بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا الاَكرم المبعوث رحمةً للعالمين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين .
إنَّ من المسائل المهمة التي شغلت حَيزاً واسعاً في الفكر الاِسلامي ولم تزل ، هي مسألة (أفعال الاِنسان) ، وبيان نسبة الفعل الصادر عنه ؛ إليه تارةً ، وإلى الله عزّ وجل تارةً ، وإلى الله عزّ وجل والاِنسان معاً تارةً اُخرى . والاِنسان بحكم ما يمتلكه من عقلٍ وتفكير امتاز بهما عن سائر المخلوقات لا يخلو من أن يفكر ـ حال صدور الفعل عنه ـ في نسبته اليه أو إلى غيره .
تُرى ، هل هو الذي هيّأ مقدماتِ الفعل وأسبابه ووسائله وأدواته بتصميم معين وتصور محدد ، ثم أقدم عليه برغبةٍ وعزم واختيار ؟
أو أنه لم يكن قد خطط ولا أعدّ كل هذا ، وإنّما هكذا بلا أدنى سابقة أقْدَمَ على الفعل وتحقّق منه خارجاً ؟
أو أنَّ هناك نسبة بين هذا وذاك ؟
ومن هنا اختلف المسلمون في تلك المسألة فكانت لهم ثلاثة اتجاهات:
فاعتقد بعضهم أنَّ التفسير المناسب لاَفعال الاِنسان هو القول (بالجبر) وذلك لاَجل التحفظ على أُمور في غاية الخطورة لاتصالها بعقيدة المسلم ،
( 6 )
كقدرة الله المطلقة وسلطانه العظيم الواسع ، وكونه عزّ وجل الخالق لكلِّ شيء ولا خالق سواه . مستفيدين هذا بزعمهم من بعض الظواهر القرآنية كقوله تعالى ( واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) وقوله تعالى : ( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ) وغيرها .
وعلى هذا الاَساس فالجبرُ يعني نفي أية نسبة بين الاِنسان وفعله ، لاَنه يكون مسلوب الاختيار في أفعاله ، وإنّ أيّ فعل منه لا يُعدُّ انعكاساً لرغباته وميوله واتجاهاته وما يمتلكه من شخصيةٍ أو ملكات ، إذ ليس له أدنى تأثير في صدور الفعل عنه ، فهو آلة لا غير .
واعتقد آخرون بنقيض ذلك تماماً ، ورأوا أنَّ الحقّ في المسألة هو القول بالاختيار ، وذلك لاَجل التحفظ على أمور أُخرى لا تقل خطورةً عن التي تحفّظ عليها الجبريون ، وهو العدل الالهي ، إذ ليس من العدل أن يُؤاخذ العبد على فعلٍ كان مجبوراً عليه ولا طاقة له في تركه .
فهم يرون أنَّ الله عزّ وجل خلقَ العباد وأوجد فيهم القدرة على الاَفعال وفوّض إليهم الاختيار فيما يشاؤون أو يدعون من أفعال ، وهذا يعني استقلال العبد في إيجاد الفعل على وفق ما أودع فيه من قدرةٍ وإرادة ، وإنّه ليس لله سبحانه أي أثر في فعل العبد الصادر عنه ، إذ لولا استقلاله بالفعل على سبيل الاختيار لَبطُل التكليف ولكان الثواب والعقاب ظلماً . وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الاِفادة من ظواهر القرآن أيضاً كقوله تعالى : (وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤمِنُونَ ) وقوله تعالى : (فَمَن يَعملْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) .

( 7 )
وذهب اتّجاه ثالث إلى أنّ في آيات القرآن الكريم ما يُضاد القول بالجبر صراحةً ، كقوله تعالى : ( كُلُّ امرىءٍ بما كَسَبَ رَهِينٌ ) وقوله تعالى : (إنّا هَدَيناهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِراً وإمَّا كَفُوراً ) وقوله تعالى : ( إنّ هذهِ تَذكِرةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً ) .
وفي آيات اُخرى ما يبطل الاختيار ، كقوله تعالى : ( فَهَزمُوهُم بإذْنِ اللهِ) وقوله تعالى : ( وَمَا كانَ لِنفسٍ أن تُؤمِنَ إلاَّ بإذنِ اللهِ ) .
ولهذا ، فقد اعتقد أصحاب هذا الاتجاه بقول ثالث وسط بين الجبر والاختيار ، وهو ما يعرف ـ أخذاً من كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين هم الاَصل فيه ـ بـ (الاَمر بين الاَمرين) ، وهو في الوقت نفسه لا يمس قضاء الله تعالى وقدره وسلطانه وعدله ، كما يحافظ أيضاً على نسبة الفعل الصادر عن الاِنسان إلى الله تعالى وإلى الاِنسان أيضاً ، وأفادوا من بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى : ( ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِن اللهِ وَمَا أصَابَكَ مَنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَّفسِكَ ) ، فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق وفعل العبد لما صح معنى نسبة الحسنة الصادرة من العبد إلى الله عزّ وجلّ .
وعن الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام : « إنّ الله أرحم بخلقه من أنْ يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ».
وعن الاِمام الصادق عليه السلام : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » .
وعن الاِمام الرضا عليه السلام وقد سمع في مجلسه كلاماً حول الجبر والتفويض فقال : « إنّ الله عزّ وجل لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يُهمِل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ،
( 8 )
فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يَحُل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه » .
وهذا الكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزي القاريء ـ يعالج هذه المسألة بعرض اتّجاهاتها الثلاثة ذاكراً أدلتها ، مناقشاً لها في ضوء النصوص القرآنية والسُنّة المطهّرة ودليل العقل ، ووفق منهج علمي حديث في الموازنة ، حتى ينتهي إلى نتائج علمية .
وإذ يُقدِّم مركز الرسالة هذا الكتاب إلى القرّاء الاعزاء يأمل أن يكون قد أسهم في تقديم الحل المناسب لهذه المسألة المعقدة .

والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم



مركز الرسالة


( 9 )


مقدِّمة الكتاب :

منذ أن وعى الاِنسان القدرة الخلاّقة التي أبدعت الكون بموجوداته المتنوعة ، ثم ارتبط بالمطلق (الخالق الاَحد) بدأ يفكر ، وتقفز إلى ذهنه أسئلة متعددة : هل أني أستطيع التحرك والتصرف بعيداً عن سلطان (الخالق) ؟ وإلى أي حدٍّ أمتلك حريةً واختياراً فيما أفعل أو أدَعْ من الاَشياء؟ هل إني مسيّر مقهور لا أمتلك إرادة الفعل والترك ، أم أنَّ هناك هامشاً معيناً من حرية الاِرادة والاختيار ؟
وإذا كنتُ أمتلكُ قدراً من تلك الحرية والاختيار ، فهل أنَّ ذلك على نحو الاستقلال ، بحيث أستطيع أن أقول : إنّه لا شأن للخالق القادر ولا دخلَ له بما أفعل أو أترك ؟
وإذا كان الاَمر كذلك ، فكيف يستقيم ذلك مع الاعتقاد بهيمنة الخالق وسلطانه وقدرته وعلمه ؟
كانت هذه الاَسئلة وأمثالها تثارُ من قبل الاِنسان سواء كان معتنقاً لدين من الاَديان أم لم يكن .
وعلى مرّ التاريخ الفكري للاِنسان كانت هناك إجابات متنوعة :
فالفلاسفة حاولوا أن يَحلّوا هذه الاِشكاليات وفق مبانيهم ونظرياتهم الفلسفية .

( 10 )
والنصوص الدينية قدّمت إجابات ، بعضها جاء محدداً واضحاً (مُحكماً) وبعضها جاء من قبيل (المتشابه) حثّاً للاِنسان ؛ لكي يفكر ويتأمل ويحصل على قناعةٍ وجدانية ، شريطة أن لا تتعارض مع ما هو (محكم) لا يقبل التأويل .
وأدلى (أهل الكلام) والمهتمون بالعقائد بوجهات نظرهم ، فَبَعضُهم استند إلى ظواهر بعض النصوص ، وأفادَ من الدرس الفلسفي ومن المنطق الشكلي ، فذهب إلى القول بالجبر . فالاِنسان ـ في نظره ـ كريشةٍ في مهب الريح ، ليس له إرادة ولا قدرة ولا اختيار في الفعل أو الترك فـ ( الله خالق كلّ شيء ) .
وبعضهم حاول تلطيف هذه الفكرة وجعلها أكثر قبولاً بابتداع نظرية الكسب . فالاِنسان يكسب الفعل ، والله هو الخالق (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) مع الاختلاف الشاسع في تفسير عملية الكسب !
وذهب قومٌ إلى حرية الاِرادة والاختيار على نحوٍ يشبه الاستقلالية في الفعل أو الترك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
وتميّزت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بالقول الوسط المعتدل بين هذه الآراء ـ التي اتّجهت إما إلى اقصى اليمين (نظرية الجبر) ، أو إلى أقصى اليسار (الاختيار المطلق = التفويض) ـ واشتهرت كلمتهم « لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » في هذه المسألة الشائكة .
وشرح أتباع مدرسة أهل البيت هذا الاَثر ، وتوسعوا فيه وبرهنوا على صحته ، مستفيدين بذلك من النصوص الدينية قرآناً وسُنّة ، ومن تطور الدرس الفلسفي والمعطيات العلمية للحالة الاِدراكية والشعورية للاِنسان .

( 11 )
نعم ، إنّ الاِنسان ليشعر شعوراً قوياً لا يعتريه ريبٌ بأنّه ليس مجرد آلة لا يملك زمامَ نفسه . وهذا الشعور يصاحبه إدراك لهذا المعنى لا يقلُّ في وضوحه وتجلّيه عن درجة الوضوح في ذلك الشعور ، ومع ذلك الشعور يمكن أن يُقال بأنه لا يملك الحرية المطلقة في تصميم مسيرته الحياتية ، سواء في المواقف التي يتخذها أم في إدارته لشؤونه العامة والخاصة ، إذ يدرك الاِنسان بهذا القدر أو ذاك أنَّ كثيراً من الاَُمور تفلت من زمام قيادته ، أو تحدث بخلاف رغبته وإرادته .
وهذا الكتاب يتبنّى بسط وجهات النظر المتباينة في هذا الموضوع المثير ، ومناقشتها ، آخذاً بنظر الاعتبار تبسيط العبارة ، واختصار الطريق إلى تحصيل المعاني الواضحة ، مُعتمِداً أهم المصادر وأوثقها .
وقد تقسم البحث على فصول أربعة : تناول في أولها الحتمية التاريخية والحتمية الكونية .
وتناول في الثاني موقف القرآن الكريم من مسألة (الحتمية) و (استقلال الاِنسان) .
وفي الثالث تناول مذهب أهل البيت (الاَمر بين الامرين) متعرضاً إلى جهات الصراع العقيدي في الموضوع .
وفي الرابع والاَخير تناول دور أهل البيت عليهم السلام في موقع الدفاع عن التوحيد والعدل .
وانتهى الكتاب بخاتمة مناسبة .

