الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك؟ قالا : قد قال ذلك.
قال عمر : فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر : إنّ الله كان خصّ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال بشيء لم يعطه أحداً غيره ، قال الله : « وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ »_ إلى قوله ـ : « قَدِيرٌ » (1) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموها وبثّها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا : نعم ، قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟ قالا : نعم.
ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنتما حينئذٍ _ وأقبل على علي وعباس ـ تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا ، والله يعلم أنّه فيها صادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتى هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعته إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل به فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلّماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما بذلك ، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ فقال الرهط : نعم ، قال : فأقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا : نعم ، قال : أفتلتمسان منّي قضاء غير
1 ـ الحشر : 6.
(512)
ذلك ، فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها فأنا أكفيكماها.
الصورة التاسعة قال البخاري (1) : حدّثنا عبد الله بن محمد ، حدّثنا هشام ، أخبرنا معمّر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال ) قال أبو بكر : والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلاّ صنعته ، قال : فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت.
الصورة العاشرة قال البخاري (2) : حدّثنا إسماعيل بن أبان ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ).
الصورة الحادية عشرة قال البخاري (3) : حدّثنا يحيى بن بكير ، حدّثنا الليث ، عن عُقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان ـ وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي من حديثه ذلك ، فانطلقت حتى دخلت عليه فسألته ـ فقال : انطلقت حتى أدخل على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي وعباس؟ قال : نعم.
قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورث ما تركنا
1 ـ صحيح البخاري 8 : 149 ، كتاب الفرائض باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ).
2 ـ المصدر نفسه 8 : 149.
3 ـ المصدر نفسه 8 : 149.
(513)
صدقة ) يريد رسول الله نفسه؟ فقال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل على علي وعباس فقال : هل تعلمان أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك؟ قالا : قد قال ذلك.
قال عمر : فإنّي أحدّثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله قد كان خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فقال ( عزّ وجلّ ) : « وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ » _ إلى قوله ـ : « قَدِيرٌ » (1) ، فكانت خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثّها حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي منها فيجعله مجعل مال الله ، ففعل بذاك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟ قالا : نعم.
فتوفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك ، فتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها.
الصورة الثانية عشرة قال البخاري (2) : حدّثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنّ أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ ، فقالت عائشة : إليس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ).
1 ـ الحشر : 6.
2 ـ المصدر نفسه 8 : 150 ، نفس الباب السابق.
(514)
الصورة الثالثة عشرة قال البخاري (1) : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، حدّثنا الليث ، حدّثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني مالك بن أوس النصري ـ وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكراً من ذلك فدخلت على مالك فسألته ـ فقال : انطلقت حتى أدخل على عمر أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد يستأذنون؟ قال : نعم ، فدخلوا فسلموا وجلسوا ، فقال : هل لك في علي وعباس فأذن لهما ، قال العباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين الظالم فاستبّا ، فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر.
فقال : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ، قال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك؟ قالا : نعم ، قال عمر : فإنّي محدّثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله كان خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فإنّ الله يقول : « وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ » (2) الآية.
فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، وقد أعطاكموها وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك في حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ فقالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا : نعم.
1 ـ المصدر نفسه 9 : 97 ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم.
2 ـ الحشر : 6.
(515)
ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنتما حينئذٍ _ وأقبل على علي وعباس ـ تزعمان أنّ أبا بكر فيها كذا ، والله يعلم أنّه فيها صادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر.
ثم جئتماني وكلمتكما على كلمة واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه تعملان فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلّماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما بذلك ، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط : نعم.
فأقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا : نعم ، قال : أفتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها.
هذه موارد ذكر الحديث بلفظ ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) تكرّرت أكثر من عشر مرّات ، وأما بلفظ : ( لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ) ورد مرّة واحدة كما مرّ.
وإذا لاحظنا الأسانيد في تلك الموارد ، نجد سبعة منها مدارها على الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، كما في الموارد : 1 ـ 3 ـ 5 ـ 6 ـ 7 ـ 10 ـ 12 ، وخمسة مدارها على الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، كما في الموارد : 2 ـ 4 ـ 8 ـ 11 ـ 13.
وإذا قارنّا بين الروايات نجد التفاوت اللفظي كثيراً مما يغيّر أو يغاير بين المعاني ، مضافاً إلى التضبيب المتعمد من البخاري على ما قاله عمر لعلي وعباس
(516)
في رأيهما في صنع أبي بكر ، والتعبير عن ذلك بكذا وكذا ، بينما نرى معاصره مسلم بن الحجاج أصدق لهجة وحديثاً منه في ذكر ذلك بصراحة تامة في صحيحه ، كما سيأتي.
