المحسن السبط ::: 521 ـ 530
(521)
     أو ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) ؟ كما مرّ عن البخاري ومسلم.
     أو ( لا نورّث ما تركناه صدقة ) ؟ وقد مرّ أيضاً.
     أو ( لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ) ؟ وقد مرّ أيضاً.
     فبأيّ صيغة قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن صح زعم الزاعم أنّه قال في ذلك شيئاً؟ ولابدّ أن تكون الصيغة واحدة ، إذ لا يعقل أنّه قال ذلك مراراً بصيغ متعددة ولم يسمعها منه غير أبي بكر ، كما لا حاجة بنا إلى اتهام أبي بكر في اتيانه بجميع الصيغ المتعددة ما دام التداعي قد انتهى حين رد الزهراء والعباس عند مطالبتهما له بدعوى الميراث ، وما قيل عنه في رد دعوى النحلة لا يستقيم الاحتجاج به ، كما قلنا إنّ الرد برواية لا نورّث لا ينفي المدّعى.
     ويدلّ على أن تخبّط الرواة من أنصار الخلافة هو السبب في الخلط بين المقامين في التداعي ، والذي يدل على صحة ما قلناه أنه في دعوى النحلة طالب الزهراء ( عليها السلام ) بالشهود ، ولسنا في مقام التبرير أو الإدانة في هذه المسألة ، لكن هل كان من حقه أن يطلب ذلك منها ، وهي صاحبة اليد وهو المدعي ، فعليه هو إقامة البينة على صحة ما يقول.

    خطبة الزهراء ( عليها السلام ) :
     ( فإنّها من محاسن الخطب وبدايعها ، عليها مسحة من نور النبوّة ، وفيها عبقة من أرج الرسالة ، وقد أوردها المؤالف والمخالف ) هكذا قال عنها الإربلي ( ت 692 هـ ) ، وقد أوردها في كتابه كشف الغمة نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة ( 322 هـ ) روى عن رجاله من عدة طرق ، وقد مرّ بنا توثيق الجوهري ، وأنّه عالم محدث ، كثير الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته.


(522)
     وقد روى الخطبة عن عمر بن شبّة ، وهذا أيضاً وثّقه الدارقطني ، وابن أبي حاتم ، والخطيب وغيرهم كما في تهذيب التهذيب (1) ، ومرّ بنا نقل ما قالوه فيه أيضاً ، وذكرنا انّ وفاته كانت في جمادى الآخرةت سنة 262 هـ ، فيعدّ هو أول من وصلت إلينا الخطبة من طريقه في التراث السني ، ومن بعده يأتي ابن طيفور ( ت280 هـ ) فقد رواها في بلاغات النساء (2).
     وثالث القوم ـ بعد عمر بن شبة وابن طيفور _ هو ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) فقد أشار إلى الخطبة في كتابه ( غريب الحديث ) (3) ، فقال : لمّة الرجل من النساء مثله في السنّ. ومنه قيل في الحديث الموضوع؟! على فاطمة رحمها الله : إنّها خرجت في لمّة من نسائها تتوطأ ذيولها ، حتى دخلت على أبي بكر فكلّمته بذلك الكلام. وقد كنت كتبته وأنا أرى أن له أصلاً ، ثم سألت عنه رجال الحديث فقال لي بعض نقلة الأخبار : أنا أسنّ من هذا الحديث وأعرف من عمله.
     أقول : ليت ابن قتيبة سمّى لنا من ذا الذي سأله من رجال الحديث؟
     وما اسم ذلك البعض من نقلة الأخبار الذي قال له هو أسنّ من الحديث؟
     ثم لماذا لم يسمّ له مَن عمله ما دام يزعم معرفته؟
     وأخيراً ما دام قرّ عند ابن قتيبة أنّه موضوع ، معتمداً على مقالة مجهول عن مجهول ، فلماذا استشهد به ما دام موضوعاً؟
     والغريب أن يقول ابن قتيبة ذلك ، ومعاصره ابن طيفور رواه وذكر الخطبة في كتاب ( بلاغات النساء ) وهو كتاب مطبوع ، ثم انّ ابن قتيبة ذكر بعد ما تقدم أنّ
1 ـ تهذيب التهذيب 7 : 460.
2 ـ بلاغات النساء : 14.
3 ـ غريب الحديث 1 : 590.