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

( 12 )


( 13 )


الفصل الاَول


الحتمية التاريخية والحتمية الكونية

في التاريخ العقلي الفلسفي نلتقي نظريتين تنطلقان من منطلق الحتمية.
إحداهما : تخص السلوك الانساني ، الفردي والاجتماعي خصوصاً .
والاَخرى : تتعلّق بالنظام الكوني عموماً .
فتتجه النظرية الاَولى إلى الاِيمان بحتمية السلوك الانساني وتعطيل إرادة الاِنسان ، وسلب أي دور لارادته في سلوكه .
وتتجه النظرية الثانية إلى تثبيت الحتمية في النظام الكوني بشكل عام ، وتذهب إلى أن الكون كلّه يتحرك ضمن نظام دقيق بموجب قانون العلّية . وهذا النظام يجري ضمن حلقات متسلسلة ، كلّ حلقة منها ترتبط بالحلقة السابقة واللاحقة . ضمن نظام حتمي لا يمكن أن يتغير ولا يمكن أن يتخلف، ولا يمكن ان تتدخل إرادة أحد ـ مهما كان ـ في تغييره . ولو افترضنا أنّنا اطلعنا على رؤوس هذه الحلقات في النظام الكوني العام ، وأمكننا قراءة التسلسل النظامي لحلقات هذا النظام ، أمكننا التنبؤ بكل ما يجري في الكون من الاَحداث إلى أن ينتهي أمد هذا الكون .

( 14 )
وهاتان النظريتان تجريان في كل من الاتجاهين الفكريين المعروفين ؛ الاتجاه الاِلهي ، والاتجاه المادي على نحو سواء .
فإنّ طائفة من الذين يؤمنون بالحتمية في سلوك الاِنسان وتاريخه يؤمنون بالله تعالى ، ويذهبون إلى أنّ مصدر هذه الحتمية هو الله تعالى . بينما يذهب آخرون من الاتجاه المعاكس (الاتجاه المادي) إلى نفس النتيجة من منطلق قانون العلّية أو النظام الفكري الديالكتيكي .
فيذهب كل من هذين الاتجاهين إلى الحتمية في سلوك الاِنسان وتاريخه على نحو سواء .
وكذلك الحتمية الثانية (الحتمية الكونية) لا تختص بهذا الاتجاه أو بذلك الاتجاه . فمن الممكن أن يذهب إلى هذه الحتمية أصحاب الاتجاه المادي أو الاِلهيون .
واليهود من (الاِلهيين) الذين يذهبون إلى هذا الاتجاه في الحتمية الكونية. يقول تعالى : ( وقالت اليهود يَدُ الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) (المائدة 5 : 64) .
كما أنّ في المسلمين طائفة واسعة وكبيرة وهم (الاَشاعرة) يذهبون إلى هذه الحتمية في سلوك الانسان .
والماركسيون من الاتجاه المادي يذهبون إلى هذه الحتمية في تاريخ الاِنسان.