ثم إنّ البخاري دسّ بأنف أبي هريرة بين تلك الموارد ، فذكر حديثاً في كتاب الفرائض في باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) فقال (1) : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ).
وهذا أخرجه مسلم في صحيحه (2) ، باسنادين توثيقاً للخبر ، ثم ارتقى بأبي هريرة بسند ثالث عنه عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) وهذا فيما يبدو من التدرج من خبره الأول : لا يقتسم ورثتي ديناراً الخ ، حتى روى عين ما رواه أبو بكر ورواه عمر وروته عائشة ، ولا غرابة فهو من الضالعين في ركاب الحاكمين. روايات الحديث في صحيح مسلم :
أورد مسلم الحديث أربع مرّات بأسانيده إلى كل من الزهري عن عروة عن عائشة ، فمرّة في حديثها عن أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أردن أن يبعثن عثمان ....
ومرّتين في حديثها أنّ فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
ومرّة في حديثها أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر.
1 ـ صحيح البخاري 8 : 150.
2 ـ صحيح مسلم 5 : 156.
(517)
وأورده مرّة واحدة باسناده إلى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان في خصومة علي والعباس ، وعطف عليه ثانية مشيراً إليه باسناد آخر (1).
كما أنه لم يخل صحيحه من روايتي أبي هريرة ، كما مرّت الإشارة إلى ذلك قريباً.
وكل مرويات مسلم تجدها في كتاب الجهاد والسير في باب حكم الفيء ، وباب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) (2).
وإذا قارنّا بين مرويات مسلم ومرويات البخاري ، فيما اتفقا عليه اسناداً بدءاً من الزهري ، سواء في حديثه عن عروة عن عائشة ، أو حديثه عن مالك بن أوس بن الحدثان ، لا نجد حقيقة الاتفاق بتمام اللفظ والمعنى ، بل نجد التفاوت واضحاً ، ولا نطيل البحث في ذلك ، إلاّ أنّ الذي لا ينبغي التجاوز عنه هو ما جاء في حديث مالك بن أوس عند مسلم من قول عباس : اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ، ولما كان مسلم قد روى الخبر بأسانيد بعضها عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، وقد مرّ الخبر عن عبد الرزاق في المصنف (3) ، وليس فيه قول العباس في علي : هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.
والذي ورد في البخاري في كتاب الاعتصام ـ كما مرّ _ قوله : اقض بيني وبين الظالم ، استبّا. ولما كان ذلك في الفظاعة مما ينمّ عن كذب راويه ، فقد جعل موازنة لما يأتي بعده في نفس الخبر من قول عمر لعلي والعباس : فرأيتماه ـ يعني أبا بكر في قضائه عليهما _ كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إنّه لصادق
1 ـ صحيح مسلم 2 : 53.
2 ـ صحيح مسلم 5 : 151 ط صبيح ، و 2 : 52 ط بولاق.
3 ـ المصنف 5 : 469.
(518)
بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إنّي لصادق بارّ راشد تابع للحق.
وهذا الذي قاله عمر حكاية عنهما في أبي بكر وفيه ، أشدّ فظاعة خصوصاً مع سكوتهما عليه وعدم اعتذارهما منه ، إذ لم يتنصلا مما نسبه عمر إليهما ولم يدفعا عنهما بشيء ، بل سكوتهما ربما أشعر بإصرارهما على ذلك.
وقد تسبب ذلك في إرباك شراح الصحيحين ، ولولا خوف الإطالة لأحطت القارئ خُبراً بذلك ، وحسبي أن أحيله على قراءة ما في شرح النووي لصحيح مسلم (1) ، من أقوال المازري والقاضي عياض مما هو ظاهر البطلان؛ لحملهما على الألفاظ معاني تأباها العقول السليمة بفطرتها.
كما أنّ في فتح الباري لابن حجر ، وارشاد الساري للقسطلاني ، وغيرهما من شروح صحيح البخاري نحو ذلك ، وقد علّق المعلّق على صحيح مسلم (2) قال : قوله : اقض بيني وبين هذا الخ ، كان سيدنا عمر على ما يأتي بيانه في ص 155 دفع صدقته ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة إلى علي وعباس ( رضي الله تعالى عنهما ) على مقتضى طلبهما ، فغلبه عليها علي ، فكانا يتنازعان فيها.
فكان علي كما ذكره البلاذري يقول : إنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول : هي ملك رسول الله وأنا وارثه ، فكانا يتخاصمان إلى سيدنا عمر ، وأما ما روي هنا من قول عباس لعلي ، وكذا ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام من قوله : ( اقض بيني وبين الظالم استبّا ) فمما يأبى القلب تصديق صدوره من عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حق ابن عم النبي وصهره ، وكذا رواية مسابتهما في خليفة مثل سيدنا عمر بمحضر من سادة الصحابة ( رضي الله تعالى عنهم ).