(523)
فاطمة ( عليها السلام ) قالت بعد موت أبيها ( صلى الله عليه وآله ) :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب فاختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب (1)
     والرابع من الأعلام في التراث السني هو المبارك مجد الدين ابن الأثير ( ت 606 هـ ) فقد ذكر الخطبة في كتابه ( منال الطالب في شرح طوال الغرائب ) (2) كما أشار إليها في النهاية في غريب الحديث (3) ، فقال : في حديث فاطمة ( أنّها خرجت في لمّة من نسائها تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته ) أي في جماعة من نسائها.
     والخامس محمد بن عمران المرزباني رواها باسناده إلى عروة بن الزبير عن عائشة كما في شرح النهج (4) ، كما رواها المرزباني أيضاً باسناده إلى زيد بن علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن آبائه (5).
     السادس وأخيراً من المعاصرين عمر رضا كحالة في كتابه أعلام النساء (6) ، فقد ذكر الخطبة.
     أما مصادر الخطبة في التراث الشيعي فمن الطبيعي أن تفوق ما سبق عدداً ، غير أنّا نكتفي بذكر عدد ما سبق من القدماء.
1 ـ لقد مرّ ما يتعلق بالبيتين ونسبتهما إلى الصديقة إنشاءاً أو إنشاداً. وقد ذكرهما أهل اللغة في ( هنبث ) فراجع النهاية لابن الأثير 5 : 277 ، والفائق للزمخشري 4 : 116 ، ولسان العرب لابن منظور 2 : 199.
2 ـ منال الطالب : 501 ـ 534.
3 ـ غريب الحديث 4 : 273.
4 ـ شرح النهج 4 : 93.
5 ـ المصدر نفسه 4 : 94.
6 ـ أعلام النساء 4 : 116 ـ 123.


(524)
     1 ـ أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي من أعاظم علماء الإمامية في المائة الرابعة ، أخرج الخطبة في كتابه دلائل الإمامة (1) بستة أسانيد تنتهي إلى ابن عباس ، وإلى زينب بنت أمير المؤمنين ، وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن عن آبائه ، وإلى زيد بن علي عن آبائه.
     2 ـ الشريف المرتضى ( ت 346 هـ ) أخرج بروايته عن المرزباني ، وهو رواها من طريقين أحدهما ينتهي إلى عروة بن الزبير عن عائشة ، والآخر عن أبي العيناء عن ابن عائشة البصري ، كما في الشافي (2).
     3 ـ الشيخ الطوسي ( ت460 هـ ) أخرج الخطبة برواية شيخه المرتضى المتقدّم ، ذكره في كتابه تلخيص الشافي (3).
     4 ـ الشيخ الطبرسي ( من أعلام القرن السادس ) روى الخطبة في كتابه الاحتجاج على أهل اللجاج (4).
     5 ـ الشيخ علي بن عيسى الإربلي ( ت 692 هـ ) روى الخطبة في كتابه كشف الغمة (5) ، وهو نقلها عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروء ة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة ( 322 هـ ) كما مرّ. وهناك مصادر أخرى كثيرة ، وقد تناولها جمع بالشروح والتعليق راجع بشأنها كتاب الذريعة.
1 ـ دلائل الإمامة : 31 ـ 39.
2 ـ الشافي : 230.
3 ـ تلخيص الشافي 3 : 139 ـ 145.
4 ـ الاحتجاج على أهل اللجاج : 61 ـ 66.
5 ـ كشف الغمة 1 : 453 ـ 466.