( 15 )
النتائج السلبية لهاتين الحتميتين :
هاتان الحتميتان تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ العقلي للانسان ، كما تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ السياسي للانسان . فإنّ النتيجة التي تؤدي إليها هاتان الحتميتان بالضرورة هي افتراض وجود نظام قاهر في الكون، يمتنع على كلّ تعديل وتغيير وتبديل ، وهو بمعنى تعطيل سلطان إرادة الله تعالى ، وعدم الاعتراف بنفوذ سلطانه تعالى على النظام الكوني . هذا في الحتمية الكونية .
والنتيجة الضرورية التي تؤدي إليها الحتمية السلوكية والتاريخية للانسان هي الاِيمان بتعطيل ارادة الانسان .
وهاتان نتيجتان خطيرتان تترتبان بالضرورة على هاتين الحتميتين .
الاستغلال السياسي للحتمية التاريخية :
وقد وقع كل من هاتين الحتميتين في موضع الاستغلال السياسي من قبل الحكام والاَنظمة بشكل واسع .
فإنّ الاِيمان بالحتمية التاريخية والسلوكية يعطّل دورالاِنسان الفاعل وإرادته في تغيير ظروفه المعيشية وتاريخه السياسي ، ويحولّه من عنصر فاعل ومؤثر في تغيير حركة التاريخ ، وتغيير ظروفه الاجتماعية والمعيشية إلى عنصر عائم في تيار التاريخ والحياة ، يجري حيث يجري التيار .
وهذا النوع من التفكير ينفع الاَنظمة السياسية الاستبدادية عادة .
فلا تكاد تبرز معارضة ظاهرة للنظام السياسي ، في وسط اجتماعي
( 16 )
يؤمن بالتقدير والحتمية والجبر بهذه الصورة .
ولهذا السبب تلقى النظرية الحتمية في التاريخ تأييداً ودعماً من الاَنظمة المعروفة بالاستبداد السياسي غالباً . ويشجع الحكام هذا التوجه الفكري في مسألة القضاء والقدر ليأمنوا من غضب الناس وثورتهم واعتراضهم.
فلا مجال للغضب والسخط والاعتراض لاَحد ، إذا كان ما يجري من الظلم وسفك الدماء يجري بقضاء الله وقدره ، ولم يكن لاَحد من الناس قدرة في تغييره وتعديله .
بنو أُميّة والحتمية السلوكية والتاريخية :
والمعروف أنّ بني أُميّة كانوا يتبنّون الاتجاه الجبري في تفسير التاريخ والسلوك ويوجهون مايمارسونه من ظلم وتعسف واضطهاد وسلب لبيت المال وحقوقه بأنّ ذلك من قضاء الله تعالى الذي لا رادَّ لقضائه ولا يحق لاَحد أن يعترض عليه ، ولا يملك أحد أن يصد عنه .
وكان الحسن البصري يميل إلى مخالفة بني أُميّة في مسألة (القدر) ويرى أنّ الناس أحرار في تقرير مصيرهم ، وليس عليهم قضاء حتم من الله تعالى ، وكان يجاهر برأيه هذا أحياناً ، فخوّفه بعضهم بالسلطان .
روى ابن سعد في الطبقات عن أيوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرة ، حتى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود (1).

____________
(1) طبقات ابن سعد 7 : 167 .

( 17 )
والسلطان الذي كان يحكم الناس في عهد الحسن البصري هو سلطان بني أُميّة . ومن هذه الرواية التاريخية يظهر أنّ بني أُميّة كانوا يتبنون مذهب الحتمية التاريخية والسلوكية إلى حدود الارهاب والتعسف .
ومن عجب أنّ أئمّة الشرك كانوا يوجّهون شركهم بالله وعبادتهم للاَوثان ودعوتهم إليها بمثل هذه الحتمية .
يقول تعالى عن لسانهم : ( وقالوا لو شاء الرحمن ماعبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون ) (الزخرف 43 : 20) .
الاستغلال السياسي للحتمية الثانية :
وكما كان للسياسة دور في استغلال دور الحتمية الاُولى ، كذلك استغلت الحتمية الثانية استغلالاً واسعاً... فإنّ الحتميّة الكونيّة تؤدي بشكل قهري إلى عزل سلطان الارادة الاِلهية عن الكون . ولا ينافي ذلك الاِيمان بأنّ الله تعالى هو خالق هذا الكون ، فقد كان اليهود يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون . الا أنـّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الكون يجري ويتحرك بعد أن خلقه الله تعالى ضمن نظام قهري قائم على أساس الاَسباب والمسببات ، دون أن يكون لله تعالى أيّ دور في تدبير وادارة الكون ، وبتعبير آخر كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون دون أن يكون له دور في تدبير الكون ، ودون أن يكون مهيمناً عليه ، بينما يؤكد القرآن على صفة الخلق ، والهيمنة ، والتدبير لله تعالى جميعاً ، وفي وقت واحد .
وبقدر ما يضعف في نظر الانسان ، سلطان الله ونفوذه وتأثيره الفعلي
( 18 )
في الكون تضعف علاقته وارتباطه بالله .
وبقدر مايضعف إيمان الاِنسان بسلطان الله ونفوذه وتأثيره المباشر الفعلي في الكون ، تضعف علاقته بالله ، وبقدر ما تضعف علاقته وارتباطه بالله يضعف هو ، ويضعف حوله وقوته ومقاومته .
وبالعكس ، كلّما يزداد إيمانه بالله تعالى وبتأثيره وهيمنته وسلطانه الفعلي على الكون يزداد ارتباطه بالله وتتوثق علاقته به تعالى . وكلّما توثقت علاقته بالله يزداد قوة وحولاً ، حيث يتصل حوله وقوته بحول الله وقوته ، وتزداد مقاومته وأمله .
وهذا أمر يهم الحكام والاَنظمة التي تحكم الناس بالارهاب والاستبداد بطبيعة الحال . هذا أوّلاً .
وثانياً : هذا التصور للحتمية الكونية يعمّق الاحساس بدور المادة والاَسباب المادية في نفس الاِنسان وعقله أكثر من قيمتها الحقيقية . ويُضعف دور الغيب في نفس الاِنسان ووعيه ، ويسطّح الايمان بالغيب في نفس الاِنسان دون قيمته الحقيقية ودوره الحقيقي ، بعكس ما يصنعه القرآن .
ففي القرآن نجد اهتماماً كبيراً بالاِيمان بالغيب ومحاولة تعميق هذا الايمان وتثبيته وترسيخه في النفس ، في الوقت الذي لا ينتقص القرآن دور المادة وحجمها في الكون ، في طائفة واسعة من الآيات .
وللاِيمان بالغيب تأثير كبير في طريقة تفكير الانسان ، ومنهج حركته ، وفي طموحاته وآماله ، وبالتالي في تحركه وقدرته على تحمل ومواجهة
( 19 )
الصعاب والمتاعب والتحديات .
وإضعاف الاِيمان بالغيب وتسطيحه وترسيخ الاِيمان بالمادة وتعميقها بأكثر من قيمتها الحقيقية يضعف دور الاِنسان وفاعليته وحركته ، ويؤثّر بصورة مباشرة على طريقة تفكيره .
ويحكي القرآن الكريم عن اليهود الايمان بالحتمية الكونية بهذه الصورة المطلقة ، وسلب كل نفوذ وسلطان لارادة الله تعالى في تغيير مسلسل الاَحداث الكونية والتاريخية بالشكل الذي تفرضه الحلقات المتقدمة لهذا المسلسل . يقول تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) (المائدة 5 : 64).
العلاقة بين الحتميتين :
وهاتان الحتميتان وإن كانتا مختلفتين في الشكل والمضمون إلا أنـّهما تلتقيان وتصبّان في تعطيل دور الاِنسان التغييري والقيادي للنظام السياسي والاجتماعي .
فإنّ التغيير يعتمد على أمرين اثنين وهما :
1 ـ إيمان الاِنسان بالله تعالى وحوله وقوته وسلطانه ، وتوكّله على الله تعالى ، وثقته به . فإنّ الاِنسان إذا أوصل حبله بحبل الله ، وحوله بحول الله، وقوته بقوة الله تعالى ، إستمد من الله تعالى حولاً وقوةً عظيمين ، واكتسب أملاً وثقة لاحدّ لهما .
ومن دون أن يصل الاِنسان حبله بحبل الله لا يمكن أن يملك هذا
( 20 )
الاَمل وهذه الثقة مهما كانت قوته وسلطانه وكفاءته . وإذا فقد الاِنسان الاَمل والثقة بالله سبحانه وانقطع حبله عن حبل الله ، ضعف إلى حد بعيد عن المواجهة ، ولن يملك في ساحة العمل والحركة ومواجهة التحديات إلاّ حوله وقوته ، وهو حول ضعيف وقوة محدودة .
والايمان بالحتمية الكونية وسلب سلطان الله تعالى في التأثير والنفوذ في مسلسل أحداث الكون ـ على الطريقة اليهودية ـ يفقد الاِنسان هذا الارتباط النفسي بالله تعالى ، ويسلب الاِنسان الثقة والاَمل بالاِمداد الغيبي من جانب الله تعالى في حركته وعمله .
2 ـ إيمان الاِنسان بحرية إرادته وقدرته على تغيير مسلسل (التاريخ) وتقرير مصيره ومصير التاريخ .
وهذا الايمان يمكّن الاِنسان من التحرك والعمل والتغيير ، وبعكس ذلك يفقد الاِنسان القدرة النفسية على التحرك والتغيير إذا فقد هذا الاِيمان وآمن بأنّ تاريخه ومصيره قد كُتب من قبل بصورة حتمية ، ولا سبيل لتغييره وتبديله ، وإنّه عجلة ضمن جهاز كبير يتحرك ويعمل دون أن يملك من أمر حركته وعمله ومن أمر تاريخه ومصيره شيئاً .
وبهذا يتّضح أنّ الايمان بهاتين الحتميتين ، يحجب الاِنسان عن الله تعالى وعن نفسه وإمكاناته ، ويسلبه (الاَمل) و (الحرية) في الحركة والقرار.
وبذلك يتحول الاِنسان إلى خشبة عائمة في مجرى الاَحداث والتاريخ.

