما دامت عائشة تشهد على أبيها بما يدينه وهو من عجائب العجاب.
     فقد روى أحمد في مسنده (2) بسنده عن عروة بن الزبير أنّ عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبرته : أنّ فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ، ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، قال : وعاشت بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر.
     والآن هل لسائل أن يقول لأبي بكر ومن شايعه : ما دمت لا تعترف لفاطمة ( عليها السلام ) بالعصمة والطهارة ، وسألتها البينة ، وأتتك بمن أتتك فلم تقبل منها ، هلاّ قضيت كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين قضى بشاهد ويمين كما في حديث ابن عباس في أول كتاب الأقضية من صحيح مسلم؟
1 ـ فتوح البلدان للبلاذري 1 : 34 ـ 35.
2 ـ مسند أحمد 1 : 34 ، ح25.


(499)
     ثم ما بال النبي ( صلى الله عليه وآله ) خصّك بسماع هذا الحديث؟ ولم يسمعه غيرك ممن هو أولى منك بسماعه ، لأنّه مورد ابتلائه كابنته وأزواجه ، إنها فرية بلا مرية ، وحبكة من غير حنكة ، ومن يقرأ خطبة الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في احتجاجها على أبي بكر في مسألة الميراث ، يبقى مبهوراً أمام تلك البلاغة الفاطمية ، ولا عجب فإنّها لتفرغ عن لسان أبيها ( صلى الله عليه وآله ).
     وقد تقدم شطر من الخطبة فيما نقلناه عن ابن أبي الحديد : في الفصل الثالث : نصوص يجب أن تقرأ بامعان فراجع.
     وإنّ من قرأ الخطبة بتمامها ، تتكشف عنه ضبابية الموروث ، ويدرك أن لا مسوّغ لمسلم يوالي من أغضب فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، وقد ماتت وهي غضبى على الشيخين ، ويعني ذلك أنّها لم تعترف بإمامة أبي بكر.
     والحديث النبوي الشريف : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية يقضي ببطلان إمامة أبي بكر ، لأنّ فاطمة بضعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ماتت وهي لا تقر له إمامته ، بل نازعته مراراً في النحلة والميراث والفيء ، وقد ماتت على ذلك وهي غضبى عليه ، فهل يجرأ مسلم يتفوّه ويقول إنّها ماتت ميتة جاهلية ، كيف وهي بضعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وممن طهرهم الله تعالى من الرجس تطهيراً ، فتكون النتيجة انّ أبا بكر لم يكن إماماً بالحق لتتولاه فاطمة ( عليها السلام ) وتموت على ولائه ، نعم هي كانت ترى إمامة ابن عمها الذي نصّبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم غدير خم علماً وهادياً ، وقد دافعت عنه كثيراً.

    حديث معاشر الأنبياء لا نورّث :
     انّ حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث حديث مكذوب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو القائل : من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار (1).
1 ـ أخرجه البخاري في صحيحه 1 : 29 باب إثم من كذّب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وساق الحديث بأسانيد؛متعددة عن علي والزبير وأنس وسلمة وأبي هريرة وتفاوت في بعض الألفاظ ، وأخرجه في أماكن اُخرى من صحيحه, وأخرجه مسلم في صحيحه 1 : 7 كما في المقدمة ، وذكر حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة بأسانيد مختلفة والفاظ متفاوتة ، وأخرجه ابن ماجه ، وأبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، والدارمي ، والبيهقي ، وابن حبان وآخرون كثيرون, راجع عنهم موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 4 : 524.

(500)
     روى الحديث أبو بكر فقط وفقط ، ثم تتابعت رواة السوء على دعمه في زعمه ، ومهما يكن فلنا أن نسأل من البكريين : ما دام أبو بكر يروي الحديث وطبّقه عملياً مع فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، ما باله لم يعامل ابنته كما عامل فاطمة ( عليها السلام ) في بيتها الذي تملّكته من دون حق تمليك من النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ، وبقيت من بعده تتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم ، حتى انّ أبا بكر وعمر دفنا فيه بعد إذنها ، فهل كان يحق له ذلك؟ وهل كان يحق لها ذلك؟ مع أنّهم جميعاً أجانب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فإن كان البيت ميراثاً وجب استئذان جميع الورثة ، وإن كان صدقة وجب استئذان المسلمين ، وإن كان ملكاً لعائشة كذّبها الحديث المشهور : ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة (1) ولم يرد في حديث : ما بين منبري وبيت عائشة روضة من رياض الجنة.
     إنّها مسائل معضلة ، لمن لا يريد فهم المشكلة ، إنّها الدنيا وقد حليت في أعينهم فراقهم زبرجها ، فارتكبوا كل أمر خطير ، والحساب عسير.
     ولو سلّم المجادل في صحة ما رواه أبوها وقال : يحق لعائشة في بيتها لا من جهة الإرث ، لأنّه لها التسع من الثمن ، ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ملّكها في حياته ، فلماذا لم تطالب هي ولا واحدة من بقية الأزواج ببينة على أنّ البيوت لهنّ نحلة من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما طولبت الزهراء ( عليها السلام ) بالبينة على غلتها ، إنّها مفارقات عجيبة.
1 ـ صحيح مسلم 4 : 123 ، عن أبي هريرة ، وعن عبد الله بن زيد المازني في باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة.
المحسن السبط ::: فهرس