(525)
    موقف الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يومئذٍ :
     لما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد تقدم إلى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بما سيجري عليه من بعده ، وما سيلاقيه من العتاة من غصبهم مقامه ، وأنّ الأمة ستغدر به وتعصي النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أوامره باتباعها له ، وأنّها ستنكر ولايته وإمامته ، وعيّن له ما يجب عليه القيام من بعده إتماماً لجهوده في إقامة دينه ، وأنّ عليه أن يصبر على ذهاب حقه في سبيل الحفاظ على شريعته ، فقد روى أحمد في مسنده (1) ، بسنده عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( انّه سيكون بعدي اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن تكون السَلَم فافعل ).
     وعليه أن يعامل المستحوذين على حقه معاملة المسلمين ما داموا ينطقون بالشهادتين ، وقد جاء في نهج البلاغة (2) : ومن كلام له ( عليه السلام ) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم ، جاء فيه :
     وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة؟ وهل سألت عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أنزل الله سبحانه قوله : « الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ » (3) ، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال : يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يارسول الله ، أوليس [قد] قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علي ، فقلت لي : أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً؟ فقلت : يا رسول الله ليس هنا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ،
1 ـ مسند أحمد 1 : 90.
2 ـ نهج البلاغة 2 : 64 ، الخطبة : 154 ، شرح محمد عبدة.
3 ـ العنكبوت : 1 ـ2.


(526)
وقال : يا علي إنّ القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، فقلت : يارسول الله ، بأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال : بمنزلة فتنة.
     وهذا يوضّح لنا معنى ما ورد في بعض الآثار والأخبار أنّ الناس كفروا وارتدوا بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ ثلاثة (1) ، وفي رواية لابن حجر عن عمرو بن ثابت (2) : إلاّ خمسة ، وليس ذلك بمستغرب الوقوع عند من يقرأ قوله تعالى : « وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » (3).
     وأقوال الرسول الكريم وهو يخاطب صحابته نحو : ( لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) (4). ونحو : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) البخاري ومسلم وغيرهما (5).
     وفي بعض ألفاظ أحاديث الحوض عنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( ليردنّ عليّ الحوض ممن صاحبني إذا رأيتهم ورفعوا إليّ واختلجوا دوني فلأقولنّ : أي رب أصحابي أصحابي ، فليقالنّ لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب اثبات حوض نبينا ( صلى الله عليه وآله ) عن أنس ، وأخرجه أحمد في مسنده (6).
1 ـ الاختصاص للشيخ المفيد : 4.
2 ـ تهذيب التهذيب 7 : 10 ، ترجمة عمرو بن ثابت ، وقد تحامل عليه مترجموه من العامة لأنه قال : لما مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) كفر الناس إلاّ خمسة ، فقالوا فيه ما شاؤوا من تجريح.
3 ـ آل عمران : 144.
4 ـ النسائي 7 : 128.
5 ـ موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 7 : 101.
6 ـ مسند أحمد 5 : 48 و50 عن أبي بكرة و388 ، و393 ، و400 عن حذيفة.


(527)
     وجاء في البخاري في كتاب التفسير آخر سورة المائدة باب قوله تعالى : « وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ » بسنده عن ابن عباس قال : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ... ألا ويجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يارب أصحابي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول كما قال العبد الصالح : « وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » (1) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
     وفي البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض بسنده عن أبي هريرة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيحلؤون عن الحوض ، فأقول : يارب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.
     إلى غير ذلك من عشرات الأحاديث والآثار التي تنطق بوقوع ارتداد بعض الصحابة عن الصراط السوي الذي تركهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليه ، وأمرهم بالتمسك به كما في حديث الثقلين وغيرهم ، ولكن القوم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ، فانقلبوا على الأعقاب ، ونبذوا العترة والكتاب من وراء ظهورهم.
     فلم ير الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلاّ الصبر على ذهاب حقه حفاظاً على بقاء الإسلام والنداء بالشهادتين ، وفي خطبة الشقشقية ما يكشف عن مدى الألم الذي كان يعتصر قلبه بأبي هو وأمي ، فهو أول مظلوم وأول من غصب حقه ، ولما كان ( عليه السلام ) لم يجد العدد الكافي الذي يعينه ، صَبَر على شدة المحنة وطول الأذى ، ولم يكن سكوته عن طلب حقه إلا لقلة الناصر ، وهو القائل : لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم (2).
1 ـ المائدة : 117.
2 ـ مستدرك سفينة البحار 4 : 64 ، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 47 : ( لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ).