( 21 )
وهذا وذاك أمر يطلبه الحكام والاَنظمة التي تحكم الناس بالاستبداد والارهاب.
موقف القرآن من هاتين الحتميتين :
وموقف القرآن من هاتين الحتميتين موقف واضح . ففي الحتمية (التاريخية) و (السلوكية) يقرّر القرآن الكريم بشكل صريح حرية إرادة الاِنسان ومسؤوليته عن أعماله . يقول تعالى :
( إنّا هَدَيناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً ) (الانسان 76 : 3) .
( إنّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلكِنّ النَّاسَ أنفُسَهُم يَظلِمُونَ ) (يونس10:44) .
( قُل يا أيُّها النَّاسُ قَد جَآءكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا ) (يونس 10 : 108) .
( فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (الانسان 76 : 29) .
وفي نفس الوقت يقرر القرآن بشكل واضح مبدأ سلطان إرادة الله تعالى في حياة الاِنسان وتاريخه ، دون أن يلغي ذلك حرية إرادة الانسان .
يقول تعالى : ( وَمَا تَشَآءُونَ إلاّ أن يَشَآءَ اللهُ إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (الانسان 76 : 30) .
( وَمَا تَشَآءُونَ إلاّ أن يَشَآءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (التكوير 81 : 29) .
( قُل إنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهدِي إليهِ مَن أنَابَ ) (الرعد 13 : 27) .