1 ـ شرح النووي لصحيح مسلم 12 : 71 ـ 76.
2 ـ صحيح مسلم 2 : 152 ، في الهامش.
(519)
ومهما يكن حشرهم وحشدهم فلن يستطيعوا إخفاء الحق ، ومهما يكن من زعمهم انقطاع الشيعة في ذلك ، فهو هراء محض ، ومن ذا الذي لا يقدر على دفع الباطل من الشيعة حتى زعموا انقطاعهم عند المحاججة.
ولمطارفة القراء أذكر لهم ما أشاروا إليه من محاججة الشيخ المفيد مع علي بن شاذان صاحب أبي بكر الباقلاني ، فقد ذكر الآبي الوشتاني ( ت 828 هـ ) في اكمال اكمال المعلم (1) في شرح حديث أبي هريرة : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) قال : مجمع على صحته وقبوله من أهل السنة ، وأنّه اشتمل على جملتين ، والثانية هي قوله : ( ما تركناه صدقة ) ف ـ ( ما ) في موضع رفع بالابتداء و ( صدقة ) الخبر ، وحرّفه الإمامية قالوا : إنّما هو ( لا يورّث ) بالياء ، وما مفعوله ، وصدقة منصوبة على الحال ، وقالوا : إنّ المعنى : إنّ الشيء الذي تركناه صدقة لا يورّث ويورّث غيره ، وهذا خلاف ما فهمه أهل السنة ، وحمله عليه أئمة الصحابة ، ولما نص عليه الصدّيق مما يرفع الإبهام كقوله : كل مال النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدقة ، وقوله في الحديث : إنّا لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ، وكقوله في الحديث قبله : لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركناه صدقة.
وقد اعترض بهذا الهوس أبو عبد الله بن المعلم من الأئمة الإمامية على القاضي علي بن شاذان صاحب القاضي أبي بكر الباقلاني لعلمه بضعفه في العربية ، فقال له ابن شاذان : لا أعلم ما صدقة من صدقة ، ولا أحتاج إلى ذلك في هذه المسأله ، هذه فاطمة وعلي والعباس لا شك عندي وعندك في أنّهم من أفصح العرب ، وأعلمهم بالفرق بين اللفظين ، وهذا أبو بكر من أفصح العالمين بذلك كالثلاثة ، وقد جاء الثلاثة يطلبون الميراث فأجابهم أبو بكر بالحديث ،
1 ـ اكمال اكمال المعلم 5 : 81.
(520)
فسلموا ولم ينازعوا ، فلو كان اللفظ لا يقتضي المنع لم يورده أبو بكر ولم يسلّمه الآخرون ، وأيضاً فالرفع هو المروي ومدعي النصب مبطل.
وهذا الذي ذكره الوشتاني لم يأت فيه بجديد ، بل سبق إلى ذكره من قبل أبو الوليد الباجي المالكي ( ت494 هـ ) فقد ذكر المحاججة بصورة أوسع (1).
ومن الغريب جعلهم عدم ردّ الصديقة فاطمة ( عليها السلام ) ، والإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعمهما العباس ( رضي الله عنه ) على أبي بكر احتجاجه بقراءة الحديث بالرفع دليلاً على صحة القراءة ، ولست أدري لماذا الاستغفال والتعمية؟ ألا يكفي انصرافهم غضابى ، ومقاطعتهم لأبي بكر طيلة حياة فاطمة ( عليها السلام ) فلم يبايع واحد منهم ، أن يكون ذلك دليلاً على عدم قبولهم الحديث جملة وتفصيلاً ، وأما قراءة النصَب والرفع إنّما صار الكلام فيها عند المتكلمين بعد ذلك ، وقد مرّ في كلام الشريف المرتضى ما يتعلّق بالمقام في ردّه على القاضي عبد الجبار ، ونقله عنه ابن أبي الحديد فراجع.
وكم لعلماء التبرير من عناء مرير في التطوير والتحوير ، وبلغ الحال بهم إلى التزوير كما سيأتي نماذج من أقوالهم فيما يتعلّق بأحداث السقيفة وما بعدها ، وحتى إسقاط المحسن السبط فانتظر.
ونعود إلى حديث ( لا نورّث ) فنقول : الذي لا شك فيه أنّ أبا بكر قال ذلك مرّة واحدة في رد مطالبة الزهراء ( عليها السلام ) والعباس في دعوى الميراث ، فما ورد في مصادر الحديث عند العامة في أنّه قال ذلك في رد دعوى النحلة لا يمكن تصديقه ، لأنّ الردّ لا ينفي المدّعى ، ولو أغضينا النظر عن ذلك ، فما هو اللفظ الذي ذكره أبو بكر زاعماً أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاله ، هل ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ) ؟ أو ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ) ؟
1 ـ المنتقى شرح موطأ مالك 7 : 317.