(528)
     ولقد كتب إليه معاوية كتابه المشهور جاء فيه اعتراف صريح بأنّ الإمام لم يقعد عن طلب حقه ، وقام بإتمام الحجة على المسلمين يومئذٍ ، فقد جاء في ذلك الكتاب : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله ، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم ... (1).
     وهذا أيضاً ذكره عمرو بن العاص لمعاوية ـ مذكّراً له بشجاعة الإمام ـ بعد منعه الماء في صفين عن الإمام وجيشه ، فقال عمرو :
     خلّ بينهم وبين الماء ، فإنّ عليّاً لم يكن ليظمأ وأنت ريّان ، وفي يده أعنة الخيل ، وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت ، وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ، ومعه أهل العراق وأهل الحجاز ، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول : لو استمكنت من أربعين رجلاً _ فذكر أمراً _ يعني لو أنّ معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت ، يعني بيت فاطمة ( عليها السلام ) (2).
     وكم في أقوال الإمام ( عليه السلام ) من نفثات ألم وبرم من أولئك الغاصبين حقه ، وما سكوته على مضض إلاّ لقلّة الناصر ، والتزاماً بما رسمه له النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يفعله في تلك الحال.
     ولقد وردت عن الإمام ( عليه السلام ) عدّة نصوص تعطينا صورة واضحة عن رأيه في أحداث تلك الفترة وما أعقبها من ملابسات ، وعلى كيفية معالجتها بالأصلح ، اتخذ
1 ـ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي 2 : 47.
2 ـ وقعة صفّين لنصر بن مزاحم : 182.


(529)
قراره في تلك الأزمة الخانقة من التعايش مع الزمرة الحانقة ، إذ لم ير يومئذٍ غير ذلك من الحل المناسب ، فلنقرأ ما يقول ( عليه السلام ) :
     إنّ الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أنّ الصبر أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلاف (1).
     وقال ( عليه السلام ) : ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنّني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخّر عنها الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها ، ولقد بذلت في طاعته ( صلى الله عليه وآله ) جهدي ، وجاهدت أعداءه بكل طاقتي ، ووقيته بنفسي ، ولقد أفضى إليّ من علمه بما لم يفضَ به إلى أحد غيري ، ولقد قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ، ولقد وليت غسله ( صلى الله عليه وآله ) والملائكة أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه ، حتى واريناه صلوات الله عليه في ضريحه ، فمن ذا أحق به منّي حيّاً وميّتاً (2).
     وقال ( عليه السلام ) : لما قبض الله نبيّه وكنّا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه من دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصار الأمر لغيرنا ، وصرنا سوقة ، يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت منّا الأعين لذلك ، وخشيت الصدور ، وجزعت النفوس (3).
1 ـ بحار الأنوار 32 : 62.
2 ـ غرر الحكم للآمدي : 243.
3 ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 : 11.


(530)
     وقال ( عليه السلام ) في جواب الأسدي ، وقد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ، فقال : يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين (1) ، تُرسل في غير سدَدَ ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نَسَباً ، والأشدون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نوطاً (2) ، فإنّها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، والحَكَم الله ، والمعود إليه يوم القيامة ، ودع عنك نهباً صيح في حجراته (3).
     وقال ( عليه السلام ) : اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك ، اللّهم إنّي أول من أناب وسمع وأجاب ، ولم يسبقني إلاّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالصلاة (4).
     إلى غير ذلك من أقواله ( عليه السلام ) التي أوضحت للناس عظيم معاناته ، وفي الشقشقية ، ومثلها في كلامه مع ابن عباس في النخيلة وهو صنو الشقشقية بياناً ولساناً ذكرته في ( موسوعة عبد الله بن عباس ) يفيض ألماً ، وتكاد أحرفه تقطر دماً ، ولم تقصر عن ذلك خطبته التي استعرض فيها حال المسلمين بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإلى أواخر أيام خلافته ، وقد أجاب فيها على مسائل السائلين في مشهد يوم عظيم.
1 ـ الوضين : بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج ، فإذا قلق واضطرب اضطرب الرحل ، فكثر تململ الجمل وقلّ ثباته في سيره.
2 ـ النَوط ـ بالفتح ـ : التعلق.
3 ـ البيت لامريء القيس الكندي ، وتتمته : وهات حديثاً ما حديث الرواحل ، راجع نهج البلاغة شرح محمد عبدة 2 : 79 ـ 80.
4 ـ نهج البلاغة ( شرح محمد عبدة ) 2 : 19.
المحسن السبط ::: فهرس