( 22 )
( يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ) (النور 24 : 35) .
( وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَن في الاَرضِ كُلُّهُم جَمِيعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أن تُؤمِنَ إلاّ بإذنِ اللهِ وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلى الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ ) (يونس 10 : 99 ـ 100) .
وهذا التأثير المباشر لسلطان إرادة الله تعالى في حياة الانسان ، وتاريخه إلى جانب حرية إرادة الانسان ، وقراره ، هو المبدأ المعروف بـ(الاَمر بين الاَمرين) الوارد عن أهل البيت عليهم السلام .
وهو مبدأ وسط بين مذهب الجبر الذي يتبناه الاَشاعرة من المسلمين وبين مبدأ التفويض الذي يتبناه المفوّضة .
وسوف نقدم لذلك شرحاً أكثر فيما يلي من أبحاث هذه الرسالة .
وعن الحتمية الثانية يقرر القرآن الكريم بشكل واضح مبدأ نفوذ سلطان إرادة الله تعالى في الكون ، وهمينة الله تعالى الدائمة والمستمرة على الكون.
يقول تعالى : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشَآءُ ) (المائدة 5 : 64) .
ويقول تعالى : ( يَمحُو اللهُ مَايَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ ) (الرعد13: 39) .
دون أن يكون معنى هذا المبدأ الذي يقرّه القرآن إلغاء أو تعطيل مبدأ العلّية والحتمية ، وكل القوانين والاَصول العقلية الناشئة من العلّية . ونحن نجد في القرآن الكريم إلى جانب هذه الآيات طائفة واسعة من كتاب الله
( 23 )
تقرُّ بمبدأ العلّية بشكل واضح ودقيق .
موقف أهل البيت من هاتين الحتميتين :
واجه أهل البيت عليهم السلام عبر التاريخ الاِسلامي انحرافاً فكرياً ، عقائدياً ، لدى طائفة من المذاهب الاِسلامية في فهم حركة التاريخ والكون ، وذلك بتبنّي مذهب الحتمية والجبر في تاريخ الاِنسان وسلوكه ، وتبنّي مبدأ الحتمية في حركة الكون . وكان لرأي الحكام في العصرين ، الاَموي والعباسي ، اللذين عاصرهما أهل البيت عليهم السلام عليهما تأثير في هذا وذاك .
فوقف أهل البيت عليهم السلام موقفاً قوياً ضد هذا الاتجاه وذاك ، وأعلنوا عن رأيهم في حرية إرادة الاِنسان وقراره ، دون أن يعطّلوا دور إرادة الله تعالى في حياة الاِنسان ، وهو ما عبّر عنه أهل البيت عليهم السلام بـ (الاَمر بين الاَمرين) .
روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرّضا عليه السلام بين يدي المأمون ، فقال : يا أبا الحسن الخلق مجبورون ؟ فقال عليه السلام : « الله أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذبهم » . قال : فمطلقون ؟ قال عليه السلام : « الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه » (1).
وروى الصدوق عن مفضل بن عمر عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الاَمرين » (2).
كما أعلن أهل البيت عليهم السلام عن عقيدتهم في الحتمية الثانية : عن محمد
____________
(1) بحار الاَنوار 5 : 56 | 120 .
(2) التوحيد : 362 | 8 باب نفي الجبر والتفويض .

( 24 )
ابن مسلم عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام يقول : « ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الاِقرار له بالعبودية ، وخلع الانداد ، وأنَّ الله يقدّم ما يشاءَ ويؤخّر ما يشاء » (1).
وقد اشتهر نفي هذه الحتمية وتلك عن أهل البيت عليهم السلام بصورة متواترة، وعرف قولهم في نفي الحتمية السلوكية والتاريخية بـ (الاَمر بين الاَمرين) وعرف قولهم في رفض الحتمية الكونية بـ (البداء) .
ومهما يكن من أمر فسوف ندخل بإذن الله تعالى في تفاصيل هذا البحث في ضوء القرآن الكريم في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى .
الحتمية الاَولى :
الحتمية الاَولى تتعلق بسلوك الاِنسان الفردي ، وبتاريخ الاَمم والجماعات البشرية.
والنظريات الحتمية تعم هذا وذاك، أو تختص بالسلوك الفردي حيناً ، وبتاريخ الاِنسان حيناً آخر .
وهذه النظريات تعتمد أحياناً الاِيمان بالله أساساً ومصدراً للحتمية ، وهي النظريات الحتمية الاِلهية .
وتعتمد أحياناً عوامل أُخرى أساساً ومصدراً للحتمية في السلوك الفردي وفي حركة التاريخ ، ويمكن تسمية هذه الطائفة من النظريات بنظريات الحتمية المادية .

____________
(1) الكافي 1 : 147 | 3 باب البداء ـ كتاب التوحيد .

( 25 )
والنظريات التي تعتمد (الحتمية) أساساً في فهم سلوك الاِنسان وتاريخه وتفكيره وتطوره ، عريقة وقديمة في تاريخ الثقافة الانسانية . وتتداخل عوامل كثيرة : دينية وفلسفية وسياسية ، في صياغة هذه النظريات ، ومن الصعب جداً فهم النظريات الحتمية في إطار العلم والفكر فقط دون أن نأخذ بنظر الاعتبار العوامل السياسية والدينية التي ساهمت في بلورة الصيغة الفلسفية لهذه النظريات .
الحتميات الاِلهية في سلوك الانسان :
النظريات الحتمية عند الاِلهيين تتعلق غالباً بالسلوك الفردي للانسان وتتجه إلى نفي إرادة الاِنسان في سلوكه وفعله ، ونفي أي دور أو سلطان للانسان على أفعاله . وهذه النظرية هي المعروفة بـ (الجبر) .
وأشهر المذاهب الاِسلامية التي تؤمن بالجبر هو مذهب الاَشاعرة، أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الاَشعري (المتوفى سنة 330 هـ) وهذا المذهب لا ينفي إرادة الاِنسان وقدرته رأساً ، ولكنّه يرى أنّ فعل الانسان ليس ناشئاً من إرادة الاِنسان وقدرته ، وإنّما هو مخلوق لله تعالى .
وليس للانسان دور في إيجاد العمل وإبداعه ، وإنّما يقتصر دوره على كسب العمل فقط لا إيجاده .
وبذلك يحاول الشيخ الاَشعري أن يجمع في هذه النظرية بين أصلين أساسيين هما : (التوحيد) و (العدل) .
فهو يرى : أوّلاً : أنّ كلّ عمل للانسان مخلوق لله تعالى ، وليس للانسان أي دور في إيجاد العمل وإبداعه وإحداثه ، فإنّ الله تعالى يقول : ( والله
( 26 )
خلقكم وما تعملون
) (1) (الصافات 73 : 69) . وليس للعباد شأن فى أعمالهم وإبداعها ، فإنّ الاِيجاد يختص بالله تعالى في الاَعمال والاَعيان على نحو سواء، وهذا هو مقتضى أصل (عموم التوحيد) على رأي الشيخ الاَشعري .
فهو في الحقيقة يؤمن بمبدأ العلّية ، ولا ينفي أصل العلّية ، ولكنّه يؤمن بأنّ الله تعالى هو علّة لكلّ شيء مباشرةً ، وليس على نحو التسبيب ، فَيُحلّ علّة واحدة محل العلل الكثيرة التي تتطلبها المخلوقات الكثيرة. ويرى أنّ الاعتقاد بأنّ لاِرادة الاِنسان وقدرته دوراً في إيجاد العمل من الشرك الذي تنفيه الآية الكريمة ( والله خلقكم وما تعملون)(الصافات 37 : 96) .
أصل الكسب :
وهذا هو الاَصل الاَول لدى الشيخ الاَشعري . والاَصل الثاني لدى الشيخ الاَشعريهو أصل (الكسب) والتزم به الاَشعري لئلاّ ينتهي به الاَمر إلى (الجبر) وإبطال الثواب والعقاب وارتفاع المسؤولية عن الانسان، وبالتالي لئلاّ يضطر إلى نفي صفة (العدل) عن الله تعالى (4).
فإنّ افتراض نفي كل سلطان ودور للانسان في أفعاله يؤدي بالتالي إلى إبطال الثواب والعقاب معه ، وليس من العدل عقاب العبد على فعل لم
____________
(1) هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بما يُريد الاَشاعرة فهي تتعلق بالحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام والمشركين من قومه . فقال لهم مستنكراً : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) يعني إنّ الله خلقكم والاَحجار التي تنحتونها أصناماً ( وما تعملون ) .
(2) وإن كانوا لا يصرحون بهذا التوجيه الاَخير .

( 27 )
يكن له دور وسلطان في إيجاده بأي شكل .
وقد اختلفت كلمات الاَشاعرة في توجيه وتفسير (الكسب) . ومن أفضل من حاول توجيه الكسب من متكلّمي الاَشاعرة هو أبو بكر الباقلاني، المتكلم المعروف .
وخلاصة رأي الباقلاني في تفسير (الكسب) : إنّ لكل فعل جهتين : جهة الاِيجاد ، وجهة الخصوصية والعنوان الذي جعله الله تعالى مناطاً للثواب والعقاب.
وهاتان جهتان مختلفتان ، ونسبة كل واحدة منهما تختلف عن نسبة الاَخرى.
فالجهة الاَولى : هي (الاِيجاد) وتنتسب إلى الله تعالى، ونسبة الاِيجاد إلى غير الله تعالى من الشرك بالله .
والجهة الثانية : هي العنوان الذي يكتسب به العبد الثواب أو العقاب نحو (الصلاة) و (الصيام) و (الحج) و (الغيبة) و (الكذب)...
وكما لا يجوز نسبة الاَُولى إلى العبد ، لا يجوز نسبة الثانية إلى الله تعالى. وقدرة الاِنسان وإرادته تتعلقان بالثانية فقط دون الاَُولى ، وهي مناط الثواب والعقاب .
وبذلك يتم لهذه المدرسة ـ كما يعتقدون ـ الجمع بين (أصل التوحيد) و (أصل العدل) أو (استحقاق الثواب والعقاب) .
إذن ، للفعل الواحد جهتان اثنتان وليس جهة واحدة . وهاتان الجهتان
( 28 )
متعلقتان لقدرتين مختلفتين ، قدرة الله تعالى وقدرة العبد . ولا ضير في ذلك، فإنّ اختلاف الجهة يبرّر تعدد القدرة التي يتعلق بها الفعل .
مناقشة أصل الكسب :
ولعلّنا لا نستطيع أن نصل إلى أمر محصل واضح عن (الكسب) ، فإنّ هذه العناوين التي يكسبها المكلف هي عين (الاِيجاد) الذي تنسبه الاَشعرية إلى الله تعالى . فلا معنى لاِقامة الصلاة ، وإتيان الحج ، إلاّ إيجاد هذه الاَعمال والحركات التي إذا اجتمعت تعنونت بعنوان الصلاة والحج .
والاَعمال التي هي من قبيل الصوم والتي تتقوم بعدم تناول الاَكل والشرب وسائر المفطرات فحقيقتها (الكف) وهو فعل من أفعال النفس ، شأنها شأن سائر أفعال الجوانح .
و (النية) التي يحاول أن يوجّه بها الشيخ الباقلاني مسألة الكسب، مدعياً أنّ العمل الواحد يختلف حاله من نية إلى نية أخرى ، فالقتل بنيّة العدوان جريمة ، ونفس العمل بعنوان القصاص والحد تكليف شرعي، يثيب الله تعالى به العبد... ونفس الفعل من جانب الله ، ولكن النية التي يوجه بها الاِنسان العمل الصادر عنه هي من جانب الاِنسان ، والثواب والعقاب ليس على أصل القتل فلا علاقة له به ، ولكن على النية التي نواها في القتل... فهذه هي وحدها التي يتحمل مسؤوليتها والتي يقوم بها .
نقول : إذا صحَّ هذا الكلام ، فإنّ النية أيضاً عمل من أعمال الجوانح ، ولا يختلف عمل عن عمل ، ولا أعلم لماذا تصح نسبة النية إلى الاِنسان ولا تصح نسبة أصل العمل . فالعمل عمل ، سواء كان من أعمال الجوارح أو من أعمال الجوانح . وإذا صححنا نسبة النية إلى الاِنسان نفسه ، فلا بأس
( 29 )
علينا بنفس الملاك والتبرير أن ننسب إلى الاِنسان كل عمل يقوم به ، سواء كان من أعمال الجوارح كالصلاة والحج ، أو من أعمال الجوانح كالكف في الصيام بنية الصيام.
ومهما يكن من أمر فلا نريد أن نستسهل مناقشة نظرية كلامية أخذت وقتاً طويلاً وجهداً كثيراً من متكلّمي الاِسلام بهذه الطريقة... إلاّ أنـّنا نريد أن نطلّ على هذا الموضوع إطلالة ، ونحيل القارىَ إذا أراد التفصيل إلى مكان هذه الدراسة من الموسوعات الكلامية من قبيل شروح المقاصد والمواقف (1)
الحتميات المادية المعاصرة :
ولا نقصد من النظريات المادية النظريات القائمة على أساس رفض الاِيمان بالله تعالى . وإنّما نقصد بذلك ما يقابل الحتمية الاِلهية التي يتبناها الاَشاعرة من نسبة كل فعل إلى الله تعالى في حياة الاَفراد وفي حركة التاريخ. وهي التي تنسب الحتمية في سلوك الاَفراد والجماعات إلى مصادر أخرى غير الله تعالى .
ومن رواد هذه النظرية في الغرب (منتسكيو) في كتابه (روح القوانين)، و (اشبنكلر) في كتابه (تدهور الحضارة الغربية) ، و (دور كهايم) العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير . ويذهب هذا الاَخير إلى أنّ الحياة الاجتماعية تتقرر بصورة منفصلة عن إرادة الاَفراد ورغباتهم . وتتصف العلاقات والشؤون الاجتماعية من الاَخلاق والمعارف والثقافة
____________
(1) شرح المقاصد ، للتفتازاني ـ وشرح المواقف ، للجرجاني .

( 30 )
الاجتماعية ، واليسر والعسر بثلاث خصال لا تنفك عنها ، وهي : (الخارجية) و (الحتمية) و (التعميم) .
فإنّ الشؤون الاجتماعية بكل تفاصيلها نابعة من عوامل خارجية ، وليست نابعة من داخل الاَفراد ورغباتهم وإرادتهم ، والفرد يقع تحت ضغط الحياة الاجتماعية بصورة قهرية ، كما أنّ الحياة الاجتماعية تقع تحت ضغط العوامل القهرية الموجبة لها وهذه هي (الخارجية) وطبيعة هذه العلاقة بين الاَسباب والمسببات في حركة التاريخ ، وحركة المجتمع (حتمية) لا يمكن أن تتخلف المسببات عن أسبابها ، ولو أنّنا تمكّنا أن نقرأ الاَحداث في حلقات عللها وأسبابها لكنّا نتنبأ بها من دون ترديد وهذه هي (الحتمية) .
والخصلة الثالثة هي (التعميم) فما يحدث في مكان وزمان لابد أن يحدث في كل مكان وزمان إذا توفرت الاَسباب والشروط نفسها .
ومن أشهر الحتميات المادية المعاصرة هي نظرية كارل ماركس ـ فردريك انجلز ، التي تحاول تقنين حركة التاريخ وترحيلها ضمن خمس مراحل عبر عامل الصراع الطبقي بين الطبقة المستثمِرة ، والطبقة المستثمَرة .
إلاّ أنّ هذه النظرية انتكست في بداية ظهورها انتكاسات قوية في مرحلة التطبيق ، وأثبت الواقع خلاف ذلك ، وبقيت هذه النظرية تدرس على الصعيد النظري فقط .